الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصوت الباقى فى الوجدان

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2013 / 8 / 8
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


ذكريات طفولتى فى الزمن البعيد، مع صوت الملايين تهتف: ثورة ثورة حتى النصر، ثورة فى كل شوارع مصر. أول كلمة كتبتها بعد اسم أمى هى كلمة ثورة، تصورت أنها اسم طفلة تغنى لأمها، لم أكن أعرف بعد ما معنىٍ كلمة مصر أو وطن، كانت أمى هى وطنى.
ثم بدأت أدرك وجود أبى، تخيلته طيفا خفيفا أو ضيفا لطيفا، يروح ويجىء، ويروح ويجىء، وتظل أمى هى الوطن، وقد عشت حياتى بين المنفى واللامنفى، وظل الوطن هو حيث دفنت أمى، أزورها فى المقبرة أو فى البيت القديم الذى لم يعد قائما، وأبكى فوق صدرها فى الزمن الذى كان ولن يكون. ونشأت طفلة لا تبكى وإن فقدت أعز ما تملك. وفتاة لا تحمل فى حقيبة يدها قلم حواجب بل المشرط، ليس فقط لتشريح الجثث فى كلية الطب، بل لصد الرجال فى الأوتوبيس أو فى قاعة السينما أو على شاطىء النيل، وكنت أحب السينما والمسرح، ونسمة النيل فى الأصيل، لكن تحرش الرجال كان يحرم البنات من هذه المتع البسيطة، فقررت أن أنتزع حقى بقوة المشرط.
وكان جدى يقول: المرأة عورة، يجب أن تلزم البيت، وإن خرجت فهى المسئولة عما يحدث لها، كان تفكير جدى يتناقض مع البديهيات، فكيف أكون عورة وأنا مرتدية كل ملابسى، أدق الأرض كالعسكرى حامل السلاح، وكيف أكون مسئولة عن فساد الآخرين؟ أليس كل إنسان مسئول عما يفعل، فكيف تحمل البنات أوزار الرجال؟ وكانت أمى تعارض أباها (جدى) وتقول له: لن يكون مصير ابنتى مقبرة البيت، ستنال ابنتى من العلم والطب والأدب والفلسفة والفن والتاريخ وكل ما يشتهى عقلها.
كلمة "عورة" ارتبطت فى ذاكرتى الطفولية بصوت جدى الأجش، ورائحة الخمر والنساء فى أنفاسه المتحشرجة، ولم أعد أسمع الكلمة "عورة" بعد موت جدى، حتى عادت من جديد فى السبيعينيات من القرن الماضى مع الانفتاح الاقتصادى والمعونة الأمريكية، بدأت تغزو الأسواق المصرية مع البضائع الأجنبية، اللبان الأمريكى، البيرة الإسرائيلى، الحجاب الخليجى، الطاقية الباكستانية، المايوه الشرعى الأفغانى، والفول المدمس من كاليفورنيا، وظهرت على الشاشة المصرية وجوه غريبة مغطاة بالشعر والشوارب واللحى، الزبيبة السوداء فوق الجبهة، والمسابح الصفراء بين الأصابع، تخرج كلمة "عورة" بصوت جدى الميت من أفواههم مع رائحة الخمور المعتقة.
يتشدقون بالعورة ليل نهار، لا شاغل لهم إلا المرأة: رأسها عورة يجب أن يغطى، صوتها عورة يجب أن يكتم، مصافحتها تفسد الوضوء والصيام كخروج غازات من الأمعاء، فاسدة بالطبيعة مثل أمها حواء. وقد انتشر الحجاب ثم النقاب فى مصر، مع انتشار الجبنة المستوردة لها طعم الكاوتش، والفراخ المنفوخة بالهرمونات، وقال الشيخ الداعية والنجم التليفزيونى الجديد: إن الفن والسينما حرام، ومن ينامون على صوت الموسيقى كمن ينامون مع الشيطان. وتضخمت ظاهرة الدعاة، النجوم، الشيوخ، بالجبة والقفطان أو بالبدلة والكرافتة، وخرجت قضايا الحسبة من بطن الأرض، أصبح زنديقا كل من يقول إن الشرف هو الصدق وليس الحجاب، وأصبح مرتدا كل من يقول إن العورة هى الكذب والفساد وليس صوت المرأة.
عهود سوداء عاشها الشعب المصرى، حتى هب بالملايين فى الشوارع، نساء وشبابا ورجالا وأطفالا، الثورة وراء الثورة، ما أن تجهض ثورة حتى تعقبها ثورة. واليوم فى أغسطس 2013، يعود الكذب والفساد أشد مما كان، وتغرق مصر فى وحل الاستعمار والدماء، وما أن ترفع المرأة رأسها لتسترد كرامتها حتى يشدونها إلى القاع، وما إن يتوحد الشعب ويقرر التحرر والاستقلال حتى تنهال عليه الضربات تحت معسول الكلمات: الديمقراطية، الدبلوماسية والاستراتيجية، المصالحة والوفاق تحت المظلة الأمريكية.
الطريق أمام مصر طويل شاق، التشويه مستمر لإجهاض الثورات، الصور والأصوات الزاعقة فى الإذاعات، لكن كل هذا يتبدد تحت ضوء الشمس لتبقى الحقيقة راسخة فى الوجدان، والصوت الحميم فى ذاكرتى الطفولية يقول: المرأة ليست عورة بل هى شرف الثورة. ثورة ثورة حتى النصر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا نصر بدون ثورة ولا ثورة بدون نصر
فؤاده العراقيه ( 2013 / 8 / 8 - 12:06 )

تبقى الأم هي الوطن الأول ومنبع اول الأنفاس مهما حاولوا طمسها ووصفها على انها عورة عليها ان تتحمل جميع اخطائهم فجعلوها الشماعة التي علقوا عليها ضعفهم حينا واخطائهم حينا آخر ومن ثم وضعوها لطمس جميع الثورات لأنهم يعلمون أن نهضت المرأة ستنهض البلدان

كيف تحمل النساء الأجنة في بطونهنّ ولا يعاقب الفاعل الحقيقي بل يكون العقاب لها وحدها؟
وكيف تعاقب المرأة بسبب ضعف الرجال كونها لا تحجب جسدها في خرقة بالية سوداء بل اظهرته للنور بكل كبرياء وشموخ ؟
وكيف يكون صوت المرأة عورة وصمت الرجال وضعفهم قوة ؟
كلماتكِ سمفونية رائعة وليست كلمات قرأتها اكثر من مرة لأنها بطعم يختلف ومعجون بنكهة الحقيقة


2 - عهود سوداء
هانى شاكر ( 2013 / 8 / 8 - 12:11 )

عهود سوداء
_______

أسرع طريقة لردع الارهاب ونوال ألحرية هى برفع حد ألردة عن رقاب ألعباد

و بعدها تكون ألآراء مجرد آراء .. وليست فتاوى بأهدار دم أى أحد .. وطنى كان أم خائن ... علمانى أو مُسلم ... سنى أم شيعى .. رجل أو أمرأة ...

ساعتها ستنجلى ألأجواء .. و تتبلور و ترتفع ألمطالب ألثورية بألتحرر من ألأرتباطات و ألمعاهدات ألمذلة .. ولا تعود ألمرأة مجرد عورة ... ونسير بخطوات ثابتة نحو ألعدالة ألأجتماعية .. خبز و حرية ... وليس (( مادة فوق دستورية )) !

....

اخر الافلام

.. دروس الدور الأول للانتخابات التشريعية : ماكرون خسر الرهان


.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات اقتحام قوات الاحتلال في مخيم ن




.. اضطراب التأخر عن المواعيد.. مرض يعاني منه من يتأخرون دوما


.. أخبار الصباح | هل -التعايش- بين الرئيس والحكومة سابقة في فرن




.. إعلام إسرائيلي: إعلان نهاية الحرب بصورتها الحالية خلال 10 أي