الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حائط مبكى الثورة في العاصمة السرية.

مختار سعد شحاته

2013 / 7 / 29
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


خلافنا أتفهمه كريفي ساذج:
تفهم لغتي حين تأتي على مزاجك، وتتفاعل مع جملي حين تعزف على أنغامك التي لا تعرف غيرها، لكنك على الدوام لا تنتبه لكون لغتي لغة غير أصيلة فيّ، فأنا يا صديقي أحد هؤلاء الذين ولدوا في القرية، نعم، سمني ولو شئت "قروي ريفي ساذج"، هذه تهمة ربما أحيانًا لا أحاول دفعها عني، في حين كانت يومًا مثار غضبي وحنقي الشديد، فكنت أحاول قدر الاستطاعة أن أتمثل كل المفردات التي تبعد عني تلك التهمة، أغرقت نفسي في تفاصيل المدينة، في ضوضائها، في براءتها المصطنعة بفعل وضغط التحضر أو التمدن، لا أعلم، لكني قدر الإمكان حاولت التشبث بمفردات المدينة، فانتهيت إلى هذا الازدواج العجيب، أحمل القروي الساذج في دواخلي، أصارع به كل غلبة المدينة، وأثبت على الدوام أني ابن لها، أني ربيب ثافتها، وهو ما تفضحكه أفكاري على الدوام، فلا تخلو مقالة أو نص أدبي من كشف حقيقتي القُحة، حتى انتهيت إلى اتهام البعض او لعله انتصارا –لا أعلم يقينا- بأني أكتب بالفطرة، بفطرة هذا النازح نحو المدينة.

أن "تبوظ" حائط البيت الجيري تلك مصيبة!!
دع عنك كل محاولة التوصيف والتصنيف يا صديقي، فقط تعلم مني كما قال صديق بعض ما أعرفه عن نفسي، فأنا واحد من هؤلاء الذين تربوا في القرى في أطراف مصر، وهناك يا صديقي أنت لا تعرفهم سوى من مسلسلات كتبها من خلع جلد القرية واكتفي بـ"تيشرتات" المدينة، نعم انت لا تعرفهم ولا تدري عنهم الكثير، فقط ما عرفت وخبرت من تصرفات مثلي، ربما التي لا تعجبك، وربما التي تأخذك، فأخذت توصف وتُنظر كيفما شئت، الآن فقط اسمح لي أن أخبرك بعض الشيء عنهم هناك، فأنا أحدهم، نعم أحد هؤلاء الذين يعرفون كيف لبيت من القرية أن يتم تجديده ويتم "دهانه" بألوان ناصعة من الجير الزاهي البسيط، وأعرف –وانت لا تعرف- حرمة الكتابة على البنايات هناك، لا تعرف كيف يغضب اهل البيت الجديد والملون بالجير حديثا حين يكتشفون صبيًا يكتب او يرسم على حوائطهم الجيرية، فهنا يا صديقي لا يفهمون معني كلمة "الجرافيتي"، فقط يرون أن الكتابة الصبيانية على حوائط الجير في واجهات البنايات والبيوت الفقيرة المجددة لا تغدو ولا تزيد عن كونها عبث يجب ردعه، والعقاب عليه، بل وقد يصل الامر ويتطور إلى حد الاقتتال والعراك بين أصحاب البيت واهل الصبي "الطائش/ قليل الأدب" الذي كتب على حائطهم الجيري الملون الجديد. قد تتعجب من كلامي هذا لكنه واقع عرفته وخبرته طوال سنوات عمري التي لم انقطع فيها عن القرية رغم سكناي بعيدا عنها لعقود، وهو ما كان شديد العجب حين قررت ان اكتب أنا الذي يخطو نحو الأربعين على حائط البيت الجديد الجيري الملون، بعد عودتي من ميدان الثورة، فكتبت عبارة بخط رفيع "الشعب يريد إسقاط الرئيس"، كأنها كانت الطامة حين مر العابرون جوار البيت، بعضهم لا يصدق أني صاحب البيت أفعل هذا بيدي، بل زاد البعض ان كتابتي تلك قد تغضب أهلي، ولم يتحرج الآخرون من وصفي بالمجنون كوني "أبوظ" شكل الحائط الجيري.

حائط الثورة في قريتي/عاصمتي السرية:
هكذا صار الحائط الجيري حائط مبكاي الخاص، هنا سأبكي ثورتي هنا في قريتي البعيدة "العاصمة السرية"، هنا سأحدد علامات التاريخ للثورة، وهو ما جعلني بعد شهور، أكتب من جديد عبارة الجديدة على الحائط الجيري الجديد "لا للدستور"، وبعدها بقليل وفي اول زيارة بعد استفتاء مارس 2011، وجدتني اخرج قلمي الكبير وأكتب "يسقط يسقط حكم العسكر"، ثم كانت مذبحة محمد محمود وحين عدتُ منها مباشرة، بعدما صفق مجلس الشعب المنتخب حين اعلن رئيس المجلس وقتها –والوصوف بانه مجلس شعبي شرعي يدعم الشريعة الخشبية للصندوق ويتماهي مع الشريعة الإسلامية، وجدتني أكتب "لماذا لا يموت أولاد الوسخة"، واستمر الحائط –من وجهة نظر الناس هنا- في التشوه يومصا بعد يوم، وأفضى لي قريب " يا آخي عاجبك شكل الحيطة اللي بوظته؟!!".. يومها لم اكن أرى مرادفًا للبوظان سوى تصفيق هؤلاء لمن قال "معندناش خرطوش..الداخلية لم تطلق رصاصة واحدة".، فاستمريت أنا في الـ"تبويظ" للحائط، واستمر المشهد في مصر كله يوازيه حتى فاقه بكثير، فعدت للقرية مرة أخرى قبُعيد الانتخابات الرئاسية وكتبت "يسقط يسقط حكم المرشد"، وتوالت الجمل على حائطنا الجيري، وتابعها توالي التعجب والاندهاش من المارين جوار البيت، حتى تعودوا مشهد ما أسموه "التشوه" للحائط، لكنهم تبسموا حين كتبت "بيع.. بيع.. بيع.. الثورة يا بديع"، واستمرت عملية البيع والتجارة، واستمريت أنا أكرر "بكرة الثورة تشيل ما تخلي".


حائط البيت الجيري يحتاج إلى تعديل أو زيادة؟؟
اليوم حين نظرت إلى الحائط، وحين لفت انتباهي الضابط المتخرج للتو من كليته العسكرية وابن جارنا هناك بجملته "شيل بقى يسقط يسقط حكم العسكر يا أستاذ"، فقط اكتفيت بالابتسام، بينما غازله جاري الثوري ومن بين ضحكه قال عني "تحت امرك يا حضرة الظابط.. مختار لازم يكتب الجيش والشعب والشرطة إيد واحدة"، وأصروا على كتابتها على حائط البيت الجيري الملون، فتعللت بأنه لا يوجد قلم للكتابة، وريثما يتواجد، ساكتب ما أراه منصفًا. خرجت في نيتي شراء القلم لأكتب على الحائط، وأوثق مرحلة من مراحل الثورة، فلم أجد احدًا يبيع أقلامي للكتابة على الحائط الجيري، وحين أتاني جاري بعلبة "اسبراي ملون" للكتابة، وجدتني أقول له "لا يا عم كده الحيطة هتبوظ". وقتها عرفت اني أرتبك، وأن ارتباكي يزيد، لعله هو مانعي الحقيقي من كتابة العبارة المقترحة بأن الجميع "إيد واحدة"، أو لعله حالي الذي صرتُ متهما بسببه، ويهاجمنى البعض هنا، ممن اعتقدت أن عملهم ومواهبهم الفنية والأدبية ستنتصر لقيمة أعلى وأعظم هي قيمة "الإنسان"، نعم أنا هربت من الكتابة على الحائط الجيري. الآن، وقبل كتابتي المقال، لمحت مربعا بالحائط الجيري خاليًا وقد يسمح بكتابة جملة ما عليه، فوجدتني أكرر جملة يسري فودة في عقلي "طول ما الدم المصري رخيص.. يسقط يسقط..أي رئيس".. نعم تلك هي الجملة التي يتحتم علي كتابتها، وأن أضيف عليها "سماء واحدة للجميع".
قررت كتابة الجملتين، وأنا أعرف أن حائط البيت الجيري الملون –الذي تشوه في نظرهم هنا- شاهد صدق عليَّ لا على البلدة، فأنا تماما بت مؤمنًا بأن آفة حارتنا النسيان، فأردت للحارة ألا تنسى، أو لي بالأحرى ألا أنسى. نعم سأكتب على حائط مبكى ثورتي في العاصمة السرية "قريتي الأم".. سأكتب حتى لا تُنسى الحوادث أو تُباع أو تستبدل.

مختار سعد شحاته.
Bo Mima
روائي.
مصر- الإسكندرية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشيوعيون الروس يحيون ذكرى ضحايا -انقلاب أكتوبر 1993-


.. نشرة إيجاز - حزب الله يطلق صواريخ باتجاه مدينة قيساريا حيث م




.. نشرة إيجاز - حزب الله يطلق صواريخ باتجاه مدينة قيساريا حيث م


.. يديعوت أحرونوت: تحقيق إسرائيلي في الصواريخ التي أطلقت باتجاه




.. موقع واللا الإسرائيلي: صفارات الإنذار دوت في قيساريا أثناء و