الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توقيع الروائي

فلاح رحيم

2013 / 8 / 12
الادب والفن


حرص المخرج المعروف الفرد هتشكوك على أن يظهر في لقطة قصيرة من لقطات أفلامه. لم يكن ظهوره يتصل بأحداث الفيلم أو نسيجه الفني بل كان رغبة منه أن يضع توقيعه بالصورة على الفيلم. وقد شاع هذا الأمر حتى صار هتشكوك يحرص على الظهور في اللقطات الأولى من الفيلم لكي لا يفسد على المشاهد متعة متابعة الأحداث لانشغاله بانتظار تلك اللقطة التي يظهر بها المخرج. يبدو أن نظرية موت المؤلف (حتى لو صحت) لا تعدو جريمة يقترفها النقد البنيوي وما بعد البنيوي بحقه، لأن رغبة المؤلف في الحضور وتذكير القارئ بوجوده متأصلة في نفسه.
الروايات البانورامية الكبيرة تقدم نماذج متقدمة عميقة الدلالة على هذه الرغبة. لقد شاع عن رواية "آنا كارنينا" أنها حكاية خيانة زوجية، والسبب كما يتفق الكثير من النقاد هو عنوان الرواية الذي يمثل إشكالية دائمة تسبب الإرباك. تنقسم الرواية إلى حبكتين كبيرتين تكادان تتقاسمان صفحاتها بالتساوي؛ هنالك حكاية آنا كارنينا من جهة، تقابلها حكاية قسطنطين ليفين من جهة أخرى. التساؤل الدائم هو لماذا العنوان الذي يضلل القارئ ويجعله يعجب عند القراءة لأهمية ليفين التي لا تقل عن أهمية آنا بالرغم من أنه غائب عن العنوان. هنالك من يرى أن تولستوي أراد أن يستدرج القارئ عبر عنوان مثير يذكره برواية فلوبير "مدام بوفاري"، لكنه بعد أن يضمن دخول القارئ عالم روايته يقدم له صورة بانورامية مفصلة للحياة الروسية بأسرها عبر موضوعة تتجاوز في نهاية المطاف الخيانة الزوجية لتصل إلى إثارة سؤال المعنى والحياة واجتماعية الوجود الإنساني بوصفها الشرط اللازم للبقاء. لا خلاف أن ليفين هو سيرة فكرية واجتماعية لتولستوي نفسه وقد قرر أن لا يكتبها على طريقة تناوله لطفولته وصباه في أعماله المبكرة. ليفين الناضج يواجه أسئلة عميقة عن معنى وجوده وإيمانه الديني وعلاقاته بالآخرين، ولا يمكن لمثل هذه الأسئلة أن تكتسب أبعادها المتشعبة إلا بأن يضع بطله وسط شبكة عريضة من الشخصيات والحكايات. بينما تنتحر آنا في نهاية الرواية، يتوصل ليفين إلى نوع من التنوير في وجوده وحياته الزوجية فكأنما التضحية بآنا تهدف إلى الحصول على ذلك الهدف التنويري.
في ثلاثية نجيب محفوظ الخالدة يحدث أمر مشابه. يقدم محفوظ سيرته الذاتية وسط بانوراما من الشخصيات والقضايا المتنوعة. ويتابع القارئ كمال عبد الجواد وهو ينشأ في قاهرة العشرينات ويواجه أسئلة لا تقل تعقيدا وعمقا عن تلك التي واجهها بطل تولستوي ليفين. في فصل من "قصر الشوق" يخرج كمال مع أصدقائه الأرستقراطيين إلى الأهرام ويعدهم في جلسة سمر أن يأتي على ذكرهم إذا ما كتب يوما روايته الكبيرة. ويسألونه بما يشبه المزاح إن كان سيمتدح سجاياهم فيعد بذلك. من المعروف أن حكاية كمال عبد الجواد تمثل سيرة ذاتية لمحفوظ، ولكنه كشأن تولستوي قدمها في غمرة شبكة واسعة من الوجود الاجتماعي ورآى أنها لن تكتسب معناها إلا داخلها. وقد سئل محفوظ كثيرا عن السبب الذي يمنعه من كتابة سيرته فتحجج بأنه قال كل ما لديه عن نفسه في المقابلات الكثيرة التي أجريت معه. لكن محفوظ كتب سيرته فعلا في الثلاثية. يبدو أن قدر الروائي ان يكتب سيرته بوصفها توقيعا على لوحة كبيرة لا تخصه وحده، وإلا فعليه أن يتجه إلى كتابة الشعر الغنائي أو القصة القصيرة أو الموسيقى. وبالرغم من أن كمال عبد الجواد لا يحقق التنوير الذي حصل عليه ليفين فإن نهايته المأزومة ظلت تمثل لأجيال كاملة حتى يومنا هذا أزمة المثقف العربي العلماني وهو يسعى إلى العثور على مكانه في خارطة وجوده الاجتماعي والتاريخي.
ما دعاني إلى هذه التأملات سؤال طرحه الصديق الناقد ناظم عودة على الفيسبوك: "لماذا الرواية العراقية صارت تجد شكلها الجاهز في شخصيات مثقفة بوسعها أن تحمل وجهة نظر المؤلف بكل شروحها الإنشائية المملة؟ لماذا اختفتْ شخصيات القندرجي، مثلاً، السماك، الحداد، الخباز، البغيّ، الحلاق، وجميع المهن الشعبية التي تقتضي تقمصاً هو رهان الإبداع؟" سؤال وجيه. أعتقد أن انشغال الروائي بنفسه أمر طبيعي وبديهي. الأدب في نهاية المطاف بوح ذات متعينة خبرت الوجود واستشعرت الحاجة إلى إعلان شهادتها. مشكلة الرواية العراقية ( ولابد أن نحذر التعميم) أن هذا الميل المشروع إلى الانشغال بالذات المثقفة للروائي يتحقق عبر الانسحاب من البيئة الاجتماعية والتاريخية والسياسية لوجوده، وينتهي إلى اعتقال القارئ في زاوية ضيقة من نرجسية مريضة. قد تكون نخبوية الروائي وقناعته أن الحقيقة تقع في مختبر فنه الروائي لا في ميدان تجربته الاجتماعية والتاريخية هما السبب الأهم في هذا الميل. أما الظروف التي دفعته إلى الانزواء في عتمة ذلك المختبر فيأتي في مقدمتها ما أحاط به من استبداد وتكميم للأفواه جعل كلامه الأدبي مثل صمته يدور في حلقة مفرغة. لابد أن نختم بإشارة إلى رواية حافظت على عافيتها وهي تقتحم شبكة القمع هذه، وأعني هنا "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف التي قدمت المثقف وهو يعيش أزمة القمع الشرق أوسطي عبر استقصاء دقيق وشجي لبيئته العائلية والاجتماعية (علاقته بأمه وأخته وزوجها). يتناوب على سرد الرواية بالتساوي رجب إسماعيل الخارج من المعتقل وأخته أنيسة التي ترصده من زاوية حميمة أبعد ما تكون عن منظوره السياسي النرجسي (هو أيضا يكتب سيرته المعذبة ولا يكف عن التدخين). لقد أبقى منيف بطله في صلب وجوده الاجتماعي العادي ولم يأخذه إلى البارات والمواخير حيث يتحول القمع إلى علة نرجسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا