الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وهم الهوية الاقتصادية في سوريا

دارا كيلو

2005 / 5 / 12
الادارة و الاقتصاد


في سوريا ما يشبه محاكم التفتيش, لكن هذه المرة هي محاكم تفتيش اقتصادية, هناك كلمات اقتصادية تنطوي على أفكار ممنوعة من التداول أو الاستخدام أو الطرح كخيارات للمجتمع, ومن يطرحها يكفر من قبل كهنة "الفكر الاقتصادي", وأقول الفكر الاقتصادي هنا تجاوزا, لأن هؤلاء الكهنة ليس لهم علاقة بالفكر الاقتصادي بالمعنى الحقيقي. فمثلا يمنع الحديث عن اقتصاد السوق, ثم يسمح به وتكفر الحرية الاقتصادية والخصخصة, وترمى الرأسمالية بالكفر ...الخ. والكثير هنا يجري تحت عنوان الهوية الاقتصادية لسورية, وعناوين أخرى مثل الشأن الاجتماعي و الصراعات السياسية.....الخ.
ما يهمنا هنا هو الهوية الاقتصادية, هل هناك هوية اقتصادية لسوريا ؟ وهل هناك مبررات لاعتبارها جبهة صراع؟ وإذا لم يكن فلماذا التمسك بها والدفاع عنها؟ الاقتصاد في تعريفه الأكاديمي البسيط هو العلم الذي يهتم بكيفية حل البشر لمشكلة التوفيق بين الحاجات غير المحدودة والموارد المحدودة. وقد ثبت تاريخيا أن هذا يتم بأفضل طريقة ممكنة من خلال التخصص والتبادل الذي يتم من خلال السوق, حيث تقوم السوق بدور آلية التنسيق بين المتطلبات المختلفة للفعاليات. لكن السوق كآلية قائدة للاقتصاد, أو القيام بالفعاليات الإنتاجية وملحقاتها وفقا لمنطق السوق , لم يتحقق إلا مع هيمنة الرأسمالية كمنط إنتاج. ففي الرأسمالية كل الفعاليات الاقتصادية, باستثناء حالات هامشية, يقودها منطق السوق, وتمر من خلال قنواته. وربما كان صحيحا هنا القول أن الاقتصاد كظاهرة أو كممارسة مجتمعية ذات خصوصية أو كحقل متميز للنشاط البشري لم يتبلور إلا مع تبلور الرأسمالية التي يتحكم بها منطق السوق. قبل الرأسمالية كانت هناك طرق معينة لحل المشكلة الاقتصادية, لكن كان الحل يتم بآليات غير اقتصادية, أو من خلال قنوات لحقول أخرى من النشاط البشري, من خلال الارتباطات السياسية, أو العلاقات القرابية , أو غيرها.
إذا تحدثنا عن هوية واقتصادية, فإن هذا قد يعني إما أن سوريا تمتلك مشكلة مختلفة عن الآخرين, أو أنها بلورت حلولا مختلفة , أو الاثنين معا. ما دمنا كسوريين ننتمي إلى الفصيلة البشرية فإن المشكلة البشرية العامة في التوفيق بين الموارد والحاجات مطروحة علينا, ولا يمكن الحديث هنا عن مشكلة أخرى بالقطع. أما الحلول فإن دراسة الواقع السوري تشير إلى أننا في سوريا لم نخرج خارج التاريخ البشري في هذا المجال. فسوريا اقتصاديا هي اقتصاد رأسمالي مشوه ببعض الاشتراكية أو اقتصاد اشتراكي مشوه ببعض الرأسمالية, وربما كان الأصح هو إقطاع شرقي ذو مظاهر حديثة( تتعلق بالعصر الحديث). وفي كل الأحوال فإن هذا النمط السوري ليس استثناءا أو اختراعا سوريا. فالنمط الاشتراكي في عرينه كان هكذا وتكرر بنسخ أكثر تشوها مع تخلف الدول التي أخذت بهذا النمط.
ربما كان مفيدا هنا إجراء مقارنة ذات دلالة كبيرة بين القطاع العام السوري واقطاعات التصرف العثمانية, في المرحلة العثمانية كان يتم تخصيص النخب العسكرية والمقربين من السلطان وحاشيته باقطاعات تصرف مكافأة لهم على خدمات ما, في سوريا تخصص شركات القطاع العام لمدراء عامين مرضي عنهم من قبل جهات معينة, وهم شبه أحرار في التصرف في إدارة هذه الشركات بما يخدم مصالحهم الشخصية. وهذه الحالة ليست استثناءا سوريا, إنما حدثت في دول أخرى.
إذا ما فائدة الحديث عن الهوية الاقتصادية ؟ أو لماذا الحديث عن وهم الهوية الاقتصادية؟ كما نعلم أن المجتمعات تتمايز في المجالات الثقافية والاجتماعية (بالمعنى الضيق) وتتعدد الانتماءات السياسية. والحديث عن هوية متميزة على المستوى الوطني أو مستوى فئات ضمن الوطن الواحد, والبحث عنها أمر مقبول في تلك المجالات وهي مجالات التماييز. أما في الاقتصاد فهذا الأمر غير وارد نظريا وعلى المستوى الواقعي. ففي المنطق الاقتصادي أنت تشترى السلعة الأرخص بغض النظر عن المنتج. وجميع الدول الغربية المتطورة هي اقتصادات سوق متطورة , لكن هذا لم يمنع وجود هويات مختلفة ثقافية وسياسية ........لذلك اعتقد أن هذا الهوس بالهوية الاقتصادية يستند على ثلاث مصادر أساسية:
الأول – يتعلق بمستوى التطور الذي بلغته سوريا, وأثر ذلك على أنماط التفكير. فسوريا باعتقادي تعيش مرحلة هي مرحلة ما قبل الرأسمالية بعد أن انتكس مشروع رسملة سوريا, (الذي بدأه الفرنسيون منذ عشرينيات القرن الماضي), أواخر خمسينات القرن العشرين. وفي كل الأنماط غير الرأسمالية هناك تداخل بين الممارسة الاقتصادية والحقول الأخرى للنشاط الاجتماعي, ولم يتبلور الاقتصاد كحقل نشاط متميز بشكل كامل إلا في ظل الرأسمالية, وبالتالي فإن ذلك التداخل, يجد انعكاسا له في التشوش الفكري القائم على تطبيق مقاييس ومتطلبات الحقول الأخرى على الاقتصاد, والحديث عن الهوية هو مثال بارز على ذلك.
الثاني – يتعلق بالمدارس الفكرية التي تنظر للهوية, وهي في مجملها المدارس القومية والماركسية (في بعض أشكالها) والدينية المتكيفة مع التخلف العام في المنطقة, وهي بأشكالها الثلاث مهووسة إما بالصراع مع المشاريع القومية الأخرى أو الصراع الطبقي وملحقاته أو الصراع بين الأديان , وبالتالي فإن مسألة الهوية والتمايز أساس استمرارية وجود المدرسة الفكرية ذاتها, حيث تتحدد جبهة الأعداء والأصدقاء على ذلك الأساس. وعليه فإن الهوية مطلوبة لهذه المدارس على كافة المستويات وفي كافة المجالات, سواء كانت حقيقية أو وهمية, وبالتالي فإن من الطبيعي البحث عن هوية اقتصادية أو الحديث عنها.
الثالث – يتعلق بالمصالح المتبلورة والمتعلقة بالواقع الراهن الذي تعيشه سوريا, حيث أن هناك مصالح اقتصادية كثيرة , وهي فاسدة في غالبيتها العظمى, يرتبط استمرارها باستمرار الواضع الراهن. وباعتبار أن هناك دعوات وضغوطا قوية داخليا وخارجيا من أجل تغيير الوضع الاقتصادي الراهن, باتجاه نمط اقتصادي معين ثبت جدواه عالميا أي اقتصاد السوق, من الطبيعي أن تتحصن المصالح المذكورة وراء حجة الهوية لمقاومة التغيير, أي الادعاء بأننا يجب أن لا نقلد الآخرين ونحافظ على خصوصيتنا, انتظارا لتبلور "طريقة اقتصادية سورية أو نمط سوري", وبانتظار ذلك تستمر مصالح الفساد في استنزاف خيرات البلد.
في النتيجة الهوية الاقتصادية وهم, هي وهم يعبر عن توسع عالم الأوهام في العالم المتخلف, وهي وهم يعيشه البعض ضمن أوهامه الفكرية, وهي وهم يحاول البعض حبسنا فيه خدمة لمصالحهم, لكن المفارقة المهمة والسارة في نفس الوقت أن الاقتصاد من بين كل النشاطات لا يعرف الأوهام, الاقتصاد يعرف الحقائق والأرقام والنتائج.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاليدونيا الجديدة: كيف ستدفع الدولة فاتورة الخسائر الاقتصادي


.. كيف تؤثر جبهة الإسناد اللبنانية على الإقتصاد الإسرائيلي؟




.. واشنطن تفرض عقوبات اقتصادية على بضائع صينية، ما القطاعات الم


.. وكالة ستاندرد آند بورز تصدر توقعاتها بشأن الاقتصاد المصرى




.. برشلونة يتراجع عن استمرار تشافى ومنافسة بين فليك وكونسيساو ل