الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


علي بدر ومارغريت أتوود: هل تموت الأيديولوجيا في العراق وتولد في أميركا؟

فلاح رحيم

2013 / 8 / 12
الادب والفن


الصدفة وحدها قادتني لقراءة رواية الكاتبة الكندية المعروفة مارغريت أتوود "حكاية خادمة" (1986) The Handmaid s Tale مباشرة بعد اطلاعي على رواية الكاتب العراقي المتميز علي بدر"الركض وراء الذئاب" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007). وهكذا وجدت أن مقارنة العملين أمر يفرض نفسه عبر مجموعة من التساؤلات المتعلقة بالرؤيا التي تصدر عنها الروايتان. ولا بد من التأكيد ابتداء أن "حكاية خادمة" تعد من أفضل ما كتبت أتوود، وقد قرأت لها ما لم أتحمس له كثيرا، بينما تعد "الركض وراء الذئاب" عملا ثانويا لا يمثل الإنجاز الروائي الرائع لعلي بدر في أعمال أخرى أخص منها "صخب ونساء وكاتب مغمور" التي أجدها من أفضل ما قرأت عن تسعينيات الحصار. تهدف المقارنة إذن إلى إثارة سؤال فكري بالدرجة الأولى يتعلق بالطريقة التي يَطرح بها سؤال التمترس الأيديولوجي نفسه في عالم اليوم. وهي تهدف أيضا إلى التعبير عن دهشتي وأنا أجد روائيا عراقيا مثقفا مشغولا بمحنة بلده يبشر بعصر ما بعد الحداثة وموت الأيديولوجيات بينما ترتعد كاتبة كندية مشغولة بأسئلة الحياة في شمال أميركا رعبا أمام احتمال عودة التعنت الأيديولوجي إلى أميركا على طريقة القرون الوسطى وولادة محاكم التفتيش بأقسى صورها من جديد هناك.
تبدأ رواية علي بدر من فكرة مبتكرة فيها خيال روائي جامح. حيث يعمل عراقي مهاجر إلى أميركا لدى وكالة أنباء أمريكية ترسله لكتابة تحقيق عن مجموعة من الشيوعيين ( أو التروتسكيين) العراقيين لجأوا إلى أثيوبيا إبان حكم منغستو هيلي ميريام، وهو حاكم انقلابي ماركسي. سبب المهمة اهتمام أميركا المتزايد بشؤون العراقيين بعد الاحتلال الأمريكي للعراق. وتكون هذه المهمة مناسبة لتأملات عن وهم الثورة الذي استخدمه الاستبداد لتبرير نفسه عبر التاريخ الحديث للعالم الثالث. لكن هذه الفكرة الطريفة تواجه عند تنفيذها ومتابعتها سرديا مشاكل عدة.
تنقسم الرواية إلى ثلاثة فصول؛ الأول عن حياة الصحفي العراقي مع زوجته الأمريكية وأولاده وعشيقته البولونية (واضح أن لدينا هنا تجمعا كزموبوليتيا عابرا للقوميات سائبا!). يتناول الفصل الثاني زيارته لأديس أبابا ولقاءه بآدم ولاليت وغيرهما من الثوريين الذين تحولوا إلى السكر والعربدة والدعارة. وهو يبحث عن ثلاثة عراقيين هم أحمد سعيد، وميسون عبد الله، و جبر سالم. والواقع أن انتظار القارئ لمعلومات عن هؤلاء يمتد ثلثي الرواية ولا يظهر أولهم إلا على ص 111 وهو جبر سالم ومنه نعرف أن الآخرين قد غادرا إلى أوربا بعد سقوط حكم منغستو مريام. ثم نسمع حديث جبر وحكايته فلا نجد فيها كشفا يضيف جديدا إلى ما سبقها من تعليقات الراوي: خيبة أمل في الثورة في العراق ثم أثيوبيا واتهام الراوي بأنه عميل وجاسوس لرفاقه من العراقيين. الفصل الثالث هو العودة إلى أمريكا وحديث مطول إلى فيفي البولونية في أحد البارات، فيه تنظيرات كثيرة عن عقم الثورات وما جرّت على الناس من مصائب، وهجوم على العنف المتستر بالدين ورموزه. ثم يقرر الراوي أن يختلق لقاءات وهمية مع أحمد سعيد وميسون ويقول لفيفي: " أرجوك لا تضحكي ... هذه الأشياء التي اخترعتها كان يمكن أن يخترعها صحفي آخر، ولكن بطريقة معكوسة، سيصنع من هذين الشقيين أبطالا ومحررين .... كل شيء أصبح صناعة وفبركة. كل شيء موضوع ومبرمج حسب المصالح صدقيني." (ص 167 ـ 168). ثم يصور الثورة كالذئب نطارده ونحن ندرك أن الإمساك به سيؤدي إلى موتنا بينما مواصلة السعي خلفه ستتعبنا.
