الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عمارة ما بعد الحداثة... البغدادية

خالد السلطاني

2013 / 8 / 13
الادب والفن


ربما ارتقت عمارة "ايا" في البتاويين ببغداد (1989- 90)، ، بشكلها المميز وخصوصية مرجعياتها التصميمية، الى مرتبة الحدث الإستثنائي والرائد في الخطاب المعماري المحلي (هل اقول .. والاقليمي ايضاً؟). فالمقاربة المعتمدة من قبل المعمار في تنطيق مفرداتها التكوينية، بالاضافة الى توقيت زمن ظهورها، وحضورها المكاني، يسبغ عليها خصوصية متفردة وقيمة مضافة في آن. نحن، اذاً، أزاء حالة معمارية، لا تشبه البتة، "حالات" عمارة المباني، التى اعتدنا رؤيتها، وأمست لفرط تكرار مفردات لغتها التصميمية، امراً عادياً، لا تثير فينا الدهشة او الاستغراب. إنها ، باختصار، احدى نماذج مقاربة عمارة ما بعد الحداثة البغدادية، المقاربة التى وجدت في شخصية المعمار معاذ الآلوسي (التائق دوما الى مزيد من المعرفة والى كثير من التجديد)، ممثلا قديرا لها؛ مانحا لنا عمارة ممتعة، مشبعة بمزاج ما بعد الحداثة التصميمي، المتسم على مبالغة في تقديم المفردات التكوينية المصحوبة بالتهكم، وتكريس الانزياحات المفاهيمية في معالجة نوعية العمارة المنتجة.
عندما بدأ الجيل الثاني من المعماريين العراقيين (الجيل الأول هم المعماريون الاوائل الذين تأهلوا اكاديمياً ومهنياً في منتصف الثلاثينات وبدء الاربعينات)، العمل على تكريس مرحلة جديدة من عمارة الحداثة العراقية، في الخمسينات، - وهي حداثة إستقت مرجعيتها المفاهيمية من ما كان يدور في الورشة المعمارية العالمية -؛ فإن ذلك العمل، إُعتبر بمثابة "مأثرة" معمارية اجترحها معماريو الجيل الثاني، ما مكنهّم، بالتالي، من ترسيخ إسمائهم في الخطاب المهني العراقي. ورغم تعدد الاسماء المعمارية، لاحقاً، وحتى تنوعها الاسلوبي فان حضور الآخرين في المشهد، ظلّ ينظر اليه "كتوابع" لتلك الاسماء الاولى، هي التى اعتبرت دوماً اساتذة للحداثة المعمارية المحلية و"آباءها"!
لقد افضت تبعات تلك الحالة، الى "تغييب" اسماء عديدة، طمحت لان تكون لها مكان معين في المنتج المعماري العراقي، بعيدا عن "وهج" الاسماء الاولى و"بريقها"! ومن المحتمل، إن بعض تلك الاسماء، وَعَت حقيقة بان "اللعب" خارج ساحة الحداثة، يمكن ان يحدّ من تأثير إحتكار ونفوذ "سلطة" الاسماء المعروفة في المشهد المعماري. ذلك لإن إستدراجها الى منافسة، لا "تعرف"، هي، إشتراطاتها وقيمها، سيضعها في مكان، هو في الواقع، خارج "مكانها"، وبالتالي سيحرمها من امتيازات "حصانة" الريادة التى تشبثت بها طويلا. لقد اغوت آفاق عمارة ما بعد الحداثة الطازجة والملتبسة، التى ظهرت فجأة في الخطاب، وبما تحمله من جديد، يصل حدّ القطيعة "الفورماتية"، أغوت الآلوسي وشجعته لارتياد دروب تصميمة جديدة، لم تكن معروفة او متداولة في الخطاب المعماري المحلي؛ هو "المنذور" لارتياد عديد تلك "الدروب"، التى تحدث عنها بلهفة وشوق في كتابه "نوستوس" الصادر مؤخرا. وكانت النتيجة ظهور "ايا" بعمارتها المميزة.
وعن تلك العمارة، كتبت ،مرة، قبل خمس سنوات (2008)، ما يلي ".. يتوق معاذ الآلوسي في اصطفائه لاسلوب معالجة كتلة مبناه الى تذكيرنا بقرار "التقسيمات الثلاثية" التى سادت يوما ما عمارة الابنية المتعددة الطوابق، والتى اشاعتها "مدرسة شيكاغو" المعمارية العقلانية في الربع الاخير من القرن التاسع عشر، وباتت منذاك، احدى "لوازم" العمارة الوظيفية. فـ"لويس سوليفان"، مبتكر تلك الثلاثية، يحضر ببلاغة في عمارة (ايا) ، ليس تمثيلا للوظيفية التى التحم عنوانها مع اسمه، وانما بصفته موحيا لقيمة جمالية ومصدرا لتنوع المعالجات الواجهية. إن إجراءات تنطيق قسم الطوابق الاولى، ومنطقة طوابق الجزء الوسطي، والنهايات الخاتمة للتكوين الواجهاتي والغالقة لها، تتم من قبل المعمار بنوع من التحديدات الواضحة المنفصلة عن