الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحن والغرب

داود روفائيل خشبة

2013 / 8 / 20
الادب والفن


أخطر ما يعوق التفكير السليم تشوّش الفكر واختلاط المفاهيم، ومن المنطقى أن يكون الخطر أعظم حين تكون المفاهيم المعنية بعيدة عن البساطة. لذا فإننا حين نتحدّث عن موقفنا من الغرب وعن علاقاتنا بالغرب نكون فى حاجة شديدة لتوضيح مفهوم الغرب ومحاولة تفكيك ما فيه من تشابك واختلاط.
بدءًا، ليس هناك بالطبع كيان موضوعى محدّد اسمه الغرب، فكلمة الغرب كمعظم، إن لم نقل ككل، كلمات اللغة هى شفرة تشير إلى مجموعة من المعانى والمفاهيم التى تترابط بروابط متعددة متباينة.
الغرب فى الأساس مفهوم جغرافى ويطلق اصطلاحا على البلاد التى تقع غرب آسيا الصغرى شمال البحر الأبيض المتوسط ويمتد إلى القارتين الأمريكيتين، لكنه بالمفهوم الحضارى والسياسى يخرج عن هذا الحيّز فيشمل القارة الأسترالية وجزيرتى نيوزلندة وجنوب أفريقيا، بشكل عام وتقريبى.
لبضعة آلاف من السنين مضت مسيرة الحضارة الإنسانية قدما خارج تلك المنطقة. بدأت فى أودية الأنهار الكبرى فى مصر وما بين النهرين والهند وقدمت للإنسانية لبّ المفاهيم الأخلاقية وأساسيات الحياة الحضرية والتنظيم المجتمعى وأسس العلوم وركائز الاكتشافات والاختراعات التى قام ولا يزال يقوم عليها كل تقدم مادى للإنسان. فى الألفية السابقة على بدء التقويم الميلادى دبّت الحياة فى جزر شرق البحر الأبيض المتوسط وفى شبه الجزيرة اليونانية وفى الساحل الشرقى للبحر، وعلى مدى عدّة قرون قدّمت تلك المنطقة للتراث الإنسانى إسهامات عظيمة القيمة فى الفكر والفنون والعلوم. وفى القرن الرابع قبل الميلاد بدأ الملك فيليپ المقدونى توحيد تلك المنطقة وأكمل عمله ابنه الإسكندر الأكبر، فجعل من كل المنطقة الممتدّة من شمال أفريقيا مرورا بمصر وآسيا الصغرى وحتى الهند، جعل منها بوتقة حضارية فيما عُرف بالحقبة الهيلينستية. ولما اشتد ساعد الإمبراطورية الرومانية وتفوّقت بقوّتها العسكرية بسطت سيطرتها على كل المنطقة التى كان قد وحّدها الإسكندر الأكبر والتى انقسمت إلى دول منفصلة بعد موته، لكن الإمبراطورية الرومانية التى أخضعت تلك المنطقة الشاسعة لحكمها لم تكن لها حتى ذلك الحين حضارة أصيلة خاصة بها فتبنـّت الحضارة الهيلينستية واستوعبتها. وفى القرن الأول الميلادى انتشرت الدعوة المسيحية أساسا بفضل حماس وفاعلية بولس الطرسوسى وحفنة من رفاقه بدءًا من شواطئ البحر الأبيض المتوسط. وعلى مدى القرون الأربعة الأولى من التقويم الميلادى امتزجت الدعوة المسيحية بالتراث الهيلينستى وبالفلسفة اليونانية خاصة فى صورة الفلسفة الأفلوطينية (نسبة للفيلسوف المصرى أفلوطين Plotinus) والفلسفة الرواقية فنشرت ووطدت قيما أخلاقية وحياتية التحمت بصميم التراث الإنسانى. ثم ضعفت الإمبراطورية الرومانية وانقسمت إلى دولة شرقية عاصمتها القسطنطينية ودولة غربية عاصمتها روما. وتعرّضت الدولة الرومانية الغربية لهجمات وغزوات متتالية من قبائل آتية من الشمال الأوروپى مما أنهكها ومن هنا بدأت الحقبة التى عُرفت بعصور الظلام. فى القرن السابع الميلادى بدأت الدعوة الإسلامية وخرج بها العرب فسيطروا على معظم الإقليم الخاضع لدولة القسطنطينية التى كانت فى حالة تفسّخ وانهيار. استعار العرب نظم الحكم وأدوات الحكم من الدول التى استولوا عليها، واستعاروا منها ما احتاجوه من علوم ومن تقنيات لحياتهم العملية، لكنهم على امتداد قرن كامل منذ بسطوا سيطرتهم على ذلك الإقليم لم يقدّموا إسهاما أصيلا للحضارة الإنسانية بل انشغلوا فى اقتتال وتناحر داخلى حتى نهاية الدولة الفاطمية وقيام الدولة العباسية. فى حقبة الدولة العباسية حدث التمازج الحضارى بين العرب والحضارات السابقة، فارسية وسريانية ويونانية ومصرية، وأنتج ذلك التمازج، وبإسهام واضح من شعوب تلك الحضارات، الإنجازات القيّمة التى يزهو بها التراث العربى. هذه الفقرة الطويلة أردتها عجالة مختصرة كتمهيد ضرورى للحديث عن الغرب لكننى لم أستطع أن أضغطها فى حيّز أقل دون أن يضيع الغرض الذى أردته لها.
بدءًا من القرن الخامس عشر الميلادى أخذت الشعوب الأوروپية تتململ من سُبات طويل وبدأت تستعيد إرثها القديم، وكان للإسهام العربى (الذى كان العرب أنفسهم قد قبروه ونسوه) دور كبير فى تلك الصحوة الأوروپية. وعلى مدى قرن أو يزيد تمثلت تلك الصحوة فى تفجّر الإبداع الفنى والأدبى. لكن فى القرن السابع عشر حدثت نقلة نوعية كان لها أبعد الأثر فى مسار الحضارة الإنسانية. أخذت العقول الأوروپية تهتم بالبحث العلمى الموضوعى على أسس جديدة وفى وتيرة غير مسبوقة فى التاريخ الإنسانى، وصحب الاهتمام بالبحث العلمى أو تبعه طفرة فى الاختراع والاكتشاف والاستكشاف. وكان من نتيجة ذلك (ورغم ما انشغلت به الشعوب الأوروپية من حروب داخلية وصراعات دينية كلفتها الكثير) أن تحقق للدول الأوروپية قدر محسوس من التقدم المادى وقدر هائل من القوّة، فاتجهت للغزو والتوسع الخارجى، ونهبت ثروات الشعوب وأضافتها إلى ثرواتها، بل وسرقت نتاج عرق الشعوب واستثمرته لرفاهية شعوبها.
آن لنا أن نعود إلى ما بدأنا به. ما هو هذا الغرب الذى نتحدث عنه وعن علاقتنا به وعن موقفنا منه؟ الغرب هو هذا الإقليم بمفهومه الموسّع الذى حددناه فى البداية. والغرب هو الشعوب التى تعيش فى هذا الإقليم. والغرب هو كل ما ورثته وما حققته هذه الشعوب من قيم أخلاقية ومن إبداعات جمالية وأدبية ومن إنجازات علمية، وكل ذلك هو تراث إنسانى، هو حق لنا، حق لكل واحد منا من حيث هو إنسان. والغرب هو تلك الأنظمة الحاكمة المستبدة التى تمصّ دماء الشعوب المستضعفة. هل يمكن أن يكون لنا موقف واحد لا يتغيّر ولا يتبدّل من كل ذلك؟
