الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتب في يوميات: تونيو كروجر لتوماس مان

فلاح رحيم

2013 / 8 / 15
الادب والفن


أم قصر ـ الأحد 23 آذار 1980

للمرة الثانية يهيج عليّ سن العقل وآخر منخور فوقه ويهجمان عليّ بشراسة تشلني. ومن سوء الحظ أن ترافقه هذه المرة بدايات زكام أيضاً. كل هذا لم يمنعني يوم أمس من إكمال ترجمة الصفحات غير المطبوعة من قصة "تونيو كروجر" التي لم تظهر في نسخة ابن عمي صبري الحيدري المطبوعة في القاهرة. وكان بودي لو أعطيت القصة حقها من التحليل والاستشهاد بأهم ما فيها من مقاطع، ولكن حالتي لا تتيح لي إلا استعراضاً موجزاً لأبرز ما جاء فيها مع بعض التعليقات.
لقد قرأت هذه القصة ثلاث مرات، كانت الثالثة هي ترجمتها العربية على يد ابراهيم ماهر. وبعد كل قراءة أزداد تعاطفاً معها ويترسخ لدي اعتقاد تجنبت الاعتراف به في بداية الأمر، لكن تأكده يجبرني على الأعتراف، فقد توصلت إلى أنني لو كنت أمتلك ذكاء وموهبة توماس مان لما استطعت أن أعبّر عن أبرز مشاكلي الداخلية خلال السنوات القليلة الماضية بأفضل من هذا الشكل. مشاكلي لا تتعدى في جوهرها الثنائية التي عايشت تونيو كروجر حتى كهولته. وفي يومياتي تعبير عن كثير من مشاكل كروجر ولكن بأسلوب آخر ومن زاوية أخرى. الثنائية هي بين العيش في عالم الفن والأدب المستقل المغلق على قوانين وجوده الخاص وبين الدافع إلى العيش على أرض الواقع والالتحام بالحياة في أبسط أشكالها وتدفقها المرح المتخفف من قيود العقل والفكر. هذه الثنائية قد تكون مرفوضة من قبل البعض باعتبار أن الأدب مطالب بتحقيق الالتحام مع الحياة المتدفقة، ولكن لا توجد قوانين مطلقة بهذا الشكل، ففي المجتمعات التناحرية ليس ثمة انسجام وتناغم بين الأديب أو الفنان وواقعه. لأن الواقع ليس الصورة التي يتوق إليها الأول وهو لا يستجيب لأحلامه وطبيعته الإنسانية المثالية. هذا التناقض يدفع الفنان إلى أحد حلّين كليهما يمثل مأزقا بحد ذاته، فإما أن يتقوقع الفنان في حدود فنه؛ وهذا يؤدي إلى قتل عواطفه وجنوحه العارم إلى الحياة، وإما أن يندفع إلى الحياة في ابسط نماذجها وفي هذه الحالة فإن عليه أن يتنازل عن خصوصيته التي هي الفن لحساب التدفق الأعمى للحياة في مجتمعه، وهنا يفشل الفنان أيضا لأن الحياة ترفضه مع ما يحمل من نزوع إلى الفن ولأنه لا يستطيع أن يتخلص من نزوعه في الوقت نفسه. هذه بعض جوانب المأساة التي يعيشها كروجر، ويعيشها كل من حاول أن يحتفظ بذاته الإبداعية الأدبية دون التفريط بعلاقاته مع الحياة. إن التناقض حاد وشاق. والمجتمع التناحري لا رحمة فيه مع أمثال كروجر. لكن كروجر لا يستسلم، إنه يبحث دائما عن التناغم. فيحب هانس هانسن وانجه هولم اللذين يمثلان تدفق الحياة ومرحها الذي لا يعبأ بأية ذات. إنه من خلال التعلق بهما كان يريد أن يقضي على إحساسه بالاغتراب وسط المحيطين به، أراد أن يتخلص من الخصوصيات التي ملأه بها حبه للشعر والفن؛ لأنها ليست امتيازاً كما يُفترض أن تكون في مجتمع فاضل بل عبء عليه يود دون جدوى لو تخلص منه. هانس يحب ركوب الخيل والحفلات وانجه المرحة تعشق الرقص والتنكيت، أما كروجر فإنه مخنوق بحسه المأساوي يحاول من خلال الالتحام بهما أن يعود إلى عاديته وتخففه، ولكن هيهات! مع ايفانوفا يناقش وقد اصبح اديباً ذا شأن هذه المشكلة بكلمات أوضح وأكثر تجريداً وعقلانية، ولكنها أكثر وأعمق مأساوية. وتجيبه أن السبب يكمن في كونه برجوازياً ضالاً؛ وهذه مسألة جوهرية، فلو سار على درب زملائه البرجوازيين إذن لعاش منسجما مع حياته، ولكنه فنان صادق وتلك نقطة ضعفه!
يرى البعض أن توماس مان يقدم في هذه القصة مفهوماً باثولوجياً لطبيعة الفنان، ويحاول اثبات أن الفنان انسان مريض غير قادر على الانسجام مع بيئته أي maladjusted إن شئنا التقرب بكلمة أجنبية. لكني أرى أن توماس مان أعمق من ذلك وأصدق من أن يكون مدفوعا بفكرة شائعة ومبتذلة كهذه، إن القصة واضحة في الربط بين الفنان ومحيطه، ولكن التأكيد المبالغ فيه على اختلاف كروجر عن اقرانه ربما هو السبب في مثل هذه الفكرة. يؤكد توماس مان الاختلاف ولكن دون أن يجعله دليلاً على سوء في طبيعة فنانه أو اعتكاف عن ايقاع الحياة الأزلي الساحر، بل بالعكس إن كروجر يندفع دائما بحماس مأساوي إلى الالتحام مع العالم، مع عالم هانس وانجه بينما هذا العالم لا يوافق على قبوله إلا إذا تأكد من اخصائه ومن سلبه بذرة الفن الخصبة. هنا على الناقد لهذا العمل أن يختار فإما أن يقف مع هانس وينظر إلى كروجر باعتباره شاذاً وغريب الأطوار، أو يقف مع كروجر فيرى أن العالم والمجتمع قاسيان على الفنان لا يبذلان جهداً في التعرف على مشاكله والتقرب منه لإضفاء مضمون جديد على طبيعته الفنية الخلاقة.
أود قبل أن أترك هذه الورقة ـ تاركا الكثير من الملاحظات إلى وقت آخر ـ أن أشير إلى دور الصدفة في القصة، عندما يلتقي كروجر وقد كبر في العمر في الدنمارك بهانس وانجه وقد اقترنا ببعضهما. هذه الصدفة ذات وقع رائع وفريد من نوعه في القصة. إنها تكثف كل المعاني التي أراد توماس مان وصفها في قصته باسلوب الضربة الايقاعية الأخيرة وهي يمكن أن تستخدم كنموذج لاستخدام الصدفة في حبكة القصة استخداماً فنياً خلاقاً.
"تونيو كروجر" من القصص القلائل التي ساعدتني على فهم نفسي أكثر!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع


.. الأسود والنمور بيكلموها!! .. عجايب عالم السيرك في مصر




.. فتاة السيرك تروى لحظات الرعـــب أثناء سقوطها و هى تؤدى فقرته