الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدث هذا قبل نصف قرن 3 ــ 4

جاسم الحلوائي

2005 / 5 / 12
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


حدث هذا قبل نصف قرن - القسم الاول

أصعب عام في العهد الملكي المباد ( 3- 4 )

في ربيع 1955 جرى تحري من قبل رجالات الأمن والشرطة في محل عملنا؛ وقد إدعى أحد رجالات الأمن بأنه عثرعلى رزمة منشورات سرية مخفية في إحدى زوايا المحل. وبناءًً على ذلك إعتقلوني. تعرضت الى علقة (بسطة) خفيفة واودعت الموقف. عرفت بان الرزمة كانت تحوي خمسة أعداد من جريدة "راية الشغيلة" [1] لايوجد بينها عددين متشابهين. وُجهت اليّ تهمة وفق المادة 89 آ، سيئة الصيت، والتي تخص النشاط الشيوعي...وما شاكل ذلك.

كنت معزولا في الموقف لوحدي؛ وفي احد الأيام أدخلوا حوالي عشرين فلاحاً الى الموقف معي ــ لعدم وجود مكان آخرلتوقيفهم ــ لأختلافهم مع الملاك حول قسمة الحاصل. جميعهم كانو أميين . كان اكبرهم سناً رجلا يناهز الخمسين عاماً، إسمه شبيب. كان وقوراً وذكيا وجريئاً. كنت أتحدث معهم، خاصة في الأماسي ، بكل ما من شأنه أن يرفع من مستوى وعيهم وأجيب عن اسئلتهم بصدق وبساطة؛ وقد كسبت إحترامهم من اليوم الأول. لقد تعلمت منهم أنا ايضا، ليس فقط طبيعة العلاقات الزراعية في منطقتهم ، بل كذلك طريقة التعامل مع الفلاحين, فعلى سبيل المثال لا الحصر:ان الفلاحين لايعجبهم تقليد لهجتهم عند التحدث اليهم من قبل إبن المدينة، ويعتبرون ذلك بمثابة سخرية بهم. إنهم يفهمون لهجة إبن المدينة بشكل جيد، وإبن المدينة يعرف ذلك، فاين المبرر لتقليد لهجتهم ؟

في إحدى الأماسي مًرمديرالشرطة أمام باب الموقف، توقف عندما شاهدني، وقال لي: "ثقفهم...ثقفهم !! ،فرصة جيدة، اليس كذلك؟ (ها...خوش فرصة ...مو؟)" وراح يتهجم عليّ، ويحذرهم من أفكاري الهدّامة. وكنت أهِم بالدفاع عن نفسي عندما إنبرى شبيب، مقاطعاً المدير، قائلا بغضب "لاتحَجي على جاسم...جاسم خوش ولد، وأحنا كلنا نحترمه" لقد أدهشتني جرأته، فإلتفت الى مديرالشرطة ناظراً اليه بشماتة ولسان حالي يقول :"أكلها يا إبن ال...". ولم أجد ضرورة لأنبس ببنت شفة. أمامديرالشرطة فإنصرف، مدارياً خيبة أمله بهمهمات تهديدية.

كان الفلاحون يشعرون بالظلم لتوقيفهم. وجاءت أحاديثي لتعمق هذا الشعور ولتحوله الى ثورة غضب؛ فقرروا الأضراب عن الطعام مطالبين بإطلاق سراحهم.

وبالرغم من انني ابصرتهم بصعوبة ذلك، وألآثارالسلبية لفشل الأضراب، الا إنهم أصروا على خوض هذه التجربة. أضرب الفلاحون، ولم يتمكنوا من الإستمرار بذلك حتى ولا 24 ساعة. وقد شمت شبيب بهم لعدم سماعهم نصيحتي بعدم الأقدام على الإضراب .

في حملة مدير شرطة كربلاء لإسقاط الشيوعيين، تمكن الشيوعي حسن جليل من الأفلات. ولقد القي القبض عليه عندما كنت في التوقيف مع الفلاحين. جُلب حسن مساءً وقد تعرض لتعذيب قاسٍ. وكان يصرخ ،وكانت جلبة التعذيب والصراخ تصلنا. لقد غضب الفلاحون أيما غضب، خاصة شبيب الذي كان الشرر يتطاير من عينيه. بعد بضعة أيام وضع حسن معنا بعد أن خفًت آثارالتعذيب عليه، فصادق هو الآخر الفلاحين، الذين اطلق سراحهم بعد حوالي اسبوعين من التوقيف. كان الملاك يتصّور بأنه أدخلهم دورة تأديبية، ولم يعرف بأنهم دخلوا دورة تثقيفية. بعد ثورة 14 تموز، تأسست جمعية فلاحية في منطقة الفلاحين المذكورين وإنتخبوا شبيب رئيساً لها.

بقيت في التوقيف ولم يطلق سراحي بكفالة، بالرغم من جهودي الحثيثة لتحقيق ذلك. كانت خطة السلطات الأمنية واضحة لي، وهي تلفيق تهمة لي لكي أحكم وفق المادة 89 آ لتتوفر فرصة إرسالي الى سجن بعقوبة، المخصص للشيوعيين، ليتكفل مديرالسجن الجلاد والسيئ الصيت، علي زبن العابدين لإستحصال (البراءة) مني. فقد اسقط هذا الجلاد عشرات السجناء السياسيين وعددا كبيرا ًمن المرحلين الي سجنه؛ من مختلف مناطق العراق، بإنتزاع (البراءة) منهم، وأصبح الخروج من سجنه امراً ممكناً، أما الدخول فقد أصبح صعبا جداً، لأنه كان ينتزع "البراءة" من أي سجين جديد يصل السجن، خاصةعام 1955 ، في عزُغروره، وكانت الحركة الوطنية في ذروة إنتكاستها. وهذا ما يفسًر عدم تعرضي لتعذيب قاس عند إلقاء القبض عليّ ؛ وكان يتفق معي في هذا الأستنتاج كل المناضلين الذين مروا بي آنذاك . معبرين بصراحة بأنني أمام تجربة جديدة وإمتحان صعب، وكانوا يعززون معنوياتي. ولأن الوصول الى بعقوبة يمر بسجن الحلة ؛ فقد كان همي الأكبر، والذي لم أبح به لأحد، ليس علي زين العابدين، بل عبد الجبار أيوب مدير سجن الحلة ، والذي هددني بعقاب عسير.

بعداكثرمن شهرفي التوقيف قُدمت للمحكمة. قلت في دفاعي" بان الرزمة لاتعود لي، وإن التهمة ملفقة من قبل الأمن". وناقشت التهمة من الزاوية القانونية ،فقلت: " إن عدم تشابه نسخ الجرائد التي يدعون بأنهم عثروعليها عندي(لوإفترضنا جدلا بأنها تعود لي) فإنها لاتوفر القصد الجنائي، فقد تكون الجرائد لمجرد الإطلاع وليس للتوزيع، وإن الأطلاع لايعتبر جريمة حسب نصوص القانون. وبالتالي لايوجد مسوغ قانوني للحكم عليّ. وأطلب براءتي من التهمة." حكمت المحكمة عليّ لمدة ثلاثة أشهر على ان تحسب لي فترة موقوفيتي .

سُفرت في اليوم التالي الى سجن الحلة، لكي أسفر من هناك الى سجن بعقوبة؛ والذي كان يرسل اليه كافة الشيوعيين المحكومين من جميع انحاء العراق. في الطريق الى السجن كنت افكر، وفي الحقيقة قبل ذلك ايضا، بصورة لقائي مع المجرم عبد الجبار أيوب واتذكرتهديده الأجرامي. فلا اتوقع سوى نتيجة دراماتيكية إن لم تكن تراجيدية. وقد وطًنت نفسى على الأمر. وصلت تلك البوابة السوداء الكبيرة لسجن الحلة، فإنقبضت نفسي، فلم أكترث لها، وصلت مكتب إدارة السجن؛لاحظت بعض الجلبة في الأدارة بين العاملين في المكتب، وغالبيتهم من السجناء العاديين. تصورت إن المديرترك السجن مبكراً. فرحت في داخلي متذكراً المثل العراقي (منا لباﭽر100 عمامة تنكلب). وكنت أعرف أحد الكتبة فإستفسرت منه "اين عمك؟" "إنتقل" قالها وعاد بسرعة الى عمله. طلبت منه ان يعيد ما قاله. كرر ماقاله وأضاف... اليوم . لم أتمكن أن اصف فرحتي في تلك اللحظة. فقد احسست بان الدنيا اخذت تتسع وعادت كما اعرفها بلا حدود،لاشئ" ثابت" فيها سوى الحركة. شعرت، وبدون مبالغة، بأني وُلدت من جديد!

في اليوم التالي لوصولي الى سجن الحلة رُحلت الى سجن بعقوبة عبر موقف السراي. كان هناك جمع غفير من رفاق الحزب في الموقف، ولم يكن يوجد بينهم اي واحد من منظمة "راية الشغيلة". وكان صاحب الحميري بارزاً بين الموقوفين. كانت الأخبار التي لديهم عن سجن بعقوبة محبطة. فجميع الذين كانو يرسلون الى سجن بعقوبة، في تلك الفترة تحديداً، كانوا يعودون بعد أن ينتزع علي زين العابدين (البراءة) منهم. لذلك كان المرء يقرأ التأسي في عيون المودعين.

سفرونا من موقف السراي الى سجن بعقوبة بسيارة تاكسي. كان معي إثنان آخران، أحدهم فاتح رسول، ، وهو من أربيل والآخر عودة... من الديوانية. كنا نتحاشى النظرفي وجوه بعضنا البعض خشية التقاء نظراتنا وإفتضاح الخوف الذي في داخلنا. كنا وكأننا مساقون الى الأعدام !! في الطريق أكلت قطعة فاكهة من التي اعطاها لنا الرفاق في موقف السراي. بعد فترة وجيزة تقيأتها؛ فندمت لأكلها لأنها فضحت قلقي .


--------------------------------------------------------------------------------

[1]ـ جريدة المنظمة التي سميت بإسمها، والتي إنشقت عن الحزب الشيوعي العراقي في شباط 1953. وحلت نفسها وتوحدت مع الحزب في حزيران 1956. وكنت شخصياً عضواً في المنظمة المذكورة. وسأكتب قريبا قصة هذه المنظمة وتجربتي معها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عواقب كبيرة.. ست مواقع بحرية عبر العالم يهددها خطر الاختناق


.. تعيش فيه لبؤة وأشبالها.. ملعب غولف -صحراوي- بإطلالات خلابة و




.. بالتزامن مع زيارة هوكشتاين.. إسرائيل تهيّئ واشنطن للحرب وحزب


.. بعد حل مجلس الحرب الإسرائيلي.. كيف سيتعامل نتنياهو مع ملف ال




.. خطر بدء حرب عالمية ثالثة.. بوتين في زيارة تاريخية إلى كوريا