الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسالتان من فيتنام

محمد أيوب

2005 / 5 / 10
الادب والفن


رسالتان من فيتنام
بقلم : د . محمد أيوب
- 1-
أمي العزيزة :
أنا الآن في إحدى القواعد المتقدمة في فتنام ، وقد انتقلنا إلى ميدان القتال الرئيسي فبل فترة ليست بالبعيدة .
المعارك هناك شديدة.. حتى إنني لا أجد متسعا من الوقت لحلاقة ذقني، إنني ومنذ وصولي إلى هذه البلاد أعيش في رعب مطلق ، إن كل أحلامي التي كنت أحدثك عنها ، والآمال العريضة تحولت إلى سراب، أنا الآن أحلم بالهدوء ، أراه في المنام فقط ، فأفرح وأتمنى لو يطول الحلم ، ولكن أصوات إطلاق النار كثيرا ما كانت توقظني من حلم لذيذ، دائما أراكم في أحلامي، ومع ذلك أشعر أنني ربما لن أعيش لأراكم مرة أخرى، إن الرعب يسيطر على كل عضلة من عضلات جسمي ، على الرغم من أن مقاتلاتنا وقاذفاتنا العملاقة تمهد لنا بغاراتها قبل كل هجوم، ومع ذلك ينبثق هؤلاء الشياطين كأنما هم نباتات برية تنشق عنها الأرض فجأة .
إنني أتصور أحد هؤلاء الفيتناميين وهو يغـرس حربته في قلبي فتـكاد صرخة مدوية تنبثق من صدري وحنجرتي ، فأتـدارك الموقف وأكتمها خشية أن يشاع عني أنني جبان، الحقيقة أننا كلنا جبناء أمام الموت ومع ذلك يأبى كل منا أن يعلن عن حقيقته ، الكل يتظاهر بالشجاعة على الرغم من عدم قناعتنا بما نقاتل من أجله ، إن سلامة أمريكا في نظري هي فوق أراضيها لا في فيتنام ، منذ أيام تقدمنا نحو قرية صغيرة ، وكانت طائراتنا القاذفة والمقاتلة قد ألقت حممها فوق السكان . كان علينا أن نقوم بعملية اكتساح للقرية لتطهيرها من أفراد العصابات المتواجدين فيها ، ولكن ما أن اقتربنا من القرية حتى انفتحت النيران علينا وكأننا أمام الجحيم لا أمام قرية صغيرة ، أخذ زملائي يتساقطون من حولي ، وصيحات الرعب تملأ المكان ، كنت ألتفت حولي فلا أجد للحياة قيمة ، لا أرى إلا الموت والدم والنار ، وأطلق نيران رشاشي بلا وعي وفي أي اتجاه ، كنت أسمع أنين زملائي الجرحى وأصوات الاستغاثة ، ولعل أسوأ ما رأيت تلك الليلة منظر صديقي إدوارد ، فقـد اخترقت صدره عدة طلقات.. كان دمه يتدفق بغزارة، وعيناه تشعان ببريق مخيف. كان يطلب شربة ماء، ولكني لم أستطع أن أقدم له أية مساعدة ، فإطلاق الرصاص لا يتوقف، كنت لا أستطيع أن أرفع رأسي ، رسمت علامة الصليب على صدري، ودون وعي مدت يدي إلى جيب سترتي الداخلي ، اصطدمت أصابع يدي بالتميمة التي أعطيتني إياها ، وبالصليب الذي قدمته لي شقيقتي الصغرى إليزابث . رفعت الصليب أقبله، لم يكن المسيح من دعاة الحرب ، كان لا يحب أن يقتل الإنسان أخاه الإنسان ، هذا ما تعلمته في المدرسة ، لكن ما يتعلمه الإنسان شئ وما يمارسه في حياته العملية شئ آخر .
ما أزال أذكر تلك الليلة التي اجتمعت فيها الأسرة بمناسبـة سفري إلى فيتنام ، كنتم قلقين رغم اصطنـاعكم الابتسام ، وأنا كذلك ، كنت أود أن أقول لكم وداعا ، ولكني قلت إلى اللقاء على الرغم من شعوري أنني لن أعود إلى بلدي مرة ثانية.. أعود إلى منظر إدوارد.. دمه ينزف ، وهو يطلب شربة ماء ، كم انحفرت صورته في مخيلتي ، وما إن سقطت القرية حتى انطلق جنودنا يقتحمون المتـاجر والمنازل ، كان كل همي أن أنتقم لإدوارد. لقد قتلوه بدلا من أن يستقبلونا بالورود. لقد جئنا من أجل خلاصهم من الخطر الشيوعي ونشر العدالة، كما أقرأ في نشرات الأوامر اليومية. لكني أعجب وأتساءل : هل يوجد في مجتمعنا الرأسمالي عدالة ؟ إنني أكاد أرى طبقتين فقط.. طبقة تنمو باستمرار .. تنتفخ كروشها وتمتلئ جيوبها وخزائنها بالدولارات، وطبقة تزداد فقرا بل إنها تعاني كل يوم من ازدياد البطالة . هممت مرة أن أسأل القسيس عن العدالة ثم تراجعت .
كنت أتوقع أن يكون لديه الجواب الشافي ، لم أكن أعي حقيقة أنه من الطبقة الأولى . إني لا أكاد أعي شيئا ، لقد استغلق علي فهم حتى أبسط الأمور ، ولكني سأجد جوابا شافيا لكل سؤال يؤرقني، كل ما يهمني الآن أن أنطلق للانتقام لموت أدوارد ، أصبحت الآن كالوحش ، ذقني طويلة ، وأظافري طالت ، كل ما أفعله .. آكل وأطلق الرصاص ، وإذا كان ثمة شئ آخر .. فإنني أرفع زمزميتي وأعب بعض الماء لأقتل الظمأ في نفسي ، ويعود إلى الجبن الذي يعشش في نفسي .. حتى بعد أن اقتحمنا القرية، أخذنا نخرج الرجال من منازلهم..رجال كبار السن، وأطفال لنقتلهم .
أخرجت شيخا وأطفاله الأربعة . قمت بصفهم على الجدار ، نظرت في عيونهم ، ارتجفت مفاصلي أمام نظرات التحدي ، لم يصرخوا طالبين الرحمة كما كنت أتوقع ، لم يخافوا ، أنا خفت منهم ، ركلت الرجل وأصدرت لهم أمرا بجعل وجوههم أمام الحائط .. أطلقت النار ، تركتهم وسط بـركة من الدماء و أسرعت لألحق بزملائي .
مع تحيات ولدك جون


