الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعض هواجس العلامة إبراهيم السامرائي على صفحات رسائله الشخصية ..

جاسم المطير

2013 / 8 / 4
الادب والفن





من ادب الرسائل

بعض هواجس العلامة إبراهيم السامرائي على صفحات رسائله الشخصية ..
جاسم المطير
مدينة العمارة لها الفضل في إنجاب العديد من الذين بزغوا فيها مجددين الآداب والفنون والعلوم ، بل كانوا ، في ساحاتها ، جوهراً إبداعياً خالصاً وتياراً ثقافياً نقياً. كان البعض منهم أصدقائي. اعتز بهم دائما وأبداً ، بل أقول أنني نلت من صداقتهم علماً ومعرفة ً ومجداً وشرفاً. اثنان من هؤلاء الأصدقاء لم يحملا لقباً أو نسباً آو انتماءاً عمارتليا لأنهما كانا يحملان لقب مدينة آبائهما ، حملا لقب ( السامرائي) نسبة إلى مدينة سامراء ، رغم ولادتهما في العمارة. كان صديقي الأول هو الدكتور الطبيب فائق السامرائي الذي تعرفت عليه في سجن نقرة السلمان. كان منتمياً إلى صفوف الحزب الشيوعي. يحب أبو تمام الطائي ويحفظ كثيرا من شعره مثلما يحب محمد مهدي الجواهري ويحفظ عن ظهر قلب كثيرا من قصائده. كان يردد دائما فكرة خاصة تعيش في أعماقه: إن من يناضل في سبيل تأمين حقوق الناس الفقراء عليه أن ينتمي للشيوعية ولزهد أبي تمام ولصوت الجواهري . توطدت صداقتنا بعد تحررنا من قيود السجن فجمعتنا لقاءات وجلسات لا تحصى في حقبة السبعينات من القرن الماضي. نال الرجل من مهنته سؤدداً حيث كان يعالج الفقراء من الناس، خاصة من أهالي مدينة الثورة المترددين على عيادته في الباب الشرقي إذ كانوا يعرفون انه عمارتلي وقد خرج من هذه العيادة لقب ( الدكتور فائق طبيب الفقراء).
أما العمارتلي الثاني الحامل لقب السامرائي نقلاً عن جده القادم من ضفاف دجلة سامراء ، في القرن التاسع عشر، ليتوطن على نهر دجلة في مدينة العمارة، وقد ولد حفيده إبراهيم أحمد السامرائي عام 1923 ليصبح في ما بعد علامة في اللغة العربية وآدابها وجميع تفرعاتها .
تلقى إبراهيم السامرائي دراسته الابتدائية والإعدادية بمدينة العمارة ثم أكمل ببغداد دراسته الثانوية والجامعية. ثم حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون وعرف عنه متخصصاً بالدراسات اللغوية والساميات. نال جوائز عديدة وتقديراً علمياً عالياً ليصبح عضوا في المجمع اللغوي بالقاهرة والأردن, وفي المجمع الهندي, وفي الجمعية اللغوية الفرنسية. أبرز مؤلفاته هي : لغة الشعر بين جيلين - فقه اللغة المقارن - التطور اللغوي - اللغة والحضارة - التوزيع اللغوي الجغرافي - تنمية اللغة العربية - أنستاس ماري الكرملي - معجم الجاحظ - معجم ابن المقفع - معجم أبي العلاء المعري - مباحث لغوية - مباحث إفريقية - نزهة الأنباء, كتاب (العين) للفراهيدي بمشاركة مع زميله وصديقه الدكتور مهدي المخزومي وغيرها من الكتب اللغوية والتحقيقات والترجمات التي تجاوزت المائة كتاب ومئات المقالات . بذل جهودا كبيرة عند تدريس عدد من أجيال الأدب العربي في كلية الآداب بجامعة بغداد حتى أكمل سن التقاعد فيها وقد اخبرني بعد أسبوع من تقاعده أنه سيواصل التدريس في الجامعة الأردنية وقد إعطاني عنوانه في عمان حين استقر بها على مرحلتين كانت بينهما مرحلة التدريس في جامعة صنعاء أيضاً .

يرجع الفضل في توطيد علاقتي مع الدكتور إبراهيم السامرائي إلى المستشرق المعروف (ل. ماسينيون) المعني بالفكر الإسلامي وبالتصوف الإسلامي خصوصاً ، حتى صارت كتاباته مرجعاً للدارسين في هذا المجال. المستشرق الفرنسي (لويس ماسينون) 1883 – 1962 مستشرق حاز على شهرة كبيرة في العراق والشرق الأوسط .. أعجب بعوالم (الشرق الروحية) واهتم بالحلاج اهتماما قضى معه سنوات طويلة باحثا ومنقبا عن كل ما يتعلق بحياة الحلاج. كان ماسينون قد عمل مساعدا للضابط السياسي الملحق ببعثة جورج بيكو المفوض السامي الفرنسي في الأراضي المحتلة في فلسطين وسورية . حين وضع الدكتور إبراهيم السامرائي أمامي كتاب ماسينون المعنون (خطط البصرة وبغداد) في عام 1979 طالباً مني نشره بعد أن قام بترجمته من الفرنسية مضيفاً إليه بعض التعليقات الهامة ، قال لي بالحرف الواحد: (هذا كتابٌ عزيزٌ عليّ وعلى القراء فأرجو أن يحتل قيمته منشوراً في الواقع الثقافي العراقي ، أيضا.. أريد منك طبعه ونشره) . أرسلتُ المخطوطة إلى المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وتابعتُ مراحل طباعتها وتدقيقها. وقد نُشر الكتاب في عام 1981 ( كما أتذكر ) فقدم لي الدكتور السامرائي أنواعا من كلمات الشكر والامتنان معبراً عن رضاه بالإخراج الجميل والطباعة الأنيقة . توطدت علاقتنا منذ ذلك الحين . يوم قابلته بعد إطلاعه على كتابه مطبوعاً طباعة أنيقة قال لي مبتسماً: لقد أنصفت البصرة أيها البصري. لقد ساعدت يا جاسم المطير على عودة البصرة مدينة جديدة ترتدي قميصا ثقافيا ناصعا .
لا أستطيع أن أبعد نفسي عن الألم حين أُسأل عن قانون حقوق الصداقة ومفاخرها ونقائها وشفافيتها حين مات عام 2001 صديق عزيز عليّ تعلمت منه معان كثيرة لعناء الحياة هو العلامة الدكتور إبراهيم السامرائي. رحل عن الدنيا التي كان يتمنى في كل يوم أن تتغير للتعبير عن حبها للناس الطيبين.. رحل عن هذه الدنيا وهو متذمر من جورها. مع الأسف رحل في وقت كان ينتظر مني جوابا على رسالته الأخيرة.. لم أجبه على آخر رسالة أرسلها إلي قبل رحيله الأبدي بأيام قليلة ..؟ رحل عنا منذ أكثر من عقد من الزمان، لكن لا مدينته العمارة التي ولد فيها تتذكره ولا سامراء التي ينتسب لها قد أنصفته رغم أن أجيال الأدباء في المدينتين أفادت من علومه وآدابه ولغته وتاريخه وفلسفته وتراثه العقلي الضخم.
ترتكز فكرتي في هذه المقالة على الحضور أمام بعض أفكار صفحات عدد من رسائل شخصية موجهة إليّ من الدكتور إبراهيم أحمد السامرائي، الذي منح لغتنا العربية الكثير من فكره العميق في دراساته وتحقيقاته العديدة في مجال البحث العلمي الرصين والدقيق. بكل تواضع أقف إجلالاً أمام ذكراه بما يستحقه من الاهتمام وليس أمامي إلاّ إعادة قراءة بعض مضامين رسائله أليّ بما تحمله من مشاعر وحالات خاصة تدعونا للتفكير.
كانت فلسفة الدكتور إبراهيم السامرائي في إثبات وجوده ووجود (الآخر) أيضاً تعتمد على تواصله في إرسال الرسائل حتى وان كانت ببضعة سطور. يقول: (المهم ان تصل الرسالة لتحفز (الآخر ) على كتابة رسالة جوابية وبهذه الصورة يتم تبادل الأفكار) . كنت أؤيده لمثل هذه الأقوال دون حاجة لمناقشة قوانين إسقاط الجنسية عن بعض المضطهدين في هذا البلد أو ذاك أو سجن واعتقال هذا الأديب أو ذاك ، أو مناقشة هذا الشاعر أو ذاك ممن يجهلون جهلاً مطبقاً قواعد اللغة والشعر، أو مناقشة قرارات أو دراسة هذا المؤتمر العربي أو ذاك من التي تعقد بدون جدوى . لم يكن يثير اهتمامه أي حدث أو منهج لا يقدم قيماً . هكذا كان يمثل كل واحد منا ، أمام الآخر ، على وجه ورقة بيضاء مرة واحدة في كل شهرين ، أكثر أو أقل ، في بعض الأحيان.
أكتنف الكثير من الألم حياة د. إبراهيم السامرائي في العقدين الأخيرين من حياته . لم يكن هذا تصوراً خيالياً منه فالعديد من رسائله الأخيرة خلال الأعوام القليلة السابقة لرحيله كانت قصيرة جداً ، لكنها تضمنت صراحة ألمه الشديد من حالة الغربة التي يعاني منها والتي لا يخلو أغلب رسائله من التطرق إليها وإدانة المسئولين عن اغتراب العراقيين في بلدان الشتات . ففي رسالته المؤرخة 2/2/1999 كتب لي يقول : ( أخي العزيز جاسم المطير : صاحبك الذي عرفتُ اسمه قاصاً في العراق ولم يكن في أيامي هو الأستاذ ياسين النصير. لقد سألتُ الأستاذ حمدي التكمجي : أين الأخ جاسم الذي أهداني ليلة كنا في دارك كتاباً لم أفارقه ليلتي تلك حتى أنهيته فسعدتُ بما كان فيه من فكر وأدب وفن . فقال لي هو في هولندا يصدر مجلة مع الأخ النصير وزودني بالعنوان فقلت لا بد من التواصل وهو أقل المروءة في عصرنا ، فماذا أقول غير هذا..؟ . لقد حزنتُ وحق لي الحزن أن أمسينا نحن العراقيين بضاعة مزجاة ، وهي في عربيتنا المعاصرة تعني العملة الرخيصة ولا سيما نحن الذين نحيا بين الأشقاء العرب . وكأني أذهب إلى دلالة الأشقاء في عصرنا فأجعلها الشقاق والتقاطع . فهل عانى القدماء أمرّ من هذه الغربة..؟ ) .
في رأيي ومن خلال معرفتي بالعلامة السامرائي لم يكن هو من نوع العلماء الذين يقفون على أبواب الأمراء والحكام والوزراء، كما انه ليس من نوع الأدباء الذين يحفلون بتطور أدوات الأدب والكتابة والقراءة على يد السلاطين، ولم يكن مزاجه يلتذ بما صنعه الكومبيوتر والانترنت حين قال لي تلفونيا ذات مرة (انه يصعب علي التعامل مع الانترنت) وقد كتبت له حال انتهاء تلك المكالمة الرسالة التالية : ( إلى أستاذي الجليل الدكتور إبراهيم السامرائي المحترم . تحية طيبة وبعد: في 20 كانون الثاني الماضي أرسلتُ لكم آخر رسائلي وقد أقلقني عدم وصول جوابكم حتى الآن . أتمنى أن تمضي أوقاتكم بسعادة وراحة واطمئنان وبما تستحقونه من رعاية وتكريم من المحبين لشخصكم الكريم. كنت في عمان قبل عامين وأكثر .وعندها كان بإمكاني متابعة أخباركم ونتاجكم الشعري والأدبي على صفحات (جريدة الرأي) على وجه التحديد ، خاصة وأن البعض من أصدقائي الشباب يكتب فيها أيضا مثل علي عبد الأمير عجام والشاعر سعد جاسم . أما وصرتُ بعيداً بآلاف الكيلومترات لم يعد بإمكاني مواكبة صوتكم ورؤية حروفكم على تلك الجريدة. عندي الآن في بيتي ذلك الساحر الكبير الذي يسمونه الانترنت الذي يقرب الأصوات والحروف في هذا الزمن. لكن في كثير من الأحيان يستعصي علينا أمر الساحر فلا يظهر في شاشتنا الصغيرة فنبقى معزولين أو منعزلين عن بلاد العرب حيث يقيم أبرز عنوان في لغتنا العربية . المهم آمل أن يبقى إبراهيم السامرائي تاجاً على رؤوسنا وعلى رؤوس جميع العراقيين من تلامذته ومن قرائه بعد أن صيرهم بعلمه وكدّه نخبة متميزة من نخب العصر الراهن في بلادنا وربما في خارجها أيضاً. من أهم أفراح أوقاتي هي الدقائق التي أكتب لك فيها حروف التحية والامتنان والعرفان بالجميل متمنيا لكم العمر المديد والمزيد من الوقت المساعد في نشر علومكم المميزة للعرب كلهم .والسلام عليكم وعلى أفراد عائلتكم الكريمة . تلميذكم جاسم المطير .).
كتب لي رسالة قال فيها : ( الأخ الأستاذ جاسم المطير حفظه الله – تحية طيبة وبعد ، فقد تسلمت رسالتك الحبيبة إليّ وقد جاء فيها أنك أرسلت قبلها رسالة ولم تتسلم جواباً. أخي أخبرك أني أرسلت الجواب ولكن لم يصل مع الأسف ، وكان جوابا ذكرت فيه أنني أشكو أمراضا عدة هي ما تقتضيه الشيخوخة . وأعود إليك الآن في هذه الرسالة ولك عندي ديواني وعساك تأتي إلى عمان وتأخذه وهو كبير في أكثر من 700 صفحة . تحية ثانية . مع الشكر . إبراهيم السامرائي . عمان في 29 / 5/ 2000 ..). وقد أجبته في الحال برسالتي المؤرخة 15 /6/2000 التي كتبت فيها : ( إلى أستاذي واستاذ الأجيال/ الدكتور إبراهيم السامرائي المحترم. من أعماقي أوافيك بالأمنية الأولى في أن تكون بصحة جيدة وأوقات سعيدة. آمل أن يمد الله في عمرك طويلا لتقوم بتقليب أوراق حياتك الحافلة بالعطاء والتي كانت من كل الجهات يسراً لآدابنا ولغتنا. وكان ما ذكرته في رسالتك 29 /5 الواصلة صباح اليوم ، عن ديوانك الذي امتدت صفحاته إلى السبعمائة ليس سوى الطائر الذي يأخذني وآلاف القراء من محبي شعرك الجزيل إلى رياض الشعر الحقيقي واقتداره. لا أدري كيف أحصل عليه إذ ليس في نيتي المجيء إلى عمان في وقت قريب. معنى ذلك سأبقى منتظراً حظا سعيداً يوقفني على ربايا ديوانكم. تمر هولندا بأحسن طقس فقد حل ربيع رائع أعقبه صيف ، بداياته تحمل ما يسر الهولنديين .فهل يدعوك هذا للتفكير لتغيير الجو قليلا ً والمجيء إلى هذا البلد الأوربي الصغير لكن الساحر . سيكون كل عراقي وعربي في غاية السعادة إذ يلقاكم في هذه الربوع. ولا بد أن أشير لوجود مدينة لايدن التي تعرفون عنها جامعتها الرصينة ومكتبتها الغنية . سيكون بيتنا تحت تصرفكم إذا تفضلتم بالمجيء. أرجو إبلاغ تحياتي للدكتور حمدي التكمجي فهو من أعزائي في عمان . وتحياتي لعائلتكم الكريمة والسلام . تلميذكم جاسم المطير في 15- 6 – 2000 ).
يبدو لي من رسالته التالية انه كان يلمح إلى ضعف إمكانياته المالية في عمان – الأردن إذ جاءت في إحدى رسائله إشارة واضحة إلى انه لا يستطيع إرسال ديوانه الثقيل الوزن، الكبير الحجم، ليس فقط يصعب عليه الذهاب إلى دائرة البريد ، بل أيضاً لان أجور أبراده مع بعض كتبه الأخرى قد تكون فوق طاقته : (الأخ الأستاذ جاسم المطير . تحية طيبة وبعد ، أرجو أن تكون بخير وعافية. أخي الكريم : الديوان وغيره مما أحتفظ به لك ، فإن وجدتُ من أعتمد عليه يحمله إليك فذلك ما أريد لآني متعب ولا استطيع أن أقوم بالإيراد ، ثم أني لا أثق أن يصل ولو أرسل مسجلاً، ولدي تجارب. وأضيف أن كلفة البريد لا أطيقها وأنا الذي لا أعمل في الأردن .وإن وجدت من يحمله إليك فأني سأعطيه الديوان وغيره. وأنت تخص في كل رسالة الأستاذ التكمجي بالتحية وأنا لا أراه ولا اسمع صوته في الهاتف وكأن أخي الأستاذ التكمجي ممن تعنيهم الآية الكريمة " شـَغلتنا أموالنا وأهلونا " .مع تحيتي . إبراهيم السامرائي في 20 / 7 / )2000 .

تعليقاً منه على رسالة منه تأخرت في البريد القادم من عمان قرابة شهرين ، كتب قائلاً : ( أخي الحبيب الأستاذ جاسم : لقد علمت أنك قد تسلمت رسالتي بعد شهرين من إرسالها وكنت قد قلت في نفسي أن الرسالة ضاعت في البريد ، فالضياع كثير في عصر الضياع وقد سررت بأنك أعطيت صفحة في " الزمان" وأني لواثق أن سيكون فيها زاد مفيد لا يدركه هؤلاء المحمولون على العلم .. لقد رحل عنا البياتي – رحمه الله – وأنا أذكر أنه كان في عمان يسكن في شقة لا يفصلها عما أنا فيه أكثر من خمسين متراً وأذكر أني تسلمت رسالة من أحدهم يدعى كريم الأسدي ومع رسالتي رسالة أخرى يريد الاسدي إيصالها إلى عبد الوهاب البياتي وهو لا يعرف عنوانه . لقد أرسلت رسالة الأسدي مع ولدي ومعها ورقة مني مع إثبات رقم الهاتف ولكني لم ألقَ صاحبي البياتي ولو في دقائق مكالمة هاتفية. أخي طلبتَ إبلاغ تحيتك إلى الأخ التكمجي وفعلتُ ذلك وكلمته عن طريق الهاتف وأفيدك أننا في هذا العصر قد فقدنا نعمة التواصل وهذه بعض صفات المروءة ، فأنا لا أرى أخي حمدي إلا في الأعياد ، ولا أدري كيف كان غير هذا في المناسبة التي رأيتك فيها في بيته. أقول وأنا آسف أن يكون جاري بيت بيت لا أعرفه لأني أشعر أنه لا يريد أن يعرف هذا الذي حملته الآفاق فكان جاراً له . ولا أكتمك فقد حملت أنا نفسي وزرته لأنه سكن في : العمارة " بعدي وندمت على فعلتي لأنه لم يرد الزيارة. مع تحيتي الوافرة . إبراهيم السامرائي . عمان في 17 – 8 – 1999 ) .
لقد كان الدكتور السامرائي يجفل من ما يفرزه الزمن السياسي في العراق ، كلما تكلمت معه بالهاتف أو كلما أتيت على ذكره في رسالة . كانت خواطري تغرقه في التفكير كما يقول ، إذ كان يعتبر أن هذا الزمن لا يقدم إلاّ الهراء من السياسة مثلما الهراء من الأدب. وذات مرة تساءل : كيف يتأتى لعالمنا العربي أن يستمر طويلاً على تقبله مثل هذا الهراء المنشور أكثره في الصحف..؟
وصلتني منه رسالة مؤرخة 14 – 6 – 1999 ظهر فيها متذمرا من بعض وعود بعض العراقيين وإهمالهم جاء فيها : ( أخي الأستاذ جاسم .. تحية وبعد ، فقد تسلمت رسالتك ، وكنت قبل ذلك قد أجبتك عن رسالة لك .وقد أشرت إلى الأخ التكمجي فأقول : أنه كسائر الناس قد شغلوا بما هم فيه، وهذا مما جره علينا العصر. فلا أرى أخي إلا في العيد مثلاً أو أني أعمد إلى الاتصال به. وكنت قد رأيت في المناسبة التي أعدها حمدي جماعة لم أرهم بعد تلك الجلسة ومنهم هذا الذي يشمخ في صحف الأردن حسب الشيخ جعفر بكلمات يبرأ منها الفن وقد أرى آخرين في صحف الأردن من طلابي ولكنهم شمخوا وليس لهم ما يشغلهم عن زيارتي ومنهم طراد الكبيسي وغيره. ولنضرب صفحا فأقول لك انك حين تأتي إلى عمان سأراك وأعطيك ديواني الذي أسميته "حنين إلى الكلم الضائع" وغير هذا. أما عن " السؤال" لإحدى الصحف اللندنية فأقول: ( إن كانت "الحياة" فما أراني أصل إلى هذه "الصحيفة" التي هي في معسكر الظلم من العرب والغربيين . لقد سألني احد العاملين فيها عن طريق الهاتف وهو يسجل جوابي ، والسؤال عن الجواهري بعد وفاته ، وقلت أن الأمر يتصل بالأدب فلا بأس من الجواب فمضيت طوال أربعين دقيقة أملي جوابي والمسجل يثبت الجواب. وعدني أنه سينشر هذا ويرسل الصحيفة مع مكافأة ، وانتهى الأمر ولم ينشر أي شيء. وقد كلفتُ أخي علي الشوك ففتش ولم يجد شيئاً. وإذا كانت الصحيفة " الشرق الأوسط " وهي أيضا من المعسكر الظالم فقد جاء معتمد هذه الصحيفة وهو عراقي أسمه (معد) في عمان وأراد مني أن أكتب شيئاً عن علي جواد الطاهر فأعطيته شيئاً يستوعب صفحة كاملة من الجريدة وقال هذا( المعد ) السيئ أنه سيزودني بالجريدة مع مكافأة ولم يفعل..!! فإذا كانت صحيفتك هذه أو الأخرى فما أراني معك وسنتحدث إذا جئت إلى عمان .مع الشكر . إبراهيم السامرائي . عمان في 14 – 6 – 1999 ).
في إحدى ليالي خريف عام 1997 كنا جالسين في دار الصديق د. حمدي التكمجي في عمان كان السامرائي في تلك الليلة في حالة من الإرهاق الصحي الشديد لكنه أصر على الدخول مع أحدهم في حوار عاد إليه فيه بعض تشدده حين أسمعنا قوله : ما أقرأه في هذا الزمن لا ينبعث أصلاً من عقل فلسفي سليم . اذهبوا إلى القرن الثامن عشر فسوف تجدونه عصر العقل والثورة وفيه حلّت فلسفة التنوير ، أما الآن ونحن في أواخر القرن العشرين فأن الإطار الغالب لكل فلسفة وأدب يتميز بالصبغة السياسية . أفكار هذه الأيام ترجع في المقام الأول إلى الجهل وانعدام الأخلاق.
( ليس ما يضايقني شظف العيش وليس ما يدهشني هناء العيش لكن هذين الحالين يؤلمان الإنسان إذا كان غريباً . ففي الغربة يفتقد المرء حقوقه الطبيعية وكأنه يرى عقده مع المجتمع الذي يعيش فيه أنقطع وتمزق ). كان السامرائي من هذا النوع من (الغرباء ) رغم نشأته على العمل الجاد منذ فتوته وحتى مماته إلاّ أن الشيء الذي لم يكن بإمكان أحد أن يبعده عنه هو الشعور الدائم بأنه مستبعد من وطنه وان احتمال عودته إلى جدل جديد ناتج عن رؤيته أو معايشته لمدينة العمارة أو العاصمة بغداد أو قضاء سامراء كان في نظره أمراً مستبعداً أيضاً . هكذا ظلت أفكاره تدور في هذه الحلقة.
وعن مرارة غربته في أيامه الأخيرة يتحدث عن جار له سكن قريباً منه فقال في إحدى رسائله : (أقول وأنا آسف أن يكون جاري بيت بيت لا أعرفه لأني أشعر أنه لا يريد أن يعرف هذا الذي حملته الآفاق فكان جاراً له. ولا أكتمك فقد حملت أنا نفسي وزرته لأنه سكن في "العمارة" بعدي ، وندمت على فعلتي لأنه لم يرد الزيارة..) .
جواباً على بطاقة معايدة أرسلتها كتب لي في رسالة وصلتني الى لاهاي يوم 20 – 1 – 2000 : ( لقد سبقتني ببطاقتك فأصررت على أن لنا عيداً وكنت قد نسيتُ هذا أنا المحاصر الذي ليس له إلاّ كتاب يقرؤه ، وهو لاجئ في حمى مجمع اللغة العربية . قد يكون المغتربون في الدنيا الواسعة اسعد حالا منا نحن في ديار " الأشقاء" الذين تنكروا لنا وهم قد شبعوا بما يدرّه عليهم العراق من خير . أخي لقد ذكرت لي في رسالة قديمة ان لكم مجلة مع احد الاخوان آمل ان يكون لكما فيها شغل مفيد . أسأل: لقد سمعت ان في هولندا دار أو أكثر للنشر باللغة العربية فهل عرفتم ذلك وهل لنا نحن الفقراء ان نفيد منها ..؟مع تحياتي . المخلص إبراهيم السامرائي. ) وكان الراحل عضواً في مجمع اللغة العربية الأردني..كتبت له جواباً في رسالة بريدية قلت فيها:( لاهاي في 20 – 1 – 2000 .. سيدي الكريم د. إبراهيم السامرائي .. تحية طيبة . أخذت رسالتكم الأخيرة بالفرح الغامر بالرغم من أن في داخلها الكثير من المعاني المؤلمة التي يعاني منها العلماء والمبدعون العراقيون في بلاد الغربة . وقد ترجمت العديد من أفكار رسالتكم إلى صورة حقيقة لمعاناة الوجود العيني لآلاف العراقيين في بلاد الغربة الأوربية. في نهاية الأمر يا سيدي الكبير سيكون متيقنا ً أمام الجميع أن صبر وعلم السامرائي سيكونان مثالاً لمذهب ينبغي أمامه السجود. فأنت لنا ولأجيال عديدة كنتَ صيرورتنا العينية في لغتنا العربية ، مع أنها كانت مصدرا لمتاعب عميقة لكم شخصياً. من العار على (الأهل) وعلى ( الأشقاء) وعلى (الحكام) خصوصاً أن يتركونك وعلمك وحيداً، مجرداً، وهم يسمعون منك آهة العالـِم الصابر الودود. أيها الأستاذ العزيز: لا أريد الأكثار من الأقوال الواهبة للموضوعية فأنت ، بكل الاحوال، كنتَ الأول في كل ما جعل الجيل الخمسيني معطاءً حاملا الدلالات الاخلاقية الكبيرة، التي انطلقت من بين أيديكم ومن محافل علمكم الغزير . أيها العزيز: بالنسبة إلى هولندا ليس فيها دار للنشر عربية. أنا أكتب مقالة أسبوعية في جريدة الزمان العراقية الصادرة في لندن. أنهم حتما سيرحبون بك وبكتاباتك . كذلك توجد دار نشر نشيطة في لندن تمارس النشر على نحو مقبول وهي تتحول بصورة عامة إلى الإبداع العراقي. أما صاحبها فهو سامرائي أيضا ، أسمه (حازم) وأظن أنه سيرحب بأنتاجاكم من دون أي قلق. إذا ترغب في مراسلة الجريدة والدار فتجد عناوينهما طياً. سوف أقدمك إليهما ولو أن الوجه الصحيح في هذه الحالة هو الترحيب بمقدم أسمكم على صفحات أعمالهما فأنت لا تحتاج لتعريف ولا لتقديم. أنت أكبر منا جميعاً. أرجوكم إخباري بما تحتاجون ولكم محبتي. تلميذكم جاسم المطير..).
في 29/5/2000 كتب الدكتور إبراهيم السامرائي رسالة تشكـّى لي فيها لأول مرة من ( أمراض الشيخوخة ..) وكان مسروراً إذ كان قد صدر ديوانه فقال ( فقد تسلمت رسالتك الحبيبة إلي ، وقد جاء فيها انك أرسلت قبلها رسالة ولم تتسلم جواباً . أخي أخبرك أني أرسلت الجواب ولكنه لم يصل مع الآسف وكان جواباً ذكرتُ فيه أني أشكو أمراضاً عدة هي ما تقتضيه الشيخوخة . أعود إليك الآن في هذه الرسالة ، ولك عندي ديواني وعساك أن تأتي إلى عمان وتأخذه ، وهو كبير في أكثر من 700 صفحة ..) .
رحل العلامة إبراهيم السامرائي في بداية الألفية الثالثة 2001 وفي روحه غصة من سوء ما وصلت إليه أزمات الأدب العربي ((أن الأدب العربي القائم ليس مقبولاً فأي زمان هذا الذي يسمون فيه (فلان الفلاني..‍‍) شاعراً وأنا لا أستطيع أن أفهم منه شيئاً. ا‍‍لمأمول من شعر المستقبل أنه سيكون متميزاً إن شاء الله بقوة هائلة..)).
عاش الدكتور إبراهيم أحمد السامرائي محتفظاً بحياده في البحث و معجباً بكل مبدع آخر..

ـــــــــــــــــــــ
جاسم المطير
بصرة لاهاي في 3 / 7 / 2013
ـــــــــــــــــ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال