الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فتحي المسكيني و ترجمة -الكينونة والزمان-

فلاح رحيم

2013 / 8 / 14
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


هنالك العديد من الكتب المؤسسة في المعتمد الغربي ظل مكانها شاغرا في الثقافة العربية. وقد سدّت الفراغ إعادة الكتابة التي تمثلت في كتب تُعلّق على الأصل أو مقالات تستعرضه بابتسار وتسرّع. وكتاب "الكينونة والزمان" لمارتن هيدغر الصادر عام 1927 مثال بارز على هذه الحالة المؤسفة. لقد كُتب وتُرجم الكثير عن هذا الكتاب، وورد ذكره في متون ما لا يحصى من الدراسات حتى توّلد الانطباع أنه لابد قد ترجم إلى العربية في مكان ما. ويبقى القارئ يجد صعوبة في فهم امتناع مترجمين كبار مثل عبد الرحمن بدوي وفؤاد كامل وعبد الغفارمكاوي وغيرهم كثيرون عن ترجمة هذا الكتاب التأسيسي المحوري في تاريخ الفكر الغربي عموما والفلسفة الوجودية التي انشغلوا بنقلها إلى العربية خصوصا. كما أن القاريء وهو يشهد صدور ترجمة الكتاب العربية في وقت متأخر كهذا (عام 2012) ليتساءل عما كان سيعنيه صدور ترجمة مبكرة له في الخمسينات أو الستينات إبان تصدّر الوجودية المشهد الفكري في أوربا و البلدان العربية. لقد تأثر الكثير ممن خرجوا على الوجودية الفرنسية وحاولوا تفنيدها من معطف هيدغر الذي أطلقها أولا، وبينهم بول ريكور وجورج غادامير وميشال فوكو وجاك دريريدا وغيرهم. وهو ما يدل على أن غزارة الفتوحات الفكرية للكتاب لا يحده مذهب فلسفي بعينه.
ربما ساعد على اقتراح إجابات عن هذه الأسئلة التدقيق في الظروف التي أتاحت صدور الكتاب بالعربية أخيرا. يعود الفضل في انجاز هذه المهمة التي طال أمد تأجيلها إلى المفكر والأكاديمي التونسي د. فتحي المسكيني، وهو أستاذ متخصص في الفلسفة مارس تدريسها في جامعة تونس منذ عام 1990 وحاز على شهادة الدكتوراه في الفلسفة منها في حزيران 2003. لكن المسكيني لم يكتف بالشهادة الأكاديمية وسيلة للرزق والانزواء فاصدر العديد من الدراسات الفلسفية المتخصصة منها "هيغل والميتافيزيقا: دراسة تأويلية لعلم المنطق" (1997)، و "فلسفة الثوابت" (1997)، و "الهوية والزمان: تأويلات فينومينولوجية لمسألة ‘النحن‘" (2001)، ثم "نقد العقل التأويلي أو فلسفة الإله الأخيرة: هيدغر من الأنطلوجيا الأساسية إلى تاريخ الوجود" (2005) و "الهوية والحرية: نحو أنوار جديدة" (2001). وهي قائمة من الاصدرات تؤكد انهماك المسكيني في مشروع فكري جاد متخصص يجمع الرصانة الأكاديمية والمغامرة النقدية المفارقة. فضلا عم ذلك ترجم المسكيني كتبا مهمة لفردريك نيتشه وايمانويل كانط وهانس كولر.
المقوم الثاني لإنجاح مهمة نقل الكتاب إلى العربية هو حرص دار الكتاب الجديد المتحدة على اقتناص الشواغر العسيرة المؤجلة في الثقافة العربية للتصدي لمهمة ملئها بصبر ودأب. يخبرنا المسكيني في مقدمته أنه بدأ الترجمة في تموز 2003 وانتهى منها في أيلول 2009 وهو ما يعني أن الترجمة التي بين أيدينا كانت حصيلة جهد امتد ست سنوات من المتابعة والعمل الدؤوب.
إن أحد أهم أسباب التأجيل الطويل لمهمة نقل الكتاب إلى العربية ما عُرف من صعوبته واعتماده الابتكار اللغوي وسيلة لاستكشاف مناطق لم تتعمق فيها الفلسفة الغربية قبل هيدغر. وهي صعوبة عانى منها قراء الكتاب الألمان قبل غيرهم. ويناقش المسكيني مسألة إن كان متاحا نقل كتاب هيدغر إلى لغة أخرى من حيث الإمكان فيذكرنا أن الكتاب قد تُرجم إلى اليابانية عام 1940، والاسبانية عام 1951، والايطالية 1953، والانجليزية 1963، والفرنسية 1964 ثم 1986. كما أنه نقل إلى لغات أقل انتشارا مثل الكرواتية والسلوفاكية والأستونية (ص 27). أما العوامل التي تساعد على ترجمته إلى العربية فبينها كما يورد المترجم أن هيدغر أقرب إلى العربية (التي عرفت التوحيد) منه إلى الصينية مثلا التي لم تعرف الديانات التوحيدية (ص 32). كما أن جهود المترجمين العرب (وخصوصا عبد الرحمن بدوي وتلامذته فؤاد كامل ومحمود رجب وعبد الغفار مكاوي وغيرهم) في نقل التراث الفلسفي الوجودي قد تواصلت منذ عام 1964 ووفرت حصيلة اجتهادية غزيرة في نقل المصطلح الفلسفي بالرغم من أنها لم تقترب من ترجمة كتاب "الكينونة والزمان" نفسه. ويشير المترجم إلى محاولتين مشتركتين لنقل فصول من الكتاب قام بهما جورج كتورة وجورج زيناتي عام 1988 وموسى وهبة وبسام حسن عام 2003. كما أنه يقرّ بفضل ترجمات عربية عديدة لفلاسفة التأويل والظاهراتية الكبار خلال العقود الماضية أعانته في مهمته العسيرة هذه. إن كل هذا التراث الترجمي المتراكم ينبهنا إلى أحد العوامل التي أجّلت ترجمة الكتاب وهو الحاجة إلى إنضاج المصطلح الفلسفي الهيدغري عبر جهود متضافرة مديدة.
ويبقى السؤال الأهم المتعلق بتقويم مستوى هذه الترجمة مفتوحا أمام تدقيق الدارسين والقراء. لكن المؤكد أن القراءة الأولى لكتاب مثل "الكينونة والزمان" لن تكون قراءة سلسة هينة. لابد للقاريء من التوفر على معرفة كافية بالفلسفة الغربية عموما، والظاهراتية التأويلية على وجه الخصوص. ولابد من الصبر والتدبر أمام صعوبات النص ومقاومته لأية قراءة متسرعة. المؤكد أيضا أن فتحي المسكيني لم يترجم عبارة دون أن يدققها تدقيقا أكاديميا متأنيا ويكوّن عنها معنى واضحا في مكافيء عربي مفهوم. وهو ما يجعل التفكر الطويل في العبارات مجزيا ومنتجا. لكن مما يفاقم في صعوبة قراءة هذه الترجمة الرصينة فضلا عما ذُكر أنها تحتوي على بعض خصوصيات فصحى المغرب العربي التي تستلزم من القاريء العربي المشرقي بعض الجهد في التعرف عليها وألفتها قبل أن يتمكن من الاسترسال في القراءة. علما أن المسكيني لم يحاول تقريب النص أو الحد من غرابته (كما فعل المترجمان إلى الانكليزية جون ماكري وادوارد روبنسن مثلا)، فقد حرص على استبقاء الخصائص الأسلوبية المعقدة والمربكة للقاريء في لغة هيدغر الفلسفية وهو ما تلقته العربية لما لها من تراث فلسفي صوفي عريق وإرث شعري واسع بمرونة واقتدار.
يستشهد المترجم في مقدمته بمقولة هيدغر أن "الترجمة لن تكون تفسيرا فحسب بل تراثا" (ص 22) ومن المؤكد أن صدور هذه الترجمة الرائعة لكتاب فريد كهذا تعد إغناء سخيا للتراث الفلسفي العربي ولعربية النصوص الفلسفية على حد سواء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. انتخابات تشريعية في فرنسا: اكتمال لوائح المرشّحين وانطلاق ال


.. المستوطنون الإسرائيليون يسيطرون على مزيد من الينابيع في الضف




.. بعد نتائج الانتخابات الأوروبية: قادة الاتحاد الأوروبي يناقشو


.. ماذا تفعل إذا تعرضت لهجوم سمكة قرش؟




.. هوكشتاين في إسرائيل لتجنب زيادة التصعيد على الجبهة الشمالية