الحضارة الإنسانية تيّار واحد، إن أردنا أن نعود به إلى بداياته الأولى ربما كان علينا أن نعود مليونى عام إلى الوراء، أما إن أردنا أن نقصره على ما نعنيه الآن بالحضارة فإننا نعود به نحو اثنين وثلاثين قرنا من الزمان، منذ عرف الإنسان الزراعة فاستقر فى موطن ثابت. الحضارة الإنسانية نهر واحد عظيم كانت له روافد عديدة، غذّته شعوب عديدة على التوالى وهو ملك للإنسانية جميعها، وهذا النهر تتمثل مرحلته الراهنة فى ثقافة وفنون وعلوم وتكنولوچيات الغرب، ولا يحول وقوفنا ضد سطوة الأنظمة الغربية الحاكمة واستبدادها دون إصرارنا على نيل حقنا من هذا التراث الإنسانى الواحد. بل إن مشاركتنا فى هذا التراث شرط ضرورى لقدرتنا على مقاومة تلك السطوة وذلك الاستبداد. بغير علوم "الغرب" لن نمتلك القوة وبغير ثقافة "الغرب" لن يكون لما نمتلكه، مهما امتلكنا، أىّ قيمة.
من يحدثوننا عن التغريب ويروّعوننا بتهمة التغريب يستخدمون خلط المفاهيم سلاحا لكى يبقوننا أسرى لفكر رجعى وأسلوب حياة عبودى.
دعونا لا نسقط ضحايا لخلط المفاهيم. الغرب بصورته المركبة الملتبسة فيه شر كثير علينا أن نحاربه وفيه خير كثير علينا أن نستخلصه ونمتلكه فهو إرث مشروع لنا.
مدينة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ما أعظم الغرب!
علقمة منتصر ( 2013 / 8 / 20 - 19:31 )
رغم ثميني العالي لأهم ما ورد في مقالك لكني لا أعفي نفسي من معارضتك في بعض النقاط، أهمها، مرورك مر الكرام على الحقبة المسيحية في أوربا وكيف ساهمت في الإجهاز على التراث العقلاني اليوناني والروماني، ثم كيف أغرقت أوربا في حقبة مظلمة قاسية دامت ألف سنة تقريبا ثم كيف أن نهضة أوربا بدأت بالعودة إلى التراث العقلاني اليوناني والرماني عبر البوابة العربية أولا قبل أن تتجاوزها وتستغني عنها في صراع مرير مع الكنيسة التي استماتت في عرقلة ذلك النهوض، وكيف كان التغلب على هيمنتها بداية الحداثة. كما أختلف معك في قولك: (والغرب هو تلك الأنظمة الحاكمة المستبدة التي تمصّ دماء الشعوب المستضعفة). فعن أية أنظمة حاكمة أوربية مستبدة تتحدث؟ هل يمكن أن نمر دون الإشارة إلى أن ما بلغته تلك الأمم من تمدن وديمقراطية وعلمانية ومشاركة شعبية وحقوق إنسان وتحرر النساء حتى صارت مهوى أفئدة الشعوب الأخرى؟ لعلك تلمح إلى العلاقات غير المتكافئة بين الغرب وشعوب العالم الثالث. والواقع أن ذلك يعود أصلا إلى عجز مزمن في تلك الشعوب التي لم تتمكن من إحداث القطيعة مع موروثها المتخلف كما فعلت شعوب الغرب. تحياتي


2 - نحن؟ من نحن؟ أما الغرب فنعرفه
عبد الله اغونان ( 2013 / 8 / 22 - 02:31 )
لاقياس مع وجود الفوارق
الغرب حددهويته ويراعي مصالحه
لكن على حد قول القذافي من أنتم من قراءتك لاأجد معك أي نقاط التقاء
في الدين الواحد هناك صراع اسلاما كان أو مسيحيا
في السياسة هناك صراع داخل مجتمع واحد بل وحزب واحد
تحسبهم جميعاوقلوبهم شتى

اخر الافلام

.. فيلم السرب لأحمد السقا يحصد 22.4 مليون جنيه خلال 10 أيام عرض


.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار




.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة


.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن




.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع