الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرض عضال اسمه الغباء الخطابي العربي

أحلام طرايرة

2013 / 8 / 1
القضية الفلسطينية


قد نفهم أسباب التجاهل غير العربي للقضية الفلسطينية ولروايتها الفردية على وجه الخصوص ولكنه من الصعب أن نفهم استمرار الغباء الخطابي العربي بنفس وتيرته والذي نلمسه في التغطية الإعلامية والأعمال الفنية لقضايانا، والقضية الفلسطينية تحديداً. ففي الوقت الذي تستثمر فيه إسرائيل حدثاً كسقوط ماسورة صرف صحي تم حشوها بمواد متفجرة في حديقة منزل بمستوطنة اسرائيلية لتروي عشرات القصص الفردية "المؤثرة" على شاشات التلفزة العالمية كهلع امرأة حامل كانت تعدّ وجبة غداء لأطفالها الذين كانوا على وشك العودة من مدارسهم، أو حالة الإنطواء التي تعانيها قطة العائلة منذ حادثة سقوط الماسورة التي يسمونها صاروخاً، فيما تسقط صواريخ حقيقية تزن آلاف الأطنان لتسوّي بيوتا بالكامل بالأرض في قطاع غزة وتقتل جميع سكانها بما فيهم من أطفال ونساء فتكون روايتنا الإعلامية اليتيمة هي: "استشهاد عشرة/اربعة عشر/عشرين/ثلاثين في غارة اسرائيلية" ويمر الخبر لنتحمّس لخبر آخر يتغيّر فيه عدد القتلى فقط وكأننا في سباق محموم نتوق فيه لسقوط عدد أكبر من الناس لنقول ونثبت (لا أعرف لمن) أن اسرائيل متوحشة. ودون أن نفكّر ولو لجزء من الثانية، ماذا كان اسم تلك الفتاة الصغيرة القتيلة ذات الشعر البني؟ ماذا كانت تفعل قبل سقوط الصاروخ بلحظات؟ بماذا كانت تفكّر؟ بماذا كانت تحلم؟

نعم، لا زال الخطاب الإعلامي العربي يجهل وباستحقاق كيفية مخاطبة الضمير الإنساني في شعوب الأرض. فلقد اعتاد العربي أن يكابر ويفاخر وأن يظهر قوة وبأسا حتى ولو كذبا، ولكنه ينسى أن هذا النمط الحياتي الذي ينجح محليا ليس صالحا خارج حدود بلاده، وأن عليه أن يفهم لغة الأقوام الأخرى حتى يفهم أبجديات مخاطبتهم. والمقصود باللغة هنا هو العامل المؤثر الذي يجذب من أمامك ليستمع لك ويقتنع بروايتك ومن ثم أن يسردها للآخرين بروحٍ داعمة ومؤيدة. الاسرائيليون ناجحون جداً في ذلك، يعرفون مفاتيح الوصول لقلوب الناس خلف الشاشات مع أنهم الأقوى على الأرض والأكثر عدّة وعتادا وعنجهية وتدميرا. فقد يجعلك تقرير اسرائيلي إخباري صغير أن تتعاطف مع جندي إسرائيلي أبعدته حرب غزة عن حبيبته، فيما تتلطخ يديّ هذا الجندي ورفاقه بأيدي الآف الأطفال الفلسطينيين الذين لم يكن لهم في هذه الحرب لا ناقة ولا جمل، سوى أن شيئا ما قدّر لهم أن يكونوا في هذه البقعة من الأرض في هذا الوقت تحديداً!

وتعرض شاشاتنا العربية صور جثث هؤلاء الأطفال مع التشديد الشديد على عددهم، دون أن يخطر ببالهم حتى أن يذكروا ولو اسما واحدا لأحدهم... فلا زلتُ أذكر ذلك اليوم الذي عرضت فيه قناة عربية لامعة في مجال التغطية الإخبارية تقريرا لسقوط 4 أخوات صغيرات في غارة جوية اسرائيلية على غزة، فركز تقرير القناة على عدد الشقيقات وعلى الصورة العامة للمشهد، أناس كثيرين منهم من يبكي ومنهم من يصرخ ويتوعد وسط الدمار والجثث؛ هو المشهد عينه الذي حرصت هذه القناة أن نألفه جيدا حتى هذه اللحظة. لكن بالمقابل عرضت القصة ذاتها قناة بريطانية ناطقة بالعربية بطريقة مختلفة تماما فبدأ التقرير بأسماء الشقيقات مع وقفة حذرة بين كل اسم واسم وعرض لوجه الطفلة التي تحمله فيدرك المشاهد – الذي ضاع تركيزه وسط كثرة مشاهد الدماء والدمار- وفي فرصة زمنية لأقل من جزء من الثانية أن هناك اسم، أي إنسان من لحم ودم وراء كل رقم. أتذكر كم هالني الفرق بين التقريرين، والهوة الكبيرة التي تفصل بين الخطابين.

وتنطبق النظرية على معظم الأعمال السينمائية والمسرحية والتلفزيونية العربية على ضآلة عددها، والتي كانت ضئيلة وجدانيّا وفكرياً أيضا ولم تهتم سوى بسرد التواريخ والأرقام والأحداث التي طالت الناس كجماعة واحدة دون التطرق ولو من بعيد للبعد الإنساني الفردي الذي من شأنه أن يسرد كل ذلك من خلال نثريات القصة الدقيقة التي تشدّ انتباه الناس وتحتفظ به حتى آخر مشهد. لم تعرض الدراما العربية طوال سنوات المعاناة الفلسطينية سوى الأرقام والتواريخ الدقيقة للأشياء ونسيت أن وراء كل رقم من هذه الأرقام اسم وقصة إنسانية فريدة لا تشبهها أي قصة أخرى... ولم يتنبهوا أن المحرقة اليهودية تحوّلت لقضية ضمير إنساني لأنها نجحت أن تخاطب الضمير الإنساني الفردي بعيدا عن هوية المزعوم حرقهم أو دينهم، لكنها في ذات الوقت كانت تعود بهذا الضمير الإنساني الفردي إلى حيث حقيقة أن هذا الاسم وهذه القصة هي ليهودي. نحن العرب فشلنا في فهم الدروس وحرصنا أن نخاطب العالم باللغة التي لا يفهمها أحد غيرنا، لغة المكابرة. ولم يستوقفنا أن القصص الفلسطينية التي ضربت جذورها في الضمير الإنساني كانت تحمل أسماءً. ونسينا وسط هوسنا الرقمي أن وراء كل رقم كانت هناك حياة كاملة، كان هناك إنسان مثلنا، وظلمنا كل قتلانا وجرحانا ومعوّقي حروبنا بجهلنا وجعجعتنا ولم نسرد قصصهم لأحد أبدا... لم نفلح إلا بأن نحولهم لرقم ليس إلا. ولنتذكر أن القصة الفلسطينية للصراع العربي الصهيوني بدأت تصل للعالم على لسان غير العرب من الأجانب الذين جاؤوا لفلسطين لسبب أو لآخر وصدموا بالواقع فسردوها بلغتهم، اللغة التي تفهمها شعوبهم وكانوا يعودون بشعوبهم لحقيقة أن هذه القصة الإنسانية هي لفلسطيني. والشكر لوسائل الإعلام البديلة ومواقع التواصل وليس للإعلام العربي ولا للأعمال الدرامية العربية.

لكن يجدر بالذكر أن من الأعمال العربية النادرة كان "التغريبة الفلسطينية" وقد كنت تحدثت عن هذا المسلسل في سياقٍ آخر في مقالة سابقة، لكني هنا أتطرق لخصوصية هذا العمل الفني وتميّزه الفريد عن بقية الأعمال التي تناولت القضية الفلسطينية كحصة مدرسية في التاريخ، وحصص التاريخ عادة ما تكون مجردة مملة خالية من أي حس إنساني كان من الممكن أن يجذبك لسماع القصة لو كان موجودا. فوسط ذهولنا جميعاً، صغيرنا قبل كبيرنا، جاءت "التغريبة الفلسطينية" على شكل مسلسل سرد تفاصيل صغيرة جدا للبعد الإنساني للنكبة الفلسطينية. تفاصيل جعلتنا نعيش الألم كأنه حدث للتو. حتى نحنُ- الجيل الذي لم يعش تجربة التهجير الكبيرة عام 48- استحضرنا ذاكرتنا الجمعية مع حاضرنا المنكوب لنبكي كل لقطة كانت تروي ألما ما لشخصية ما. كلنا، حتى أولئك الذين لم يعيشوا تجربة اللجوء، تابعنا المسلسل وعشناه كقضية فردية بامتياز تمسّنا نحن شخصياً. لهذا رسخ هذا العمل عميقا في وجداننا، ولهذا لا يزال موجعا، فقد مسّ الإنسان الفلسطيني فينا، وليس الفلسطيني وحده!

نحن بحاجة للغة تشبه لغة التغريبة، ولفلسطينيين وعرب يتحدثون لغة الضمير الإنساني العالمية، ويفهمون جيدا أن مخاطبته هي جزء مهم جدا من النضال ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين وضد سياساته التعسفية.
نعم، مهم أن نذكر أن ما يزيد عن ال1300 فلسطيني مهددين بالترحيل من بيوتهم وأرضهم التي يسكنوها منذ 33 عاما في جنوب الضفة الغربية لأن الجيش الاسرائيلي قرّر إعلانها منطقة عسكرية مغلقة، لكنه مهم جدا أن نبدأ القصة بالحديث عن تفاصيل حياة طفل صغير يسكن هناك في خضم هذه التهديدات وأثر التدريبات العسكرية على حياته ونموّه النفسي وشخصيته وماذا يعني أن يُهجّر هذا الطفل قصرا من بيته وماذا تعني تجربة كهذه بالنسبة له هو كطفل صغير. نحن ببساطة بحاجة أن نؤنسن قصصنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا تقلقي
علقمة منتصر ( 2013 / 8 / 1 - 15:36 )
في الطبيعة، سيدتي، يسود الصراع من أجل البقاء. ابتكرت كل الكائنات أدوات الدفاع عن النفس من أجل البقاء. هناك من تزود بالسم وآخر بالشوك وآخر بالرائحة الكريهة أو المخلب أو الناب أو المنقار أو سرعة الطيران والعدو أو التمويه والاختفاء، وأضعف الكائنات مثل البعوض والنمل والذباب وبعض الحيوانات البرية في براري أفريقيا المتوحشة تزَوَّدت بالقدرة على التكاثر، وتمكنت من التغلب على ضعفها تجاه الأعداء بكثرة تناسلها.
فماذا ابتكر العرب ومنهم الفسلطينيون من أجل البقاء. بالتكاثر لا غير، فلا تقلقي. فلتقتل إسرائيل ما شاءت، فأرحام نسائنا سرعان ما تعوض الخسارة وزيادة. ثم لمَ القلق مادمنا نحن لا نقيم وزنا لأنفسنا وفي كل صراع بيننا نبيد أضعاف ما تبيده إسرائيل: العراق، الجزائر، سوريا، السودان، مصر والبقية آتية لا ريب فيها.
تحياتي


2 - سذاجة
علقمة منتصر ( 2013 / 8 / 1 - 15:51 )
سيد هيثم، في تعليقك على الفيسبوك سذاجة تشبه سذاجة الإسلاميين. هل تعتقد فعلا أن أنصار مبارك الذين أزيحوا عن السلطة سيبقون مكتوفي الأيدي مثل النعاج؟
البليد الذي أعطاهم الفرصة هو مرسي وجماعته لأنهم بهمجيتهم الدينية وضعوا كل القوى الأخرى أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الاستبداد الديني الأصولي الإخوانجي أو الاستبدادي العسكري. وطبعا كل شخص يحرص على الاحتفاظ ولو بالنزر القليل من حريته عليه أن يختار العسكر. على الأقل يكون بوسعه أن يذهب مع زوجته إلى الشاطئ أو لا يلزمها وبناته ارتداء الحجاب الكئيب أو يكون بوسعه أن يشتري زجاجة خمر ينتشي بها لساعات وينسى هموم هذه الأمة الميئوس من حالها، أو على أقل تقدير يكون من حقه ألا يدخل في جمهرة المنافقين ويضطر إلى إطلاق اللحية وحفر الزبيبة ومعاشرة الدهماء في المساجد حتى لا يعتبروه كافرا.

اخر الافلام

.. ريبورتاج: مزارعون في الهند مصممون على إلحاق الهزيمة بالحزب ا


.. السباق إلى البيت الأبيض: حظوظ ترامب | #الظهيرة




.. ماهو التوسع الذي تتطلع إليه إسرائيل حالياً؟ وهل يتخطى حدود ا


.. ترامب: لم يتعرض أي مرشح للرئاسة لما أواجهه الآن | #الظهيرة




.. -كهرباء أوكرانيا- في مرمى روسيا.. هجوم ضخم بالصواريخ | #الظه