الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على من سأبكي أولاً؟ قصة قصيرة

خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)

2013 / 8 / 23
الادب والفن


على مَن سأبكي أولاً؟
هكذا فاجأًتْ فاطمة أمّها الغارقة في دمعها السخيّ...
الأمُّ التي ربّت تسعةَ أولادٍ وخمسَ بناتٍ من قبل، تعرفُ أن الحزنَ والتعبير عنه لدى الأطفال لا يكونُ ممنهجاً مثلَما هو عند الكبار، هناكَ خارطة للحزن يتبعها الناضجون، بكاء، مجاملات، تذكُّر حسنات الميت، أو سيئاته في أحيان نادرة، أما لدى الأطفال، فالحزن يخرج مثل ماء المطر، عشوائياً ونقياً، لا يهمُّه أين يسقط وبأية كميةٍ ولا في أي وقت.

هكذا كانت فاطمة، حين تفرح، يخرج الفرح كطيورٍ ملوّنة غادرت شجرة صفصافٍ دفعةً واحدة في كل اتجاه، وحين تحزن، ينهمرُ الحزنُ من عينيها اللتين بلون العسل، من يديها، من شعرها، من شفتيها المزمومتين كفتحة كيس نقودِ جدّتها، من كل جزءٍ في جسدها، كاسرةً مقولةَ أبيها: الحزن دائماً في الوجه...

على مَن سأبكي أولاً؟
أجلسَتها أمُّها على ركبتها، وأخذت تجدّلُ شعرها العسليّ في خصلٍ صغيرة، هكذا كانت تحبّه فاطمة، وهكذا كانت تحبه أمها، وأخذت تغني لها:
يمة ويا يمة وحبيبي وينو
سكر البحر ما بيني وبينو
كنو مداين لاوفيلو دينو
عشرة عصملي ما بيهمونا
وتسأل فاطمة: شو يعني عُصملّي؟

على مَن سأبكي أولاً؟
لماذا تريد هذه البنت أن ترتب أولويات الحزن في روحها وتبكي أولاً ثم ثانياً ثم ثالثاً؟ فبالضرورة حين نقول: أولاً، أن تكون متبوعة على الأقل بثانياً وربما ثالثاً ورابعاً، وهي تعرف أن أخبار هذا الصباح كانت كثيفةً ولزجة، الموتُ على شاشات الفضائيات مختلف ومركّز، البنتُ تبكي على الأطفال بالذات حين تشاهدهم خائفين مرتجفين يبحثون عن أهاليهم، لم يحدث أن بكت فاطمة على ميّتٍ في سنواتها التسع كلها، دائماً تبكي بغرابةٍ وحزن عميقين كلما شاهدت غزالاً مجروحاً، أو أولاداً تائهين، وحتى في الحروب الأكثر دموية، تبكي من بقي على قيد الحياة أكثر مما تبكي الميتين، في إحدى الحروب التي مرت بها فاطمة، بكت ليومين متتاليين ولداً يحملُ قطته الميتة ويحاول أن يوقظها، لم تعد تذكر أين حدث هذا المشهد بالضبط، في غزة أو في لبنان أو في العراق أو في سوريا أو في مصر أو في تونس أو في اليمن، تداخلت الأحداث في رأس الأم، أما فاطمة فكانت تضع كلّ لقطةٍ في أرشيف ذاكرتها الصغير، مختومة كعلامةٍ رسمية، بيومها وتاريخها ولونها ورائحتها.

على مَن سأبكي أولاً؟
ـ وما الفرق يا فاطمة إن بكيتِ هذا أولاً أو ثانياً؟
كانت الأم تؤمن أن البكاء يغسل الروح وينقي القلب، لكنها لم تكن تفهم لماذا تهتم ابنتها بالأولويات في البكاء، لماذا أولاً وثانيا؟
ـ لأنني لا أعرف أيهما يستحق دمعاً أكثر، وكل واحد منهم يستحق دمعاً، أنا لا أحب البكاء من غير دمع، إنه كذب، أعرف أنكِ ستقولين لي: الحزن في القلب، ولكن القلب لا يحتمل أن يمتلئ بالدموع مرة بعد مرة، فإما ينفجر أو يبكي، لذلك فالناس الذين لا يبكون ولا ينفجرون يكذبون...

لم يُدهش منطقها أمَّها، فهي تعرف أن ابنتها تجاوزت عمرها بكثير، فأين ستجد طفلة في العالم عمرها تسع سنوات وعاصرت حروباً وثورات وانتفاضات؟ لم تكن تحب نضج ابنتها، لكنها نضجت على أية حال...

على مَن سأبكي أولاً؟
انتهت من آخر خصلةٍ في شعر ابنتها، ثم قالت وهي تلملم بضع شعراتٍ سقطت من أسنان المشط الصغير: قومي وأحضري قلماً وورقة، سنكتب ما يدعو للبكاء، ونرتبه في قائمة، ثم سنبكي عليها معاً واحدة تلو الأخرى...

الثالث والعشرون من آب 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -مستنقع- و-ظالم-.. ماذا قال ممثلون سوريون عن الوسط الفني؟ -


.. المخرج حسام سليمان: انتهينا من العمل على «عصابة الماكس» قبل




.. -من يتخلى عن الفن خائن-.. أسباب عدم اعتزال الفنان عبد الوهاب


.. سر شعبية أغنية مرسول الحب.. الفنان المغربي يوضح




.. -10 من 10-.. خبيرة المظهر منال بدوي تحكم على الفنان #محمد_ال