الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوزان مبارك.. الجبلاوي وقصر البارون.. كيف احتفلوا بمرور مائة عام على إنشاء حي مصر الجديدة

نائل الطوخي

2005 / 5 / 15
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


لماذا لم يقم الجبلاوي قصره في قلب حارته؟ لماذا أقامه في الخلاء و قد كان هو نواة الحارة و خالقها؟ ثم لماذا لم يخرج من قصره, لم يختلط بأبناء حارته و اكتفى بالتحول إلى موطن أشواقهم و أحلامهم بالخلاص؟ أم أن هذه هي وظيفة الإله, كما تقول القراءة الرمزية و الأكثر شيوعاً لرواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ: الاستعلاء على البشر, التواري في أساطيرهم كيما لا يتبدد أثره في اختلاطه اليومي بمعاناتهم؟ في زياراتي القديمة إلى القاهرة قادماً من الإسكندرية, برفقة والدتي, قبل أن أقيم في العاصمة منذ 89, كانت والدتي تصف لي قصر البارون إمبان, أثناء مرورنا عليه, بأنه يدور على أربع عجلات حول نفسه, بحيث تشاهد كل نافذة منه الجهات الأربع يومياً. بعد ذلك بعشر سنوات, سيتم الإعلان عن قضية عبدة الشيطان, و سيقبض فيها على بعض المراهقين, في إطار ورع رسمي و تفاهة آخذة في التعاظم لأبناء النخبة القاهرية. سيشيع وقتها الكثير عن ممارستهم طقوسهم الرهيبة في أقبية قصر البارون. هذا القصر الذي غدا موضوعاً مناسباً للأساطير في عقول أبناء مصر الجديدة, بمعماره الأوروبي القروسطي و بالجو القوطي المخيف الذي يبعثه في العابر بجواره, و بخاصة في الليالي معدومة القمر. يضاف إلى هذا ما يعرفه الجميع من كون البارون هوذاته من أنشأ حي مصر الجديدة, هو المسئول عن ظهوره للنور. هكذا يخلق الجبلاوي حارته و ينسحب ليكون بيته هو موضوع القصص و المخاوف في قلوب البشر, يراقبهم بشكل دائم, عبر دورانه حول ذاته في الجهات الأربع. لا ينتهي دور الجبلاوي عند هذا الحد, فقصر البارون يطل على شارع العروبة المتجه إلى المطار, أي أنه يبعد عن مصر الجديدة بمعناها المركزي "الكربة و روكسي" و إنما هو مقام في "الخلاء" بهذا المفهوم, في منطقة غير سكنية و غير تجارية و إنما تتأسس شهرتها على كونها طريقاً سريعاً للخارجين من البلد أو القادمين منه, أي لمن ليسوا كلياً "بداخل" البلد و تفاهات أهله اليومية. يرقب البارون حارته من بعيد, و لكن ليس من بعيد تماماً, فثم شارع كالشريان يصل بين القصر و بين القلب التجاري لمصر الجديدة, الكربة. اسم هذا الشارع نزيه خليفة (قصر البارون سابقاً) و هو يمتد من شارع العروبة حتى شارع الأهرام. في شارع العروبة يطل على قصر البارون و في شارع الأهرام يطل على معلم آخر من معالم مصر الجديدة, التجارية هذه المرة, كنيسة البازيليك, و هي كنيسة للروم الكاثوليك. أي أن ثم سلطة دينية هنا (كنيسة ترتادها نخبة مسيحية صغيرة بشكل منتظم) تستمد سلطتها عبر طريق ضيق من الإله الأكبر (قصر مهجور يرتاده عبدة الشيطان و غريبو الأطوار فحسب). تذكروا الفرعون ابن الإله في مصر القديمة (و هي مقلوب مصر الجديدة), هذا البشري الذي يتعامل مع مشاكل البشر و قرفهم باسم الإله فوق و بموجب تفويض منحه إياه, يقدم لإلهه القرابين ويبني له المعابد أو يرممها. تذكروا هذا الفرعون و انطلقوا من كنيسة البازيليك إلى نهاية شارع الأهرام, حيث يقبع القصر الرئاسي. هكذا ينغلق المثلث على نفسه: قصر البارون (سلطة الإله, مانح الشرعية) و كنيسة البازيليك (سلطة الكاهن, ناقل الشرعية) و القصر الرئاسي (سلطة الملك, متلقي الشرعية). في هذا الإطار يمكننا النظر إلى الاحتفال بمرور مائة عام على إنشاء حي مصر الجديدة, و هو الاحتفال الذي تبنته السيدة سوزان مبارك, و الذي عبر عن نفسه في ملصق معلق في كل أنحاء مصر الجديدة تتصدره صورة قصر البارون تحديداً. و هكذا أيضاً يعمل البناة ليل نهار في ترميم القصر المهجور, ليس كرمز لترميم مصر الجديدة كلها أو إعادة طلائها, حيث القصر يقع في "الخلاء" كما أسلف, و إنما كرمز لشيء ما أبعد, كرمز لملك يبني معبداً لإلهه, و في المقابل يجعل إلهه يؤكد موقعه الطبقي باعتباره منتمياً إلى السماء لا الأرض, وأنه مفوض باسم السماء بقمع الأرض. شيء كهذا يقوم به الاهتمام الرئاسي بحي مصر الجديدة بشكل عام و بقصر البارون تحديداً, هو تأكيد انتماء السلطة الطبقي لمصر الجديدة, انتماء السيدة سوزان مبارك ليس فقط لهذا الحي المغرق في نخبويته, و إنما بالتحديد كذلك لجزءه الأكثر أرستقرطية و الأكثر سماوية في آن (المرتبط ب "الأصل الخالق" من جانب, و البعيد عن البشر و الأسواق من جانب آخر.. هل كان يمكن لحملة رئاسية مشابهة أن تنشأ لترميم الحرية مول بعد احتراقه, إذا أردنا ان نظل محصورين داخل حدود مصر الجديدة).. هذا ما يقدمه الملك للإله.. و هذا ما يقدمه الإله للملك (ليظل اسمك حياً في السماء, و لتظل قبضتي حية على الأرض.. و لأنني أبني لك معبداً فأنا أنتمي لك.. و من يعارضني إنما يعارضك.. يعارض أرستقراطية معمار و تراث مصر الجديدة.. ثم في مرحلة تالية, يعارض الاهتمام بالعمارة و الفن, بالروح و بالإله) و لأن الحديث ليس عن المهندسين و مدينة نصر, فلا يمكن وصف الاهتمام بهذا الحي بالبرجوازية الخالية من العقل, و إنما الحديث عن حي ينظر إليه باعتباره شبه تاريخي. هذا ما يؤكده كذلك الإصرار على كون الحي قد أنشيء من "مائة عام", الإصرار الذي يمنعك من رؤية الفقر المتزايد, روحياً و مادياً, للعشوائيات, متضمناً في ازدياد ثراء هذا الحي, روحياً و مادياً. هكذا يؤدي الجبلاوي وظيفة أخرى, لإنه ليس برجاً تافهاً في المهندسين, و إنما شبه إله, فهو يشوش على أي مقارنة بين الاهتمام بهذا الحي و بين الاهتمام بالأحياء المحيطة, مثل المطرية و عين شمس مثلاً, فعلى عربة الترماي القديمة, و التي تعامل بوصفها أثراً, المنتصبة أمام كنيسة البازيليك تبرز عبارة مكتوبة بخط دقيق عن خط الترماي "واحات عين شمس و ضاحية مصر الجديدة". و هكذا إذن: وقتما كانت عين شمس مجرد واحات كانت مصر الجديدة ضاحية مدينية, و على حسب أسبقية كل منهما في التحول إلى المدينية, و على حسب أصل منشئ كل منهما و على حسب موقع القصرين, الإلهي و الرئاسي, في أي منهما, يستحق كل منهما ما يلاقيه الآن. دعونا لا ننسى أن الملك يبنى حالياً معبداً لإلهه و أن أحدا لم ينل هذا الشرف بخلاف الملك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. محمد الصمادي: كمين جباليا سيتم تدريسه في معاهد التدريب والكل


.. متظاهرون يطالبون با?لغاء مباراة للمنتخب الا?سراي?يلي للسيدات




.. ناشطة بيئية تضع ملصقاً أحمر على لوحة لـ-مونيه- في باريس


.. متظاهرون مؤيدون للفلسطينيين يهتفون -عار عليك- لبايدن أثناء م




.. متظاهرون يفاجئون ماثيو ميلر: كم طفلاً قتلت اليوم؟