الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وهم القطاع العام في سوريا

دارا كيلو

2005 / 5 / 14
الادارة و الاقتصاد


إن الحديث عن وهم يتعلق بالقطاع العام في سوريا لا ينفي وجود هذا الوهم في أماكن أخرى, ولكن ما يهمنا هنا هو سوريا. ووهم القطاع العام في سوريا ليس موجودا لدى الكل, وإنما يسيطر على البعض من منطلقات أيديولوجية بالية أو كسل فكري مزمن, ويستتر خلفه أصحاب المصالح الفاسدة.
رغم وجود الأدلة القطعية النظرية والواقعية على عبثية المراهنة على القطاع العام, لكن البعض يصر على دفن رأسه في الرمال, ومحاربة القطاع الخاص والخصخصة كما تحارب الشياطين, والدفاع عن القطاع العام كما يدافع عن بيوت الله. وهذا الإصرار يطرح ضرورة إعادة وضع الإصبع على الجرح عل البعض يدرك حقيقة ما يعيشه من أوهام.
ما نعنيه بالوهم أن يتم الرهان على أداة ما في إنجاز مهمة ما, دون أن تكون تلك الأداة قادرة على إنجاز تلك المهمة, إلا في دماغ من يراهن, أويتظاهر بذلك لغاية ما. لقد كان القطاع العام في نسخته الأولى السوفيتية والنسخ الأخرى المقلدة أداة تم الرهان عليها بأن يحل محل القطاع الخاص في إنجاز مهام التنمية الاقتصادية واللحاق بالدول المتقدمة. لكن النتائج كانت مخيبة جدا, بل إن الدول التي راهنت على القطاع الخاص هي التي استطاعت أن تحقق خطوات واسعة في هذا المجال. ويمكن هنا أن نقارن بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية, ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية, دول البلطيق وفنلندا, سوريا والأردن. كل تلك المقارنات تشير إلى الفشل المروع للقطاع العام في إنجاز المهمة التي أوكلت له. في سوريا بعد أربعين عاما من الرهان على القطاع العام, لم تتغير التركيبة الهيكلية للناتج القومي نحو الأفضل, لم يرتفع مستوى الدخل, لم تتحقق العدالة الاجتماعية, بل إن كل المؤشرات التنموية من بطالة وفقر ومعدلات نمو تشير إلى أن الوضع أصبح أسوأ. ولم يكن القطاع العام إلا وسيلة إعادة توزيع الثروة الوطنية لمصلحة الفئات المسيطرة سياسيا, وملجأ للكسالى أو الذين يتعلمون الكسل من خلال العمل فيه, وبالتالي كان القطاع العام أكبر بؤرة فساد أخلاقي وقيمي للمجتمع, حيث الترقية من خلال العلاقات المشبوهة والرشوة والسرقة واحتقار قيمة العمل الجاد المنتج( وهذه الطامة الكبرى), ويمكن أن نعدد هموم ومفاسد القطاع العام بقائمة طويلة, لكن دراية كل السوريين بها تجعلنا نكتفي بذلك.
ولكن السؤال هنا هو هل القطاع العام هو ضحية سوء استعمال أم أنه أداة فاسدة في الأساس؟ قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من توضيح نقطة مهمة تتعلق بالمفهوم, أي مفهوم القطاع العام. أقصد هنا بالقطاع العام, القطاع العام البديل للقطاع الخاص وليس القطاع العام المكمل, أي بين التدخل الحكومي بالأوامر والتدخل الحكومي بالسياسات, والفرق كبير بين الحالتين. ففي الحالة الثانية السوق والقطاع الخاص هما أدوات الرهان في الأداء الاقتصادي,ويتم استكمال أخطاء ونواقص تلك الأداتين ببعض الممارسات الاقتصادية الحكومية من خلال السياسات الاقتصادية, المالية والنقدية, وقد يضاف لها استثناءا امتلاك الدولة مؤقتا بعض الوحدات الإنتاجية. أما في الحالة الأولى فإنه يتم القضاء على القطاع الخاص والسوق ويستبدلان بامتلاك الدولة للوحدات الإنتاجية وقيامها بعملية التخطيط.
بالعودة إلى السؤال الذي طرحته, أقول إن القطاع العام ليس ضحية سوء استعمال وإنما هو فاسد بطبيعته, واستند في إجابتي هذه على النقاط التالية:
أولا- تم استخدام القطاع العام في عشرات الدول, ولم يتمكن من أن يحقق في أي منها الأهداف المرجوة, لذلك تم التخلي عنه في كل مكان, باستثناء بعض الدول التي تعيش في الأوهام أو تتستر على مصالح الفساد مثل سوريا وغيرها.
ثانيا- في عمومية القطاع العام هناك خلل كبير, فعند القول أن القطاع عام, فإن هذا يعني أنه, باعتباره ملكية عامة, يخدم المصالح العامة, من خلال تحكم عامة الناس بإدارته, لكن القطاع العام خدم, في الواقع, فئات محددة مسيطرة سياسيا. وهذا الأمر متوقع, لأن عمومية القطاع العام تتحقق من خلال قدرة الدولة على تمثيل المصالح الحقيقية للعامة, وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الديمقراطية, والديمقراطية لم تكن موجودة في الدول التي اعتمدت على القطاع العام. بل إن المفارقة هي أن القطاع العام يدعم الديكتاتورية والشمولية من خلال تركيزه القوة الاقتصادية في يد السلطة الحاكمة علاوة على السلطة السياسية, وكما هو معروف أن تركز مراكز القرار واقترابها من رأس الهرم السلطوي يقلص من فرص الحرية والديمقراطية, بينما تشتيت مراكز اتخاذ القرار واقترابها من القاعدة, يقوي فرص الحرية والديمقراطية. وفقط في السوق والقطاع الخاص تتخذ القرارات الاقتصادية (الاستهلاك والإنتاج) على أدنى مستوى من الوحدات الاقتصادية, التي هي المستهلك الفرد والمنتج الشركة.
ثالثا- الدولة في أحدى التعريفات المتفق عليها هي جهاز(سياسي) يحتكر القسر المادي الشرعي تطبيقا للقوانين. بهذا المعنى فإن الدولة كحارسة للقانون, الذي هو اتفاق بين الأفراد على ترك نقاط التنازع لتحلها جهة أعلى, لا تتدخل في سلوكيات الأفراد عندما لا يخالفون القانون, والمخالفة هنا مرفوضة لأنها قد تسيء للآخرين, أي أن الدولة (والقانون) لا ترسم بدقة وتحدد الجوانب الخيرة في السلوك الإنساني, بل تحدد الجوانب الشريرة وتحاول قمعها, وتترك المبادرة للجوانب الخيرة لكي تنمو من ذاتها, أي أن الدولة لا تحل محل الأفراد, وإنما تقوم بتهذيب نقاط الاحتكاك والتنازع بين السلوكيات الفردية, إلا إذا كانت ذات طابع إلهي وفي بعض الأشكال الشمولية. أي أن الدولة ليست وحدة إنتاج اقتصادية, وإنما هي ظاهرة تنتمي إلى مجال آخر, وبالتالي يسيرها منطق آخر, وامتلاك الدولة لوحدات القطاع العام الإنتاجية يعني خروجها (أو اندلاقها) عن وظيفتها الأساسية, وخروج أي ظاهرة أو أداة عن مجالاها الأساسي ودخولها لمجال آخر يعني أن النتائج ستكون سيئة إن لم تكن كارثية. ويمكن تسمية الحالة بالشمولية الاقتصادية التي لا تقل سوءا عن الشمولية السياسية وتكملها وتدعمها وقد تكون مؤسسة لها. وكما لا تستطيع الدولة أن تحل محل كل جوانب حياة الفرد, فإنها لا تستطيع أيضا أن تحل محل الفعاليات الاقتصادية وتقرر عنها, لأن المنطق يقول أن يكون الوكيل(الدولة) خاضعا لمشيئة الأصيل (الأفراد والوحدات الاقتصادية), وليس العكس.
في النهاية فإن الوهم يسيطر على من لديه استعداد للتوهم, بشكل مقصود أو غير مقصود. والفكرة أو النظرية أو أي تصور آخر عندما لا تحقق النتائج المرجوة منها, بعد محاولات تجسيدها على أرض الواقع, لا يمكن إلا أن تكون خاطئة كليا أو في أغلب جوانبها, أي أن العيب فيها وليس في الواقع أو في من تعامل معها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاليدونيا الجديدة: كيف ستدفع الدولة فاتورة الخسائر الاقتصادي


.. كيف تؤثر جبهة الإسناد اللبنانية على الإقتصاد الإسرائيلي؟




.. واشنطن تفرض عقوبات اقتصادية على بضائع صينية، ما القطاعات الم


.. وكالة ستاندرد آند بورز تصدر توقعاتها بشأن الاقتصاد المصرى




.. برشلونة يتراجع عن استمرار تشافى ومنافسة بين فليك وكونسيساو ل