- 2 -
أمي العزيزة :
نحن الآن على مشارف سايجون ، الفيتناميون يضغطون علينا بشدة ، لم تعد قاذفاتنا العملاقة تجدينا شيئا ، إن قواتنا تتراجع باستمرار ، الصواريخ والقذائف تتساقط من حولنا ، إنني أعتقد أن الشعور الذي لازمني منذ غادرتـكم هو شعور حقيقي ، لن أراكم مرة ثانية يا أمي ، إنني أعمل الآن تحت إمرة قائد آخر .. شاب لطيف .. يبدو أنه غير مقتنع بهذه الحرب ، ولعل عدم قناعتنا بها هي التي جعلتنا نتراجع مع كل ما قدمناه من ضحايا، مسكين إدوارد.. لقد ضحي في سبيل أوهام . كان يود أن يرى عالما تسوده الديموقراطية الغربية .. ديموقراطيتنا التي تتمرغ الآن في أوحال فيتنام، إنني لا أكاد أسمع أوامر قائدي المباشر من شدة الانفجارات حولنا، إطلاق الرصاص يتزايد بشكل مخيف ، أه لو تأخرت ولادتي عشر سنوات فقط لما عانيت الآن ما أعانيه،كم هو صعب أن يواجه الإنسان الموت وجها لوجه، أشعر أن ساعتي قد دنت، ومع ذلك أطلق النار، إصبعي يضغط على الزناد وعقلي يفكر بشيء آخر ، سأموت برصاص أحد الفيتناميين ، سينتقمون مني أشد الانتقام، كم قتلت من الأبرياء .. كل ذنبهم أنهم لم يرحبوا بقواتنا ! ترى .. لو جاء الروس إلى بلادنا بنفس الطريقة التي ذهبنا بها إلى فيتنام ... هل كنا نرحب بهم ؟ . لابد أنك كنت ستقولين لي : لست ابني إن لم تدافع عن شرف الولايات المتحدة .
وكذلك الأمهات الفيتناميات لا بد وأنهن يحرضن أبناءهن على الدفاع عن شرف بلادهم حتى لا يتمرغ تحت أقدام جنود الولايات المتحدة،" قلعة الحرية في العالم! "
لا تستغربي من كلامي يا أمي، إن من يكون من الموت على قاب قوسين أو أدني تزول الغشاوة عن عينيه ويرى الحقيقة كل الحقيقة تسطع أمامه سطوع الشمس .. زالت الغشاوة عن عيني ، أكاد أتوقف عن إطلاق النار .. أرغب في رفع قطعة من القماش الأبيض والجري بها نحو الفيتناميين ، لكن من أين لي قطعة القماش الأبيض ؟ إن إطلاق النار يتزايد، قدرتي على التمييز بين الأشياء تضعف ، شعرت بسخونة على فخذي الأيمن..عجبت.. من أين جاءت هذه السخونة؟ توقفت عن إطلاق النار ، مددت يدي إلى مكان السخونة ، هناك سائل لزج .. لابد وأنني جرحت ، تحسست بأصابعي مكان الجرح، إنه واسع وعميق .. اهتز قلبي بشدة . لا بد أنها النهاية، آه لو كنت وجدت القماشة البيضاء.. صورة إدوارد تتراءى أمام عيني .. أين أنت الآن يا إدوارد ؟ أنقذني يا الهي ، لن أعود للقتل مرة أخرى ، ما أصعب أن يموت الإنسان بعيدا عن أهله ووطنه ، وفي سبيل غاية لا يؤمن بها . ما لي أنا ولهؤلاء الفيتناميين ، ليعيشوا كما يشاءون ، وليرتبوا بيتهم بالطريقة التي يريدون ، ألم نرتب بيتنا كما نحب ؟ هل تدخل في شؤوننا أحد ؟.
أظلمت الدنيا أمام عيني .؟ لم أعد أميز الأشياء ، لا أدري كم بقيت من الوقت على هذه الحالة حتى أفقت، وجدت نفسي في غرفة كل ما فيها أبيض يوحي بنظافة فائقة.. ظننت نفسي في نيويورك في بادئ الأمر، ولكن عيون فيتنامية كتلك التي رأيتها عند الجدار تطل علي .. قلقت جدا .. لابد وأنها النهاية ، ولكني عندما نظرت إلى تلك العيون مرة أخرى طالعني وجه ممرضة حسناء ربتت على كتفي وقالت :
- أفقت إذن .. إنك بخير ، لا تقلق .
لم أكن أتوقع أن يكون هؤلاء الناس على هذه الدرجة من الذوق واللطف .. و مع من ؟ يا إلهي كم أنا نادم على ما اقترفته بحق هؤلاء الناس .
أمي العزيزة :
لا تقلقي ، لقد عاملوني معاملة حسنة ، قدموا لي كل وسائل الراحة ، لم يحاولوا أن يذكروني بالحرب أو بشيء يمت إليها بصلة ، قدموا لي بعض الكتب ، قرأت لكتاب أميركيين لم أعرف عنهم شيئا من قبل ، كذلك قرأت شعرا فينتاميـا يفيض بأعذب المشاعر .. بالحب للناس .. للحياة .. للأرض والوطن .. ليت حبنا لبلادنا يكون مثل حب هؤلاء الناس لبلادهم ، لقد بت مقتنعا بعدالة قضية هؤلاء الناس ، لكن قناعتي جاءت متأخرة ، تمنيت لو أني كنت مطلعا أكثر ما كنت تورطت في المجيء إلى هنا ولدافعت عن موقفي بقوة ، حتى ولو دخلت السجن ،
يبـدو أن ما يـدور في ذهني من أفكار بدأ يظهر على ملامح وجهي مما جعل الممرضة تبتسم وتنصحني ألا أشغل بالي بأي شئ آخر وأنني سأكون علي ما يرام خلال مدة قصيرة .
سألتها :
- كيف تسير المعارك في ميدان القتال ؟
ابتسمت ابتسامة من ملك ناصية الزمن :
- لم تعد هناك معارك ، أنت الآن في مستشفى الثورة في مدينة هوشي منه ، لقد غادر جنودكم فيتنام إلى الأبد ، أنت الآن في عداد المفقودين في نظرهم .
ضحكت وقلت :
ليتني أظل مفقودا بهذه الطريقة إلى الأبد .
أقول ذلك من أعماق قلبي يا أمي ، سأظل هنا في فيتنام .. سأحمل الفأس ، وأفلح الأرض ، لم أصبح شيوعيا .. أصبحت مناضلا من أجل السلام والعدل .
مع تحيات
ولدك المخلص جون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غير محظوظ لو شاهدت واحدا من هذه الأفلام #الصباح_مع_مها


.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف




.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب