الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صراع الهوية وإشكالية الانتماء الكوردي العربي

احسان طالب

2013 / 8 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


تتدخل الأحداث التاريخية العاصفة في بناء المكون الفكري للمجتمعات وتركيب الوعي الذاتي للأفراد ما يؤسس لمخيال جمعي يكون قاعدة لوعي فاعل ومؤثر تلقائيا وفي أحيان كثيرة غير منضبط أو متحكم به. وعادة ما تكون انتصارات الأفكار على الأرض سببا في انجراف المجموعات و الشعوب نحو تبني تلك الأفكار وتأييدها. فانتصار الثورة الفرنسية ساهم في تبني القارة العجوز لمبادىء الحرية والعدل والمساواة وتسبب انهيار النظام السياسي لمنظومة حلف وارسو في تخلي شعوب أوروبا الشرقية عن الأيديولوجية الشمولية التي سيطرت لعقود خلت على السياسة والفكر والاقتصاد. وأيضا فإن الافتقار لوجود معبر حقيقي عن الانتماءات الجمعية يؤجج الاستقطاب ويزكي الرغبة في ايجاد معبر وجودي عما تعنيه الهوية الذاتية لمجتمع ما أو ما تعنيه الهوية القومية حيث تتداخل الذاتية الفردية بالهوية الجمعية بظل الشعور بالتهميش أو الإقصاء. فالانغلاق والتعصب قد ينجم في كثير من الأوقات نتيجة للخوف الوجودي أو خشية ضياع الهوية داخل المكون الأكبر سياسيا كان ، كالدولة ، أم أيديولوجيا كالدين
وفي منطقة الشرق الأوسط ساهم وجود إسرائيل واستمرارها والإصرار على الهوية الدينية للدولة في تصلب مذاهب القومية العربية وإلتفات شعوب المنطقة إلى الجذر الديني للحروب و الصدام وتركب بنية العقل العربي من مكون قبائلي عشائري ديني متراجع في وعيه وفكره عن مفاهيم الانتماء الوطني القائم على المواطنة والعقد الاجتماعي بين الفرد والدولة مما سهل مهمة الأنظمة الشمولية في استغلال إشكالية الانتماء الوطني وحصرها في الولاء للسلطة وما ترفعه من شعارات و ما تطرحه من سياسات ترمي إلى تذويب الوطن الصغير في وعاء الوطن القومي المترامي الأطراف والمثالي الوجود والحقيقة .
وأمام واقع كانت تشهده البلاد العربية تسيطر عليها فيه قيم قومية ذات رؤية أحادية وضعت الأقليات العرقية والقومية أمام امتحان صعب وخيارين لا ثالث لهما إما الذوبان وضياع الهوية التاريخية والثقافية بانضمامها وإلحاقها بالعروبة شكلا ومضمونا و إما تنحيتها خارج الوطن وسلبها هويتها الوطنية ، وهذا ما حدث بالفعل في إحصاء عام 1962 في سورية حيث جرد مئات الآلاف من الأكراد من جنسيتهم السورية . في ظل تلك الأجواء العدائية السائدة كان من الطبيعي توجه العقل الكوردي نحو الانغلاق على ألذات القومية خاصة تجاه حرب الإبادة التي مارسها نظام صدام في صراعه مع الكورد و الصراع التركي المتبادل، وتحالف النظام الإيراني إقليميا ضدهم .
وفي ظل نظام عالمي جديد ورغبة أممية في الحفاظ على الأقليات العرقية و القومية و الدينية ، وإشاعة مناخات دولية ديمقراطية ، كان لابد من حدوث تغييرات في طرائق التفكير و مناهج الفكر ، فبدأت الأفكار القومية المغلقة عربية كانت أم كردية تخضع للنقد و البحث و المراجعة على أسس إنسانية وديمقراطية تقوم على المشاركة في الوطن وقبول الآخر والمختلف . وجاء سقوط نظام الطغيان في بغداد ليتأكد هذا التوجه وتدعم مسيرته .
الحالة السورية :
تفتقد مكونات النسيج السوري المتنوعة إلى التجانس و التآلف الحقيقي بعيدا عن الشعارات والأوهام ، حيث تتوفر المجتمعات السورية كغيرها من دول العالم على قوميات وأعراق وديانات وطوائف و مذاهب متباينة ومختلفة ساهم الاستبداد في تعميق اختلافاتها وطمس خصائصها الحضارية والثقافية وحاول إخفاء تناقضاتها بتغيير ملامح المفاهيم والانتماءات الوطنية ، مفرزا نوعا جديدا من الوطنية يقوم على الولاء المطلق والوفاء الخالص لرأس السلطة و الحزب القائد من تحته (لا يوجد في المجتمع السوري ما يسمى بالمعارضة. فالمجتمع السوري متصالح مع نفسه. ولا يحتاج لمن يجري هذه المصالحة كما يقولون. والمجتمع السوري ملتف تماما حول قيادته وحول الحزب وحول الجبهة الوطنية التقدمية وحول الرئيس بشار الأسد" ) مدير عام هيئة الإذاعة والتلفزيون د. فايز الصايغ ، ما عبر عنه الدكتور فايز الصايغ ليس رأيا فرديا ولا مجرد شطحة تهدف للانبطاح تحت قدمي السلطة لكنه وللأسف وعي كامن في ثقافة الولاء والانتماء المزيف الذي استقر في وجدان الطبقة المثقفة السورية الدائرة في فلك السلطة وأروقتها ، ما يوضح عمق المأزق الثقافي والفكري الذي تعاني منه الحاضرة الثقافية السورية في ظل حكم الاستبداد ، وتذهب تلك الأزمة عميقا عندما نجدها عالقة في أطروحات المعارضة العربية السورية المفرزة في حقيقة أمرها من داخل قوالب السلطة التي أفرزت معارضة تشبهها إلى حد بعيد ، فلا يصعب العثور على مقولات قريبة مما سبق بين أروقة المعارضة
لقد دأب النظام السوري منذ عقود على تأكيد رزمة من الادعاءات ينفي من خلالها باقة من الاختلافات و الاثنيات المتأصلة و المجزرة في عمق مكونات الشعب السوري منذ غابر التاريخ .
إن عبارات مثل الوحدة و اللحمة و التوحد والانصهار و الشعب الواحد والأمة الواحدة و القومية الواحدة كانت وما زالت طاغية على الخطاب الرسمي وعادت لتحتل الأوليات و التركيز إمعانا في تزييف الوعي و إغواء العقول .و عندما تنادي المعارضة السورية الوطنية بالتغير الوطني السلمي الديمقراطي التدريجي فإنها تساهم في إزالة إشكالية الانتماء و الهوية الوطنية والقومية ، وعندما ترد السلطة بعدم وجود معارضة فإنها تؤكد عل ترسيخ منطق النظام الشمولي الذي لا يعترف بالاختلاف و التباين ويريد صهر الجميع في بوتقة بقاءه وديمومة خلود سلطته . بالاستناد إلى شعارات و مبادئ لم يتحقق منها شيء في الوقت الذي تحتاج فيه تلك الشعارات إلى مناقشات ومراجعات معمقة.
يختزل الانتماء أو الهوية القومية ما سواه من انتماءات دينية ومذهبية ، فالعرب أمة يشكل المسلمون أكثرية غالبة من أبنائها وشعوبها وتليه الديانة المسيحية في المركز الثاني كما تتواجد اليهودية بصورة ضئيلة بعد الهجرات الكثيفة إلى داخل فلسطين وخاصة بعد إقامة دولة إسرائيلية فوق الأراضي الفلسطينية ، كما يختزل البعد القومي التشعبات المذهبية والطائفية ، لكنه يضغط عليها لتتوارى عن السطح ، ما يوغل بثبوتها ورسوخها.
غالبية وربما جميع البلدان المتحضرة يغلف الطابع الوطني ما عداه من ولاءات فالأمة الفرنسية مثلا هي الأمة الوطنية الفرنسية بكل ما تحويه من أعراق وديانات وينص الدستور الفرنسي الوطني على التمسك بالعلمانية اللائكية التي تفصل بين الدين والسياسة وتعلي شأن الانتماء الوطني وتحافظ على نمط الثقافة الفرنسية ولا تقبل تغييرها ناهيك عن الإطاحة بها بذرائع دينية ، من هنا نرى كيف يختلط مفهوم الوطن بالثقافة والتراث والعادات والتقاليد.
ربما يكون التعارض القومي والوطني على أشده في كل من العراق وتركيا ، حيث تعترف الدولة العراقية بالقومية الكوردية ويتمتع الإقليم الكوردستاني العراقي بحكم ذاتي مثالي يشتمل على حكومة وبرلمان وسلطة قضائية إلا أنه من حيث المبدأ جزء لا يتجزأ من العراق، في الحالة التركية يختلف الحال حيث لا تتوفر الأقاليم الكوردية في تركيا على حكم ذاتي لكنها شريكة في السلطات الوطنية التركية ويعمل حزب العدالة والتنمية على حل المسألة الكوردية باعتراف حقيقي بالحقوق الثقافية والقومية الكورية، في سوريا تميل الغالبية الساحقة من أكراد سوريا إلى ضرورة الإعتراف الدستوري بالقومية الكردية وبتطبيق نظام الحكم الفدرالي كأسلوب سياسي وطني يحقق التوازن بين الانتماء الوطني والقومية ، في حين تعارض الأغلبية الشعبية والسياسية العربية ذلك التوجه خشية من تحول الفدرالية إلى سبيل لتقسيم سوريا وتجزئتها ، ويدافع أكراد سوريا بضرب أمثلة لدول صغيرة فدرالية كسويسرا وهي فدرالية ناجحة ولا تهدد الوطن بالتقسيم ، ويضرب العرب السوريون نماذج لفدراليات قسرية تطالب بالتقسيم والتفكك كما هو الحال في اسبانيا حيث لا ينفك إقليم كتلونيا عن المطالبة بالانفصال .
تتغلب الانتماءات الدينية والمذهبية في أوقات كثيرة على الانتماءات القومية والمثال الواضح موقف الشيعة العرب من الثورة السورية ففي الوقت الذي يقف تقريبا كل العراقيين الشيعة و90% من اللبنانيون الشيعة موقف التأييد المطلق مع نظام الحكم القائم في إيران ـ رغم الصراع التاريخي الطويل بين الفرس والعرب ـ لنظام الحكم الأسدي في سوريا نجد النسبة معاكسة تماما في دول الخليج العربي والسعودية واليمن ، طبعا لا يقتنع أحد بمقولة الاصطفاف السياسي على أساس أن الشيعة العرب يقفون إلى جانب الفرس استنادا لاستقطاب سياسي يتمحور حول قضية الممانعة والمقاومة لوجود دولة إسرائيل ودفاعا عن الأراضي السورية المحتلة من قبلها ، ويذوب ذلك الزعم ويضمحل فيما إذا علمنا أن الشيعة العرب أطاحوا بنظام صدام حسين البائد بجيش وسلاح أهم داعم وحليف استراتيجي لإسرائيل كما سكتوا طيلة أربعين عاما على احتلال إسرائيل للجولان السوري الذي بقي آمنا بل والأشد أمنا من كافة الجبهات العربية الإسرائيلية رغم إدعاء نظام الأسد الممانعة والمقاومة ، تلك الحالة من الاستقطاب الطائفي وبناء التحالفات الطائفية القافزة فوق الانتماءات القومية يجعل من إشكالية أولويات الهوية أمر معقدا وصعبا ، لكن مما لا شك فيه أن الهوية العربية في تدهور وتراجع متسارع تطغى عليها الانتماءات والولاءات الدينية بل وللأسف الإنتماءات الأضيق ـ الطائفية ـ في حين ما زالت ـ أو هكذا يبدو على الأقل الهوية القومية الكوردية علوا على ما سواها من هويات ، ولكن هل يعود ذلك التآلف والتعاضد القومي إلى غياب الدولة القومية الكوردية الجامعة الكبرى ، بمعنى أن غياب التمثيل السياسي للقومية الكوردية يشكل قوة ودافعا وطاقة محرضة ومحركة باتجاه الاصطفاف القومي ما يمنح الهوية القومية ثقلا وقوة؟ لا يستطيع باحث استشراف المستقبل بحيث يتمكن من تقديم رؤية للتحولات السسيولوجية المتوقعة وربما الطارئة على شعوب ومكونات بلدان الشرق الأوسط ، لكن من المعروف أن الغالبية الساحقة من الكورد هم في الأصل مسلمون سنة وتغلب على عاداتهم وتقاليدهم مؤثرات الموروث الإسلامي السني ، ويشتمل مكون العرق الكوردي على أقليات مذهبية وطائفية ، من الشيعة والعلويين واليزيديين ، إلا أن تلك الاختلافات المذهبية لم تطف على السطح لحد اليوم ، ولا يستطيع أحد تأكيد تقدمها أو تراجعها عن صلب الأمة القومية والتحاقها بالأمة الطائفية كما هو الحال عند الأكثرية من الشيعة العرب ، حيث أفصحت الحالة السورية والعراقية والبحرينية واللبنانية عن ذلك التوجه وبدا جليا اصطفاف الشيعة العرب ضد أو مع استنادا لانحياز طائفي ، يشكل ذلك خطورة بالغة على وحدة وتماسك المجتمعات العربية، كانت حالة القهر السلطوي طاغية تمنع تمييز ذلك الانحياز .
الهوية المضطهدة هوية طاغية تتعالى في الوعي على ما سواها وتتشبث في طبقة اللاوعي بجدل تحريضي دائم. ويبقى السؤال الضروري هنا : هل الهويات أو الانتماءات الطائفية والدينية أشد رسوخا وثباتا من مثيلاتها القومية والوطنية؟ أم أن سيكولوجية الصراع وفق سيرورة تاريخية هو الحاسم في ابراز وتثبيت هوية ما دون سواها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا: تعاون استراتيجي إقليمي مع تونس وليبيا والجزائر في م


.. رئاسيات موريتانيا: لماذا رشّح حزب تواصل رئيسه؟




.. تونس: وقفة تضامن مع الصحفيين شذى الحاج مبارك ومحمد بوغلاب


.. تونس: علامَ يحتجَ المحامون؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد لقاء محمد بن سلمان وبلينكن.. مسؤول أمريكي: نقترب من التو