الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ليلة الرعب..

صباح كنجي

2013 / 7 / 29
سيرة ذاتية


ليلة الرعب ..

الى الصديق رزكار عقراوي ... للمقارنة
بين رعب هذه الليلة فقط وتقاعد الانصار

اليقظة والحذر .. التوتر والقلق .. الخوف والرعب .. مفردات يومية تفرض نفسها في حياة الأنصار ، فشبح الموت الذي يلاحقنا ليل نهار يدفع بنا في كل يوم للمزيد من اليقظة والانتباه إلى حد كنا أحياناً نتحول إلى كتلة حساسة قابلة للاشتعال ، هذا ما كان يخلق المتاعب بيننا .. و شهدنا حالات خصومة مؤسفة في لحظات غضب أدت لخسارة أشجع الأنصار في حوادث كانت نادرة لكنها حصلت ووقعت لا يمكن نكرانها ..
أما الطيران والقصف المدفعي المستمر فكانا أفظعُ وسيلتين لجعلنا نندفعُ لأقصى حالات التوتر بحكم عدم مقدرتنا على مواجهة الخطر ، عكس ما يحدث لحظة المواجهة العسكرية مع الجيش و الجحوش ، حيث يتحول الاشتباك رغم خطورته إلى فرح يرافقه الكثير من المواقف الساخرة والنداءات المضحكة ، لا بل كان هناك من له الاستعداد للرقص في ساحة المعركة .. ناهيك عمن يجيد النكتة .. في اللحظة الحرجة يحول المأساة إلى ملهاة .. وهي حالات لم تكن نادرة في حياة الأنصار بالرغم من صعوبتها وآلامها ..
شخصياً واجهتني الكثير من المواقف الصعبة في عدد من الكمائن والعمليات وحالات من ملاحقة الطيران .. كما واجهتُ صعوبة أثناء النزول والتسلل إلى المدن بسلاح بسيط لا يتعدى المسدس الصغير مع عدد محدود من الرصاصات وسط هول ومخاطر الأجواء البوليسية وقسوة الحرب التي عمقت من إجراءات السلطة ودفعتها لوضع المزيد من نقاط التفتيش والكمائن في داخل المدن وخارجها ، بالرغم من ذلك نخترق تلك المعابر .. نواصل العمل كأننا في نزهة لا يستحضرنا الخوف عندها .. لا اذكر نصيراً امتنع عن تأدية مهمة كلف بها إلا نادراً ..
هكذا تعايشنا مع القلق .. الخوف .. الرعب .. الجوع .. ننتقل من وادي لآخر في سهل الموصل المنبسط .. من قمة جبل إلى أخرى في كردستان على امتداد عقدين من الزمن مرت بنا فيها الكثير من المواقف الصعبة .. حينما أتذكرها يأتيني شريط طويل منها ..
لكن ذاكرتي تتوقف دائماً عند حدث لن أنساهُ .. حدثٌ مررت به في ليلة ليلاء اضطررت فيها بحكم المطر الشديد مع نصيرين رافقوني حينها للجوء إلى أكواخ الرعاة في كلي رمان لنبيت عندهم .. المطر فيها لم ينقطع مما حدا بنا للتوقف والاحتماء بأكواخهم .. الذين كانوا يحتضنونا بفرح ويستقبلوننا بود قل نظيره رغم تعبهم ومعاناتهم في الحصول على المواد الغذائية في ظل الحصار والمنع الذي فرضته السلطة عليهم ..
في ذلك الحين توجهت لكوخ راعي من بري كارة .. كنت أتردد عليه بين الحين والآخر .. يأتي مع غنمه شتاء من قرى كارة التي تتساقط فيها الثلوج إلى منطقة المزوري ويختار كلي رمان مستقراً له ومن ثم يعود في الربيع ..
الراعي الدمث الأخلاق ..لا يتضايق من وجودنا معه .. تكررت زياراتي له ولاقيت نفس الترحيب .. لكن هذه المرة اختلفت الأمر ، بعد أن توجه كل منا نحو كوخ .. قصدت أنا صاحبي الراعي الأعزب الذي تجاوز الخمسة عقود من عمره...
وجدتُ في الكوخ امرأة تبدو عليها ملامح البلادة ، بعد دقائق علمت منه أنها زوجته من شهرين .. هكذا اختصر الموقف ليعلمني انه ليس وحيداً هذه المرة ، حاولت مغادرة الكوخ بعد العشاء لأجل النوم في مكان آخر ، لكنه رفض وأبى أن يتركني قال :..
ـ هي ليلة وتنقضي على عادة الكُرد الطيبين ..
مضى من الوقت ساعتان استمعت إلى حديثه عن الجو .. الغنم .. تذمره من السلطة مع تواصل نفثه للدخان من سكائر اللف واحتساء المزيد من أقداح الشاي التي تقدمها لنا عروسه التي لا تقل عنا شراهة في إشعال المزيد من السكائر .. كنت حينها أقدم لهما بين الحين والآخر سكائر من علبة الدخان التي مالت إلى تدخينها الزوجة مما دفعني لفتح جعبتي وإخراج علبة منها وضعتها تحت تصرفها..
كانت المفاجأة عند حدود العاشرة ليلاً مع اشتداد هطول المطر وحلول الظلام الحالك... في هذه اللحظات بالذات بدأت العروس تنفذ مع دخان السكائر همومها قائلة بتذمر ..
زوجي السابق .. قتله البيشمركة... قتله الظلام .. قبل سنة ترملت .. نعم قتله الكفار..
ـ اف .. اف .. قلت لأستفسر منها .. ومن قتله يا خالة؟... ماذا فعل ليقتل ؟..
كانت الإجابة أفظع مما أتصور .. لم أتوقع أن أواجه موقفاً كهذا حينما قالت مجيبة :..
ـ قتله الشيوعيون .. قتله الكفرة .. تلاشى الزمن بين الكلمات لأسمع بقية جوابها الصاعق والمرعب .. قتله المجرم صباح كنجي .. أخذت تكيل أقذع الشتائم لي ختمتها بسؤال .. هل انتم شيوعيين؟...
كنت في حيرة من أمري وأنا استمع لهذه المرأة المنكوبة وهي توجه لي جريمة قتل زوجها بين مصدق ومكذب لحالها .. لا أستطيع أن احكم أو اجزم على سلامة عقلها فهي تقصُ حالتها بحضور زوجها الجديد وشخصتني مدعية بيقين مؤكد .. أنا القاتل لزوجها كأن الشك يساورها بوجودي... قلت في خطوة أولى لتفادي الحرج ..
ـ لا لسنا شيوعيين .. بل من حزب الشعب جماعة سامي سنجاري وتفادياً لحالة القلق التي انتابتني من احتمال معرفتها بي وان حديثها ليس بريئاً بل مقصود بحكم تشخيصها لي ، قلت مكرراً نحن من الحزب الشعب .. اسمي خالد .. خالد ايسياني .* أخذت تتمتم وتتأوه على زوجها القتيل المفقود كأنها فقدته للتو فيما لاذ الراعي بالصمت .. يستمع لها مثلي وهي تحكي قصة مقتل زوجها على يدي كما تعتقد ..
توقفت متأملا الموقف العصيب .. أخذت أفكر بالأسوء واحتمال مجيء قادم من رفاقي الأنصار أو أي بيشمركة من حزب آخر صدفة ينادي باسمي فيتطور الموقف ويتعقد ، بحثت عن ذريعة لمغادرة الكوخ في ذلك الليل المطير .. لكن الوقت كان قد فات فتوجهت بسرعة إلى الأنصار الذين يرافقوني لأقول لهم:
ـ أنا لستُ صباح بل خالد ايسياني .. إياكم أن تنادوني باسمي .. نحن اليوم من حزب الشعب .. باختصار حسمت الأمر معهم ، عدت للكوخ حيث الراعي وزوجته تحسبتُ لاحتمال غدرها .. قررت البقاء صاحياً دون نوم حتى الصباح. الدقائق تمرُ كدهر .. زادَ من خوفي أن الراعي هو الآخر مسلح ببندقية كلاشنكوف لا يصعب على المرأة الكردية استخدامها .. كذلك وجود طبر حاد لقطع الخشب في متناول يدها بالقرب من المدفأة الخشبية المشتعلة ..
حينما تمددت في فراشي قبيل منتصف الليل خفض الراعي ضوء الفانوس .. أبقى بصيصاً منه للاستدلال عليه عند الحاجة .. أخذت أتقلب في موضعي متحفزاً لأستقبل ضربة طبر أو سحبة أقسام لبندقية توجهها نحوي انتقاماً لزوجها .. كان الرعب كل الرعب يحيط بي كأنني في مقصلة للموت. . مرت لحظات كنت مستعدا فيها لمغادرة الكوخ والبقاء ساهراً تحت المطر بحجة الحراسة ، لكن همس الراعي لزوجته يطلب منها أن تقترب منه ليضاجعها عطل من رغبتي وقراري في مغادرة الكوخ وجعلني أتوقف عن التنفس كي لا افسد عليه لحظة متعة راودته في تلك الساعات التي كان الموت يتسلل إلى مفاصلي وأعماقي وشبح الفناء يطوقني ..
أمَا لهذه الليلة المرعبة من نهاية ؟!!
كأنّ الزمن قد توقف ليجعل نهايتي على يد هذه المرأة الحمقاء الثكلى بزوجها الأول الذي قتلته !.. وقد آن لها لتنتقم مني ، بعد أن دخلت دهليز الموت بقدمي مقدماً رأسي لها ببرود كأني في أجواء حالة انتحار .. ساعات الليل تزيد من رعبي .. مضيتُ فيها حاملا رأسي فوق كفي حتى مطلع الفجر...
من يومها أتساءل مع نفسي متى ؟.. أين ؟ .. كيف ؟ ارتكبتُ تلك الجريمة ؟.. فلا استدل على ما يفيدني ويذكرني بها .. ومن هول مفاجأة المرأة المذكورة لي أسعى لمحو رعب تلك الليلة من ذاكرتي لأتذكر ملامح القتيل الذي لم التقي به ولو مرة ولن التقي به بعد أن رحل وتركني احمل وزر رحيله وأعباء جريمة لا ادري كيف حدثت ؟ .. متى يغادرني طيف تلك الليلة المرعبة ؟ .. لست ادري!..
صباح كنجي
29/7/2013
ــــــــــــــــــــ
ـ الفقيد خالد ايساني من اهالي بوزان سكنت عائلته الكادحة في اسيان كان كادراً نشطاً وشجاعاً في صفوف حزب الشعب اسر من قبل مفارز السلطة وغيب في معتقلات الدكتاتورية ..
ـ مقتطف من حكايا الانصار والجبل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لاينشر كل الغسيل على الحبل!!!
خلف الجنيد ( 2013 / 7 / 29 - 14:54 )
كانت جدتي تقول لي ليس كل الغسيل ينشر على الحبل...فبعضه يجب ان يبقى بعيدا عن الناس لكنك تنشر الغسيل الذي يجب عليك عدم نشره ليس على الحبل في المنزل لكن في الشارع وامام مرآى الناس في الشوارع ولو فعلها غيرك عليك ان تقف لكبحه لكن يبدو انك لاتستفيد من تجاربك وتجارب الاخرين انها مجرد نصيحة رفاقية لنصير مثلك لم يبقى له من كل هذه الدنيا سوى القلم والألم الذي مازال يمتد فينا ...تحياتي صباح


2 - توضيح لابد منه
صباح كنجي ( 2013 / 7 / 30 - 05:52 )
للاسف لم افهم قصدك لا بد وأن خطأ ما قد حدث بسبب استنتاج خاطئ من القراءة السريعة للنص .. عن اي غسيل تتحدث؟ .. انا اتحدث في هذا النص عن حالة وهم لدى امرأة كردية لا اعرفها ولا تعرفني ولم لم التقي بزوجها أو اعرفه .. علما اننا كأنصار شيوعيين وبالذات المفارز التي عملت بها منذ البداية وحتى الانفال لم تصطدم او تتماحك بأي مواطن كردي.. فكيف بتهمة القتل المزعومة لزوجها الذي لا نعرفه ولم نلتقي به.. التي تحدثتُ عنها كحكايا مرت عليّ في ذلك الزمن يا سيد جنيد .. حكاية تركت اثارها العميقة في النفس ليس من الصعب نسيانها حينما تواجه بهكذا موقف وبهذه الحالة .. قل لي اين الخطأ في ذكرها .. واين هو الغسيل الذي كان يجب ان لا ينشر ؟.. بالتأكيد هناك خطأ في الادراك والفهم مع تقدري لحرصك
صباح كنجي


3 - فهمت النص جيدا وافهمك جيدا لكن!
خلف الجنيد ( 2013 / 7 / 30 - 09:35 )
فهمت النص جيدا وافهمك جيدا ،لكن غيرنا لن يفهمك مثلما انت تفهم نفسك، وافهمك انا عندما تطرح موضوع كالذي كتبته عن هذه المرأة .
فات الاوان لان الموضوع قد نُشر. اردت القول إن بعض الاشياء في الحياة يجب ان تبقى كاسرار شخصية لايجوز الاباحة بها مهما امتد الزمن بها. لك ان تاخذ بنصيحتي او لا ،،لكن اعلم ان راسك كما نقول بالشعبي (يابس)عندما تقتنع بشىء حتى إن كان خطأ لاتبدل رايك فيه.. تحياتي من جديد

اخر الافلام

.. رئاسيات موريتانيا: ما أسباب وفاة محتجزين إثر أعمال شغب؟ • فر


.. تونس: ردود الفعل بعد تحديد الرئيس 6 أكتوبر موعدا للانتخابات




.. طارق بن سالم يتسلم مهام منصبه كأمين عام لاتحاد المغرب العربي


.. رئاسيات موريتانيا:المرشح بيرام الداه اعبيد يدعو إلى حوار سيا




.. سقطوا في مجارٍ فوق بعضهم.. حادث تدافع مميت بمراسم دينية في ا