جوارها بشكل مبالغ، حتى يضمن المعمار الاحساس بحضور التمثيل Representation ، او بالاحرى "وهم التمثيل" وفقا لاطروحة "بيتر ايزنمان". فليس المعيار الوظيفي هو "الحاكم" هنا؛ وانما النزوع نحو اكساب المبنى قيمة جمالية مؤثرة، متأسسة اصلا على مبتكرات المنظومة الثلاثية اياها. اي بعبارة آخرى تطمح عمارة المبنى الى تكريس "رسالة" التمثيل ، اكثر بكثير من ان تكون مهتمة "بمعناه". ومن هنا ايضا يمكن ايجاد تفسيرلتلك الازاحات Displacements المتقصدة في المفهوم الوظيفي لجميع عناصر الاقسام الثلاثة المشكلة لكتلة المبنى والصائغة لواجهاته؛ والتى سعى المعمار الى تمويه وظائفها النفعية، زيادة في تكريس قيمة التمثيل لديه. فتظهر الاعمدة الرافعة باشكال مميزة يوحي شكلها غير التقليدي الى انفصال تام عن استحقاقات عملها الانشائي . ولا ترمي فتحات النوافذ المبثوثة على سطح الجدار الآجري المشغول بعناية وحرفية عالية الى التدليل لوجود نظام صارم يهتم في توزيع الفراغات الواقعة خلفها، اذ ان نشرها بالصيغة الصدفوية المتقصدة يراد منها النأي بعيدا عن صرامة ترتيب التقسيمات الحيزية المعتادة في الابنية المتعددة الطوابق. في حين حرص المعمارعلى معالجة "افريز" الجزء العلوي من مبناه باشكال وحجوم ، تستحضر بها اشكال القفلات البنائية الشائعة في بيوت الثلاثينات البغدادية! ".
تبدو الآن، عمارة "ايا" (التى ادعو المعماريين الشباب لزيارتها)، في موقعها الضاج بتعدد الاستخدامات، وكأنها قطعة "غريبة" عن سياق ما يحيطها، هي التى عول كثر (بضمنهم انا شخصياً)، لتكون عمارة موحية، او في الاقل، "كاشفة" لسبر أغوار فعالية آخرى، تثري النشاط المعماري المحلي، وتفتح امامه سبل جديدة للتعاطي مع مفهوم إبداعي، امسى بلغته التصميمية المعبرة، احد اهم طروحات الممارسة المعمارية العالمية. بيد إن صخب سنين التسعينات، وما رافقها من احداث مدمرة، جعلت الإمل المرتجى من عمارة ذلك المبنى، املا تذره الرياح العاتية، التى هبت على البلد من كل حدب وصوب، معيقة وطاردة كل ما يمكن ان يمثل حافزا للتقدم نحو الامام.
ولد معاذ الآلوسي في 24 تشرين الثاني 1938 ببغداد، وانهي تعليمه المعماري من جامعة الشرق الاوسط بانقرة/ تركيا، في سنة 1961. عمل في مؤسسة الاسكان العراقية ثم مديرية المباني، قبل ان يلتحق في مكتب الاستشاري العراقي، الذي سوف يتركه عام 1974، مؤسسا لنفسه ومع آخرين مكتب "الدراسات الفنية" في بيروت /لبنان ، وبعد حله ينشأ مكتب " الالوسي ومشاركوه" في قبرص. صمم دار سكنية له في المنصور (1966)، ومبنى " اتحاد نقابات العمال" (1974) المنفذه في مناطق مختلفة بالعراق، و"مشروع المصرف المركزي (1975) في صلالة بعمان، والبنك العربي الافريقي (1977) و" مطبعة دار القبس" (1978) بالكويت العاصمة، و"البنك العربي"(1978) في مسقط، و"سفارة الامارات العربية المتحدة(1979) في عُمان، والسفارة القطرية (1976) في عمان، والسفارة الكويتية في البحرين، ومركز الدراسات المصرفية" (1980) الكويت العاصمة، اشرف على تطوير منطقة الكرخ (1981-82)، وتطوير شارع حيفا ببغداد، وصمم الجزء السادس منه (1980-84)، فضلا على اشتراكه في "مشروع مسجد الدولة الكبير"( 1982) بغداد/ العراق، ومركزصلالة الثقافي (1982) في عمان، وصمم دارة سكني له في الكريعات (1985)، و"مستشفى البسمة الاهلي" (1989) بالوزيرية ببغداد/ العراق، ومبنى" كمال حمزة" (1979) بالخرطوم / السودان، ومشروع القصر الرئاسي(1995) في برازفيل / الكونغو، و"معمل كندا دراي وسفن آب"( 1978) في دبي، و" خدمات مرسيدس بنز"(1999) في يرفان / ارمينيا.
نشر دراسات عديدة والف كتابين (يوميات بصرية لمعمار عربي)،1983، بيروت /لبنان، و"نوستوس" عمان 2012. يمارس الى جانب الفعالية المعمارية، الفن التشكيلي والفوتوغراف. مقيم، الآن، في قبرص.
د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل