الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إعادةإنتاج التخلّف - نزار قباني نموذجاً / 2-4

ياسر اسكيف

2005 / 5 / 16
الادب والفن


( تأبيد المراهقة )

لقد اختصر نزار قبّاني المرأة , في واحدة من الزوايا التي اختارها للتصوير , إلى نهد وشفاه , حلي وملابس . إنّه عنى وخاطب , بل صوّر جزءاً محدّداً من النساء , يتمتعن بميّزات جسدية , جسدية فحسب , تضعهن على رأس السلّم الجمالي , الذي أقرّته , بالتأكيد , الإرادة الذكورية . وعلى هذا الأساس تنتفي كلّ الميزات والصفات الأخرى التي تجعل من المرأة كائناً إنسانياً جميلاً , وأقصد تلك الميزات التي يشترك فيها كل من الرجل والمرأة , كالذكاء والمعرفة ولإحساس بالمسؤولية ورهافة الحس .... الخ , بمعنى آخر , كل ما اصطلح على التعبير عنه ب (الروح الجميلة ) أي الصفات التي تخص الجدارة وليس الممنوحة دون جهد .
( هذا الذي بالغت ِ في ضمّه ِ
أثمن ما أخرج َ للعالم . – الأعمال الكاملة ص68 )
لا يخفى على أحد بأن ما قصده الشاعر من المبالغة في الضمّ هو النهد . وحينما يكون النهد هو أثمن ما تخرجه المرأة للعالم , أو ما أخرجته قدرة أخرى , فلا بدّ حينها من التفكير بغثاثة الإبداع الأدبي والفتني والعلمي الذي أخرجته النساء للعالم حينما نوافق الشاعر على قوله السابق . ذلك القول الذي يوجّه للمرأة إهانة لا تخفى إذ يختصر بالنهد كلّ ثمين فيها , إنّه المنطق الذي يمارس قتلاً متعمّداً يطال شهرزاد , شهرزاد التي لم تقدّمها الحكاية كإمرأة جميلة ومثيرة وغانية , شهرزاد التي لا تنال علامة واحدة لو طبّق عليها قانون انتخاب ملكات الجمال , هذا القانون الذي صاغه الذكور , بكل ما يحمل من عنصرية وتحيّز لأنه لا يقيم اعتباراً للإمكانية , بل للعوامل الوراثية المحضة .
لكنّ شهرزاد تملك بالمقابل كمّاً هائلاً من المعرفة والحكمة فقد ( قرأت الكتب والمصنّفات والحكمة , وكتب الطبيّات , وحفظت الأشعار وطالعت الأخبار وعلمت أقوال الناس وكلام الحكماء والملوك , عارفة لبيبة حكيمة أديبة .... – ألف ليلة وليلة – المكتبة الشعبية – ص66 )
واستطاعت بذكائها وحسن استخدامها لمعرفتها أن تروّ ض الوحش الدموي الذي تعملق في ذات شهريار . إنها لم تستخدم عناصر الإثارة الجسدية أبداً , كتأكيد على أن هذه العناصر من السهل أن تكون مملوكة بامتلاك حامليها , وبالتالي يكون اعدامها ممكناً وسهلاً .
والغريب أن أغلب النساء العربيات القارئات والمستمعات احتفلن احتفالاً مجنوناً بصورتهن , التي صاغتها وأبرزتها أشعار نزار قباني , كنقيض لصورة شهرزاد , وإعادة إاتاج زوجة الملك شهريار , المرأة الجميلة المثيرة , ولكن المملوكة التي تتمرد ضد امتلاكها , وهنا لا بدّ أن تتجلى لنا وحدة الحال الوهمية التي تجمع المرأة العربية مع زوجة شهريار , والتي أرى في تجربة نزار قباني محاولة حثيثة لتبديد وهم هذه الوحدة ودفع المرأة العربية لتكون تلك المرأة بعينها , ذلك أن النص القباني في الكثير من أجزائه يعيد إنتاج تلك المرأة على أنها النموذج الأسمى والأروع للجمال .
( أجمل مافيك هو الجنون
أجمل ما فيك – إذا سمحت لي –
خروج نهديك على القانون . – أعمال كاملة ص769 )
مرّة أخرى , أجمل ما في المرأة هو خروج نهديها على القانون , وليس خروجها ككائن مستقلّ وذات فاعلة على قانون الحريم والجهالة والاستعباد , تلك التي لن تكون بالعري على أيّة حال , بل باكتساب وعي مختلف ومغاير عن النسق المعرفي الذي يكرّس العبودية والإلغاء .
وأعتقد بأن أي صوت تعنيه حريّة المرأة , ويهمّه رفع الحيف اللاحق بها وانخراطها في المجتمع كفاعليّة لا كحياد , أن يثمّن الجوهري فيها ويدعوها لامتلاك الأدوات التي لا يمكن تجريدها منها .لقد فعلت زوجة شهريار ما يطلبه نزار قباني من المرأة , فلم تؤكد الجمال بإخراج نهديها على القانون فحسب , بل أخرجت جسدها كلّه ومنحته لنقيض الملك . منحته للعبد في ممارسة تقصد نفي امتلاكها وعبوديتها . إن أمراً كهذا يمكن فهمه والتعاطف معه باعتباره انعتاقاً وخرقاً لقانون الحريم , لكنّه خرقاً شهوانياً وانعتاقاً آنيّاً اتّخذ بعداً إنتحارياً وانتهى دون أن يكرّس تجربة يمكن التوقف عندها . والسبب كم نرى يعود إلى أن الشهوانية الجسدية المعزولة عن ملكات الجسد الأخرى هي نحو غريزي محض , وبالتالي نكوص وارتداد فيما يؤمل من مقدرات الجسد .
إن نزار قباني في إحيائه المرأة المقتولة , التي لم تكن تتمتع بأيّة مؤهلات غير جسدية , قد جعله المنتصر الأول لنساء الحريم , والمراهقات منهن على وجه الخصوص . ذلك إن المراهقات يكنّ في طور التّشكل والبحث عن الانخراط في الفعالية الاجتماعية , كائنات لا تتمتع بعد بأية مؤهلات فاعلة , وتعيش في حالة انعدام للوزن باحثة عن كينونة وتحقّق . وعلى الرغم من ذلك يكنّ محطّ إعجاب واندهاش . وفي الأعمّ الغالب يكتفين بما يمتلكن من مكامن الإعجاب دون أن يدركن أن العبد واقف خلف الباب وسيف شهريار متعطّش للدم .
إن الارتسام و التموضع اللذين تنوجد المرأة حسبهما في النص القباني هو حالة من تأبيد المراهقة وتحصين المرأة ضد النضج والتطور . ذلك لأنها في حالة النضج ستصبح ذاتاً تتحرك دوماً باتجاه تحقيق الاستقلال , مستخدمة في حراكها وصراعها كلّ ما امتلكته من إمكانات وأدوات تقرّبها من ذلك الاستقلال الأمر الذي يجعلها تقترب من التعرّف والتعيّن بذاتها بعيداً عن مقاييس الرجل , الرجل الذي يتحاشى الارتباط بالمرأة الذكية الناضجة , المرأة التي تدرك وتعي أن عنصر قوّتها الحقيقي لا يكمن في مفاتنها الجسدية وحسب , بل في القدرة على إدارة واستثمار طاقات الجسد الذي تمثّل الطاقة الجنسية جزءاً محدّداً منها .
إن صورة المرأة السابقة , حفيدة شهرزاد , غائبة كلّ الغياب عن التجربة الشعرية لنزار قباني والحاضرة في تلك التجربة هي المرأة التي تحيي في كلّ لحظة طقوس المراهقة وهشاشتها , المرأة التي تبدّل أثواباً بعدد ألوان قوس قزح , المدركة أن لا ملكات لديها , وأن جسدها هو رأس مالها الوحيد . إنها امرأة لا يربطها بجدّتها شهرزاد أي خيط , فهي حتى في لحظات حريّتها الوهمية , التي يمكن أن تمارسها كتابة فوق صفحات كرّاستها , نجدها لا تفكّر إلا بحرية منقوصة , حريّة جسدها وليس غيره .
( خلوت اليوم ساعات إلى حسدي
أفكّر في قضاياه
أليس له هو الثاني قضاياه . – الأعمال الكاملة ص 590 )
إن من يقرأ المقطع السابق يخال له وكأنما يسمع صوت امرأة طحنتها هموم الحياة واستغرقتها المسؤوليات والمشاكل , إنها امرأة أهملت جسدها ونسيته في خضمّ انشغالاتها المهنية والفكرية . ولكننا ونحن نعلم أن التي يقوّلها الشاعر هذا الكلام هي محض مراهقة تمارس الحرية في الحلم , فإننا ندرك أن هذا الكائن لا قضية لديه سوى جسده , ولنقل إشباع رغباته الجسدية . وهو حلم الشاعر وأمنيته التي يحاول دوماً أن يثبّت المرأة في إطارها المذهّب . وحينما نتعرّف على القضايا المهمّة والعالقة التي تخص جسد هذه المراهقة :
( لمن صدري أنا يكبر ؟
لمن كرزاته دارت ؟
لمن تفّاحه أزهر . ص589 )
نجد أن تلك القضايا المهمّة , أو التي تبدو مهمّة , هي أسئلة الشاعر وليس المرأة , لأن نزار قباني في صناعته للمرأة لم يجرؤ على صناعة المرأة المتمردة الساعية إلى خلاصها , ولم يلامس الهموم الحقيقية لدى المرأة , إنما سعى على الدوام لتكريس النموذج النسوي الذي يتطابق مع رغبته , وحمله ما يريد أن يراه فيه . لقد صنع بكلّ بساطة امرأة دمية وببغاء , امرأة تكفّ عن الكون امرأة ً بمجرّد أن يبتر نهداها . امرأة لا تفيدها شهاداتها العلمية , ولا حياتها المهنية , ولا انخراطها الفاعل في النشاط الاجتماعي , ما دامت لا تملك صدراً عارماً ومؤخرة مكتنزة .
هذا هو النموذج النسوي الذي أبدعه نزار قباني وجعل آلاف الفتيات يحلمن لو كنّه . وهذه هي الكيفية التي يدعو فيها النساء إلى التحرّر , لأنها الكيفية الوحيدة التي تجعل من حريّتهن كذبة وخدعة , وهذا ما ينسجم تماماً مع الرؤى المختلفة التي تشكّل المرأة في التجربة القبانية , المرأة التي تتمتع باجتماع الحجاب والعري في ثنائية فصامية شأن جميع الثنائيات الأخلاقية التي يتبادل قطباها المواقع في الضوء والعتمة . فالمراهقة الأبدية التي صاغتها وخلقتها وأبّدتها التجربة القبانية قد مسخت الفعالية الإنسانية إلى مجرد إغواء وفعل جنسي . وهذه أفعال لا تتطلب مهارات خاصّة , شأن الإيمان , ولا تتطلب كفاءات واختصاصات علمية أو أدبية , شأن أي فعل غريزي . وهنا يتجلى الحجاب المقصود , المتمثل بإلغاء العقل , أو الإقلال من شأنه عبر التأكيد المستمر والمتواصل عبر تأليه الحسد وتبجيل عريه . وفي العودة إلى المقطع السابق نلاحظ أن الفهم الذي يقدّمه نزار قباني عن إحساس المرأة بجسدها لا يأتي من اعتباره جسدها الذي يخصّها والذي ترتبط معه بحميمية , بل بكونه شيئاً معروضاً للاستخدام وقيمته تأتي من زيادة الطلب عليه كأي سلعة , وحينما لا يستحوذ عليه رجل أو يسعى إلى ذلك فوجوده لا يتأكد .
والأمر السابق يجد تفسيره وتأكيده في النموذج النسوي الفصامي الذي تكونه تلك المرأة , المرأة الباحثة عن أو الساعية إلى الحريّة , حسب الطريقة القبانية :
( أنا أنثى
نهار أتيت للدنيا
وجدت قرار إعدامي . – الأعمال ص579 )

ولأنها أتت إلى الدنيا في ( شرق المشانق والسكاكين ) كما يصوّرها الشاعر , فمن الطبيعي أن تفكّر بالفرار الذي يقودها إلى النجاة :
( أريد أفرّ من شرق الخرافة والثعابين
من الخلفاء .. والأمراء
من كلّ السلاطين . –الأعمال ص597 )
ولكن الذي يثير الاستغراب والعجب أن هذه المرأة تؤثر شرقها / مدينتها / أي تؤثر قاتلها ومشنقتها . فأيّة امرأة هذه , وهل هي أكثر من مشجب لتعليق أوهام الشاعر , أو مرآة تعكس تمزقه وفصامه بين عالمين أحدهما ينفي الآخر ويلغيه . الأول هو عالم الحرية الذي يحقق له الحصول على أكبر عدد من النساء دون الاصطدام بحاجز التعصب والتزمت والانغلاق , والثاني هو عالم التملك ولاستحواذ أي ديمومة حقيقة الحريم الذي قد تتيح الحرية جمعه . ولأن المرأة في شرط الحرية لا يمكن أن تكون مملوكة , فإن الشاعر يسعى لخلق وتكريس وتعميم نموذجه الحريمي الذي لا تعني له الحرية سوى حريّة الجسد , وبالتالي فهو أسير هذه الحرية المشروطة وعبد فضائها المتمثل بالجنس أي الرجل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزائر.. -سوق أزمان- في تلمسان رحلة عبر التاريخ والفن والأد


.. المخرجة والكاتبة دوروثي مريم كيلو تروي رحلة بحثها عن جذورها




.. هاجر أحمد: بوعد الجمهور إنه هيحب شخصيتى في فيلم أهل الكهف


.. حاول اقتحام المسرح حاملاً علم إسرائيل فسقط بشكل مريع




.. لماذا غنت كارلا شمعون باللهجة الجزائرية؟.. الفنانة اللبنانية