تقدم لنا أتوود في روايتها "حكاية خادمة" صورة يوتوبية مضادة، على طريقة أوريل في "1984"، لأميركا وقد سيطر عليها تيار ديني متشدد أعادها إلى عصر محاكم التفتيش والقمع الذي حاربه التنوير وظن أنه قضى عليه. وهو ما يعبر عن قناعة أتوود أن عصرنا هو عصر عودة الأيديولوجيات المتطرفة، وروايتها تقرع ناقوس الخطر في وجه ذلك. تروي الحكاية خادمة تعمل لدى أحد قادة العهد الجديد فتصف التزمت الأخلاقي الديني في هذه الجمهورية الجديدة، والنزعة التطهرية البيوريتانية التي تخاف الجسد وتشك في نوازعه الطبيعية. هنالك في الرواية العمة أنيت التي تتولى هداية النساء وهي تستشهد بأبيات من شعر جون ملتون المعروف بحماسه لحكومة كرومويل البيوريتانية. اسم الراوية أوفريد Offred وهو يعني "من تنتسب إلى فريد" وهو أسم سيدها (وكذا الحال مع صاحبتها أوفغلن التي تعمل لحساب غلن). تلتقط أتوود في استبصار عميق حقيقة أن إيقاع الحياة في ظل الاستبداد يكون بطيئا خاويا خاليا من الإثارة على عكس ما قد يتصور من لم يعش في ظل هذه الأنظمة. بعد حدث سيطرة السادة الجدد على مقاليد الأمور في أميركا (وهو حدث في غاية الإثارة) تجف الدهشة في الحياة ويصبح التلصص والتداعيات المخزونة في قفص المخيلة هما الحدث الوحيد.
لكن رواية أتوود سرعان ما تبدأ تدريجيا بكسر رتابتها هذه لأن البشر لا يمكن أن يتحولوا إلى أدوات طيعة في لعبة القمع. والغريب أن مبادرة كسر الرتابة تأتي من القائد الذي تعمل أوفريد في خدمته، إذ يستدعيها سرا (بوساطة سائقه نك) إلى مكتبه ليلا دون علم زوجته سيرينا جوي (التي كانت قبل التحول مغنية أوبرا ثم انقطعت لوجودها البيتي). ويتضح أنه يريد من خادمته أن تلاعبه السكربل، ثم يطلب منها بعد اللعبة أن تقبله كما لو كانت تقصد ذلك! والواقع أن هذا القائد لا يحتاجها لممارسة الجنس لأنه يمارسه معها بين حين وآخر بحضور زوجته الورعة للحصول على طفل له منها. وهي ممارسة غريبة تشبه ممارسة طقس ديني في إشارة إلى الفكرة المسيحية أن غاية الجنس الوحيدة هي التكاثر. والخادمات في الرواية يعطين فرصة الإنجاب لفترة معينة فإذا فشلن (السبب هو المرأة دائما!) يسفرن إلى المستعمرات لممارسة أعمال شاقة وخطرة تنتهي بهن إلى الموت.
التطور الآخر لقاء أوفريد مع صديقتها القديمة مويرا التي ترتب للحوار معها سرا في المرافق الصحية. ومويرا هذه غير مستعدة للرضوخ وتقاوم بأن تهرب من المجمع التربوي ثم يلقى القبض عليها وتقابلها أوفريد أخيرا في بيت دعارة للقادة يدعوها إليه سيدها. وعندها تجد أوفريد أن روح صديقتها المقدامة قد هزمت وفقدت زخم رغبتها في المقاومة. تتواصل أحداث الرواية للتركيز على صورة مجتمع متزمت متحكم على طريقة القرون الوسطى من جانب، وانبثاقات المقاومة لهذا الحال من جانب آخر، والمجال لا يسمح باستعراض ما تبقى وآمل أن يتنبه الناشرون لترجمة هذا العمل الأدبي الرائع إلى العربية. لكن الأيديولوجيات تتصارع في هذه الرواية وكأن شيئا لم يتغير في عالم اليوم.
تحاول الروايتان موضع البحث التصدي لتداعيات تبلور ما اصطلح على تسميته النظام العالمي الجديد وظاهرة صعود المحافظين الجدد في أميركا. يرى علي بدر أن عصر الأيديولوجيات الثورية الساعية إلى التسلط الأحادي، وعصر المقاومة والتورط السياسي قد انتهى ودخلنا عصر فوضى ما بعد الحداثة الذي تحول فيه مناضلو الأمس إلى مجموعة هامشية ضائعة. بينما ترى أتوود أننا مقبلون على عودة مخيفة للتسلط والمركزية المطلقة على طريقة القرون الوسطى، لكن الإنسانية لن تقبل الهزيمة وستبقى تؤكد حريتها بوصف ذلك الخيار الوحيد أمامها. مسرح الأحداث في رواية بدر هو العالم بأسره (أثيوبيا، العراق، أمريكا) وأعتقد أن ذلك يدخل في صلب رؤياه في هذه الرواية، إنها فوضى العالم الجديد وأفول العقائدية فيه. وهو ما ينعكس على إيقاع روايته البرقي المتسارع الذي لا يسمح بالتعمق في الأسئلة الخطيرة التي تثيرها. إيقاع رواية أتوود بطئ متأن يستقصي صورة العالم الجديد الكابية وقد سكنت وجفت في ظل الاستبداد الديني وفقد فيها الإنسان مبادأته وعفوية وجوده.
تعاني رواية علي بدر من أحادية الصوت فيها (على النقيض تماما من تعددية الصوت البوليفونية التي أعلى من شأنها باختين). من الغريب أن جميع الشخصيات في الرواية، من الراوي وحتى السياسيين الذين التقى بهم دون استثناء، مقتنعون قناعة تامة بأفول الأيديولوجيا وهامشيتها في عالم اليوم. وحتى الرحلة إلى أفريقيا لم تكشف للراوي أو القارئ شيئا يختلف عما بدأت به الرواية (لنتذكر رحلة مارلو في "قلب الظلام" لكونراد وهول لحظة وصوله قلب أفريقيا وتعرفه على حكاية كورتز وما رافق ذلك من كشف خلد هذه الرواية القصيرة). نجد لدى أتوود بالمقابل تعددية أصوات ثرة ومواقع متنوعة تجاه حدث الانقلاب القروسطي، وهو ما أتاح لها في النهاية أن تكشف لنا عبر هذه اليوتوبيا المضادة طبيعة القوى التي تتصارع في عالم اليوم.
من الأمور التي تكلم عنها نجيب محفوظ بمرارة في مذكراته التي سجلها رجاء النقاش انتقاد د. لويس عوض له لأنه لم يذكر في ثلاثيته العمال والفلاحين، وردّ محفوظ أن الرواية تتناول صغار التجار والطبقة الوسطى أساسا ولا مجال فيها لذلك. ما أنبه إليه في رواية الكاتب البارع علي بدر لا يبتعد كثيرا عن الشريحة التي اختار تقديمها، وهو دعوة إلى استقصاء الواقعة التي يتناولها بشمولية أكبر، ذلك أن الرواية تختلف عن الشعر في أنها أقرب إلى غزارة الواقعة منها إلى شطحات الخيال والفكر. وقد خطر لي وأنا أقرأ عن هؤلاء الشيوعيين المتناثرين في المواخير والبارات، لا ينطقون عبارة إلا وفيها تجديف أو شتيمة مقذعة السؤال التالي: أين مكان الرجال من أمثال الشهيد كامل شياع الذي عاد من قلب ما بعد الحداثة في بلجيكا ليناضل في بلده ويموت؟ وأين نموذج المثقف العراقي الكبير قاسم عبد الأمير عجام؟ كنت انتظر من رواية مثل "الركض وراء الذئاب" أن تقدم لنا رؤيا تكشف فحوى ما نراه من تمترس أيديولوجي غير مسبوق سواء على مستوى الأحزاب العراقية أو النظام العالمي الجديد، وهو ما تساعدنا على تلمسه كاتبة من شمال أميركا مثل أتوود!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير