الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذاكرة المكان محَمد خضير في عيون جاستون باشلار

كريم الثوري

2013 / 7 / 29
الادب والفن


ذاكرة المكان
محَمد خضير في عيون جاستون باشلار
في الوقت الذي كنت أقرأ فيه "المملكة السوداء" لمحَمد خضير، كنت أبحث في كتاب جماليات المكان لجاستون باشلار و لاحظت أن صدفة ليست عمياء هي مَن جمعت بين عملاقين ، أحدهما طويت له الأرض فراح يُفتش بشغف الملهوف، عن شيء ثمين مربوط به سر وجوده، ما جعله يُحلق بخُفيّة بين الاقبية والمسالك الضيقة ، يتنقل كالجن وهو يصور حياة كانت هنا ثم سقطت غفلة ، والثاني هو ذلك الشيخ الكَيّس ذو اللهجة الريفية، المحبوب بين تلاميذه و المهتم بدراسة ما يعرف بالظاهراتية ( دراسة بداية الصورة في الوعي البشري، أو ما يعرف بالمعايشة والخيال) أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون . جاستون باشلار
المكان ذات المكان ، والزمان هو المراحل المحروقة في مقدرات الهوامش ، لتعيش اللحظة بكل مجروراتها فتحيل المكان إلى ممكنات تمارس وعيها السفلي فيه ، لتستمر على سبيل خيال ، لذلك ليس من وجه الغرابة أن نجد أبطال سرد "المملكة السوداء " هم ذاتهم أبطال أبحاث "جماليات المكان " مع فارق واحد أن محَمد خضير أخرج مخلوقات الليلية ، من تحت الأقبية والبيوت فاقدة أبسط مستلزمات شروط استمرار الحياة ، وألقاهم في وجوهنا تحت أشعة الشمس ، مخلوقات تضع أكفها على عيونها ، فهي لم تألف الشمس ، وتركها هكذا إلى أن تجف
بينما جاستون راح يُعاينها ويقلبها ذات اليمين وذات الشمال ، ليكتشف البعد الجمالي في "نثر وسرد" لكتاب وشعراء وفنانين " قاموا بتبيض فعاليات هؤلاء المنبوذين تحت الأرض.
العنوانين :
عنوان مجموعة القاص محَمد خضير هو "المملكة السوداء" وعنوان جاستون باشلار هو "جماليات المكان".
لا أدري لماذا سارت خطاي بالتوالي بين سرد وبحث، وكأن الأول كان يُمهد والثاني يبني ، وجدت أن محَمد خضير يغوص في جزئيات وتفاصيل ، مثله مثل الغواص مدموغاً بلذة الاكتشاف والتحرر في لُجة الاعماق ، والثاني من على ظهر السفينة يستقبل الإشارات ، يفككها ويردها بالتحليل الدقيق ، فيعيدها ثانية لمصادرها الأساسية ، وهكذا تستمر لعبة الغوص والتفسير ، لذلك لا غرابة في أن محمد خضير وهو يخوض تجربة " كائنات العتمة" ، هناك في الأعماق ، يسمي تلك المملكة ، بالسوداء ، فيما راح جاستون مأخوذا بغريزة تتبع منابع الخيال ، تلك الطاقة الجمالية المضيئة التي تشتعل في الأعماق والتي لا تستجيب إلاّ حين تلتقي بمنابع الذكريات البِكر، عند تماسها الهستيري ، في أرق مفاصلها ، لذا سُميت تجربته ، بتجربة تحري المنبوذين وهم .يستعيدون عن طريق الخيال، ما انفلت من بين أيديهم غفلة، ليستعيدوا توازنهم ، بجماليات المكان
أن كلاهما " سردا وبحثا " يؤسسان انطلاقا من عامل المكان، (المكان الأسود). صحيح أن محمد خضير تنقل بين بَرٍ وبحر، وهذه سمة من يعيش في مناطق الجنوب، البصرة تحديدا ، والصحيح أيضا أن جاستون لم يكتف بجزئية محمد خضير بل تعداها إلى تجارب أوسع وأبعد تبعا لاختصاصه في البحث والتنقيب والتفسير.
سنقرأ بعض ما جاء في مطالع بعض قصصه ثم نقاربها على ضوء منطلقات وبحوث جاستون باشلار:

مَن هذا القادم يدق باب البيت ؟
بابٌ مفتوحٌ ، ندخلهُ
بابٌ مُغلق ، مُعتكف
نبض العالم يخفق خلف بابي / بيير البير
أولاً : البيت


ذلك الباب الثقيل بالمسامير العريضة وزخارف المطرقة البرونزية والخشب المتصلب الأسود ، المنحوت الحواف ، لم يكن مرتجا ، دخل ( علي ) من الباب القديم ، الذي حفرت في خشب إطاره تواريخ هجرية ، وعبارات الشكر لله على فضله في بناء هذا البيت السامق ، ووسط هذه الفوضى اللغوية المثلمة المطموسة بالتراب ونهش الأنياب التاريخية قرأ ( علي ) عبارة " أيها الداخل للحوش اقرأ السلام " ثم انغمس في عتمة الدهليز المبلط بطابور محفور...
( قصة المملكة السوداء ) .
ولا ندري لماذا وضع محَمد خضير اسم ( علي ) بين قوسين ، في كل الحوارات التي تكررت 21 مرة في هذه القصة ؟! .
***
منذ ثلاثة أيام وأنا أشم رائحة الطين حولي في الغرفة الصغيرة ، التي تطل نافذتها على ساحة داخلية شبه دائرية ، تحدها بيوت ذات أسطح وأسيجة من الخشب أو الصفيح ، لا شيء غير رائحة الطين .
( قصة نافذة على الساحة ) .
***
سأرى أمي... ها هي ذي تهز مهد أخي الجديد وتولول لهُ كالغراب ..بدأت تشمه لأنه لا يكف عن الصراخ ، ولأنه ولد في الشتاء ، ولم يولد في الصيف ..تركته وغادرت الغرفة . أظنها ستذهب إلى المطبخ.. كلا.. تصعد الدرج الخشب للسطح وتجمع البيض من الدجاج بعد أن تفرغه.
( قصة شجرة الأسماء ) .
***
رؤوس عديدة ، آلاف الرؤوس لنساء وأطفال تطل إلى الأسفل من الشرفات والسطوح العالية ، تشهد مرور مواكب العزاء وفرق " الزنجيل " التي تصاحبها الصنوج والطبول والأبواق في الشارع الضيق.
( قصة الشفيع )
***
لكل مساء حكاية . حكاية واحدة ، في أول المساء – عندما تسكن عصافير البرد على سدرة البيت ، وتكف طيور " الدرج " في أحراش الحلفاء خلف البيت عن النداء المنغم.
( قصة حكاية الموقد )

أنظرو ماذا يقول باشلار بخصوص البيت وأثرهُ في الابداع الأدبي :
بغض النظر عن ذكرياتنا فالبيت الذي ولدنا فيه محفور بشكل مادي في دواخلنا ، انه يصبح مجموعة من العادات العضوية بعد مرور عشرين سنة ، ورغم السلالم الكثيرة الأخرى التي سرنا فوقها ، فإننا نستعيد استجاباتنا للسلّم الأول ، فلن نتعثر بتلك الدرجات العالية بعض الشيء ، ان الوجود الكلي للبيت سوف ينفتح بأمانة لوجودنا ، سوف تدفع الباب الذي يصدر صريراً بنفس الحركة ، كما نستطيع أن نجد طريقنا في الظلام إلى حجرة السطح ، ان ملمس أصغر ترباس يظل باقياً في يدينا ، فالبيت وحجرة النوم والعلية حيث كنا وحيدين ، قدمت الاطار لحلم يقظة متصل ، حلم يستطيع الابداع وحده أن يحققه بشكل كلي.
فحين نتذكر البيوت والحجرات فإننا نتعلم أن نسكن داخل أنفسنا
إننا في داخلنا بنفس القدر التي تكون هي في داخلنا .

ثانيا : القبو
ثم ننعطف باتجاه تكرر أيضا في قصص محَمد خضير " القبو "

توقفت الفتاتان، العاملتان في أحد معامل الخياطة الحكومية ،عند رأس السلّم ، متقاربتان ، حيث تتسلل في الهبوط الحواف المثلمة لدرجات السلّم الحجرية وتغيب في القعر المعتم في الأسفل
قالت الفتاة في منتصف العتمة :
أنتِ تهذين
ثم استدارت في هبوط السلّم، ولابد أنها أصبحت في الدهليز ، لأن صوتها أصبح أبعد من السابق.
( أمنية القرد )

***
كما لو كانت في قعرإبريق وجدت أن عتمة السرداب قد تخثرت باردة لذيذة حولها ، وأن المروحة مازالت تدور فوق صندوق الشاي الفارغ.
( قصة المئذنة )

يقول باشلار بخصوص الأقبية / جمع قبو/ ، والتي تتكرر كثيرا في مجموعة المملكة السوداء ، يقول :
أما بالنسبة للقبو فلسوف نجد له منافع كثيرة في الأثر الأدبي دون شك ، وهو قبل كل شيء الهوية المظلمة للبيت ، هو الذي يشارك قوى العالم السفلي حياتها ، فحين نحلم بالقبو فنحن على انسجام مع لاعقلانية الأعماق ، الحالم يبني ويعيد بناء الجزء الأعلى من البيت وحجرة السطح حتى تصبح متقنة ، ونحن حين نحلم بالارتفاع فنحن في المنطقة العقلانية للمشاريع الذهنية الرفيعة ، أما بالنسبة للقبو فان الحلم يحفر ويحفر حتى يجعل أعماقه نابضه بالحيوية ، وعلى طريقة المحلل النفساني كارول يونغ بخصوص الصورة المزدوجة للقبو والعلية فيحلل المخاوف التي تقطن البيت فينتهي إلى أمل الإنسان الواعي بأن " يقضي على تماسك العقد النفسية بعدم مواجهتها "
ويضرب المثال التالي :
"الوعي يسلك كرجل سمع صوتا مريبا في القبو فاسرع الى العلية، وحين لم يجد لصوصاً فيها قدر أن ما سمعه هو مجرد وهم ، في حقيقة الأمر أن هذا الرجل الحذر لم يجرؤ على المجازفة بدخول القبو "

للموضوع صلة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل