الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-المعارضة وقاعدة حكم السلطة في ميزان الأزمة السورية-

عفيف رحمة
باحث

2013 / 8 / 24
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


في الفترة القريبة الماضية، طفى على سطح أحداث الصراع على سوريا، ظاهرتان متلازمتان ومكملتان لخطة إرهاق واستنزاف الدولة والمجتمع بغية زيادة فرص التحكم مستقبلاً بهوية السياسة السورية، فحسب دبلوماسية إدارة باراك أوباما لا يجوز أن يخرج من هذا الصراع غالب و مغلوب، بل صراع مستدام ومتجدد حتى إرهاق الجميع وإنتصار السياسات الإستعمارية للولايات المتحدة الأميركية.

الظاهرة الأولى، التنظيمات والمجموعات المسلحة وقد أقر بوجودها أعداء الدولة في الخارج قبل خصوم السلطة في الداخل، وقد شرعنها البعض ورفضها البعض الآخر، أما الظاهرة الثانية الملازمة لنشاط التنظيمات المسلحة فتجلت بتعاقب الإنشقاقات في قاعدة حكم السلطة التي أخذت تفقد بريقها وتجنح نحو شكل من اشكال التهريج السياسي المبتذل، فالمنشقون من لحم ودم النظام المستدام، ولم يكونوا يوماً خصوماً له بل أبناءه الشرعيين وقد استماتوا حتى فترة غير بعيدة في الدفاع عنه، وإنشقاقهم لا يغيير من سوء مصداقيتهم كشركاء في فساد السلطة، كما ولا يعطيهم براءة ذمة أو شهادة حسن سلوك يخولهم لعب دور وطني في المرحلة القادمة، ذلك أن كل ما فعلوه هو تغيير جهة الإرتباط والولاء.

ورغم ما تمثله هذه الظاهرة مذدوجة الوجه من إبتذال سياسي وسفاهة مسلحة فإنها من ناحية أخرى تعبر عن دخول السلطة مراحل متقدمة من إهتلاكها العضوي. فما يمّيز هذه الإنشقاقات أنها تعود لسويات سلطوية مختلفة ومن مختلف مؤسسات الدولة، التنفيذية التشريعية، الأمنية، العسكرية...، مما يكسب هذا الإهتلاك صفة الشمولية، وإذا لم نسمع بعد عن حدوث إنشقاقات في الصفوف العليا من الحزب فلأنه لاقيمة سياسية لمثل هذا النوع من الإنشقاق لأسباب سنوضحها في سياق عرض القوى الفاعلة في أزمتنا السورية.

السلطة وقاعدة حكمها
إعتمدت السلطة في العقد الأول من حكم البعث في قاعدة حكمها على العنصر العسكري بسبب ضعف التشكيل الحزبي وصغر حجمه وضيق إمتدادة الشعبي، أما في العقود الأربعة اللاحقة فقد أكدت إعتمادها في قاعدة حكمها على الأجهزة الأمنية بشكل رئيس لتأمين استقرارها واستمرارها، فتحولت بذلك من سلطة عسكرية إلى سلطة أمنية في الشكل والجوهر، أما باقي أركان قاعدة الحكم فكانت مكملة للشكل أو متممة للمهام لكن دون ذي أهمية حقيقية.
بالتعريف مهمة الأجهزة الأمنية حماية أمن البلاد والتكامل مع المؤسسة العسكرية لضمان سلامة شعبها ووحدة أراضيها، مهمة كانت تقتضي التفرغ للبحث والعمل لجمع المعلومات حول مصادر تهديد سلامة وأمن البلاد.
من حيث المبدأ لا يمكن أن يكون الخطر من الداخل، فإذا كانت السلطة من الشعب ولأجل الشعب فلا يمكن أن يكون الشعب مصدر هذا الخطر، وإن كان عكس ذلك فهو مؤشر عن وجود خلل عضوي في العلاقة بين السلطة والشعب.

بديهياً يفترض أن يكون مصدر الخطر دائماً من الخارج، إدارة الولايات المتحدة الأميركية بسياساتها الهادفة إلى تحقيق مصالحها بكل السبل المشروعة وغير المشروعة، الغرب الأوروبي الذي لا يبخل بتجميل مشاريعه الإستعمارية الجديدة بنفحات إنسانية، الصهيونية وطموحاتها الوقحة في الإستيلاء على خيرات الشعوب والتحكم بالحركة الإقتصادية في جميع أرجاء العالم، الأخطار والمطامع الإقليمية، المشاريع الإسلاموية القديمة والجديدة... أمام كل هذه المخاطر أظهرت الأجهزة الأمنية فقراً بالمعلومة والوثائق، أما ما ملكته من معلومات فلا يندرج إلا ضمن زاد الصفقات السياسية والأمنية، فتعاملها مع الشأن الإسلاموي على سبيل المثال ما كان إلا من منظور التسويق أو المساومة السياسية مع الغرب أولاً ومع منظومة الخليج النفطية ثانياً....

كانت الاجهزة الأمنية تنظر وتبحث وترصد في مكان آخر، كانت تنظر نحوالداخل، كان هاجسها ملاحقة ومتابعة نشاط الوطنيين، يساريين، قوميين، ماركسيين...الخطر كان في الداخل، كان آت من هذه القوى لأنها تفكر، تفكر بنظام بديل أكثر ديمقراطية وأصدق علمانية، قوى لا يندرج في مشروعها النهضوي الإستبداد، الإقصاء، الطائفية، الفساد، لكن السلطة بتركيبتها كانت سلطة إستبداد وفساد، سلطة غارقة بنرجسيتها حتى أنها ظنت أنها تجسد الوطن والشعب والتاريخ، ولتطمين نرجسيتها أخذت تعمل على برهان عظمتها مستثمرة خيرات ومقدرات البلاد والعباد لتوثيق عظمة الذات الخالدة كحقيقة مطلقة.

الجيش
أسس الجيش منذ الإستقلال على قواعد وطنية (هو حام الديار) لكنه لم يسلم من الفساد المادي من ناحية، والفساد العسكري من ناحية أخرى حيث تحول في بعض قطاعاته إلى حقل للإستثمارات والإثراء الشخصي، وظاهرة "تفيـيش المجندين" واحدة من أهم هذه الممارسات التي إستنزفت جزء لا يستهان به من طاقات الجيش المادية والبشرية.

الحزب
لم يكن حزباً بالمعنى السياسي، كان منذ مطلع سبعينات القرن العشرين، درعاً بشرياً للدفاع عن رموز السلطة وسياساتها العبـثية، وبدلاً من أن يلتزم الحزبيون بواجبهم النضالي ويتوجهوا نحو مختلف شرائح الشعب للإحتكاك به والتعرف على قضاياه ومشاكله، كان الحزبيون يلعبون دور المخبر المجاني إستكمالاً للدور المرسوم لهم تحت عباءة أمن الوطن وأمن الثورة.

في جميع السياسات التعليمية، التربوية والإقتصادية التجريبية... التي أظهرت فشلها وكارثيتها على الدولة والمجتمع والمواطن، كانت مهمة الجهاز الحزبي الترويج لعبقرية هذه السياسات التاريخية الإستثنائية وتبرير منعكساتها السلبية ورمي المسؤلية على العالم بأكمله، الصهيونية، أعداء الإسلام والعروبة، الإمبريالية العالمية المؤامرات الداخلية، المؤامرات الخارجية، وحتى اصدقائنا في العالم لم يسلموا من هذه التهم العبـثية.

مناخ وبيئة سمحت للحزبيين الشرعنة الذاتية للغوص بالممارسات الإنتهازية والمصلحية، وضمن هذا السياق ووفق هذا المنهج بنيت مؤسسات الدولة، التشريعية، القضائية، التنفيذية.
هذه البنية الحزبية المريضة تنظيمياً وفكرياً تفسر لنا سبب إنسحاب الكم الكبير من البعـثيين من حضورهم التنظيمي، وتحول عدد كبير منهم إلى اسلاميين فطريين أو اسلامويين مناصرين للدور الذي تلعبه تركيا الإسلاموية سياسياً ومالياً وعسكرياً بمباركة ودعم مباشر من شيوخ النفط الخليجي، ويجتهد عدد آخر منهم لتبرير التدخل الخارجي وشرعنة تحول الحراك الشعبي السلمي إلى مظاهر فوضوية مسلحة، حزب يجمع المتناقضات ويعيش منها وعليها.

مؤسسات الدولة الإقتصادية بقطاعاتها المختلفة، الثقافية والتعليمية، الإعلامية، الحقوقية، ... جميعها كانت موضع إبتزاز من السلطة الأمنية والحزبية خدمة لمشروع تمجيد الذات الخالدة.

الأحزاب السياسية
ضمن هذا الإطار وليكتسب النظام طابع الشعبية، أحدثت الجبهة الوطنية التقدمية بضم فريقين من الأحزاب إلى حزب البعث، الأحزاب القومية، الناصرية، الوحدوية التي لم تكن يوماً إلا زوائد لحمية من جسد البعث، زوائد خرجت من الجسم وبقية ملتصقة به فبدونه تزبل وتتموت ثم تسقط دون أن تترك أثراً لوجودها. أما الفريق الثاني فكان مكوناً من فصائل "شيوعية" انقسمت على ذاتها بفعل تكامل أسباب ذاتية وموضوعية تجسدت نضالياً بالتضاد السياسي والوهن العقائدي، وترجمت عملياً بالرفض الباطن للتحولات التاريخية التي جرت وتجري في العالم، رغم أن هذه التحولات أعطت إشارات عن حتمية حدوثها منذ مطلع ستينات القرن العشرين، وبقصور في تفسير أسباب هذه التحولات جعل البعض في هذه الفصائل يتنكر لأهدافه وبرامجه الطبقية. قضايا لسنا بصدد إستعراضها او مناقشتها لكنها كانت سبباً لتستر هذه الفصائل عورتها بأوراق الحزب الحاكم الممسك بزمام السلطة، وذلك كخيار داخلي وذاتي للدفاع عن وجودها ولتمويه عجزها الفكري والمعرفي في فهم التحولات كحقائق تاريخية وحتمية، وعدم قدرتها الدفاع عن المصالح الطبقية للجماهير الكادحة والمهمشة اجتماعياً.
فماذا لو اتخذت يوماً أحزاب الجبهة حليفة السلطة قراراً بالإنفصال عن السلطة، عندما كانت السلطة ترتكب الموبقات الإقتصادية والسياسية، هل كانت السلطة ستكابر وتبقى على فسادها. تذرع كثيرون من أقطاب هذه الأحزاب بأن المقاومة عند النظام تشفع له ممارساته فهل تكون مقاومة بوجود الفساد ألم يكن موضوعياً القول كلمة لا ولو لمرة واحدة ؟!

المعارضة والأحزاب المعارضة
بإستثناء الموقف من حزب الإخوان المسلمين الذي يحتاج لبحث موسع، فقد منعت السياسات الإقصائية للسلطة تشكيل بنى قوية للمعارضة (المفترض موضوعياً في ظل سياسات وطنية أن تكون وطنية بإمتياز) لكن في ظل هذه الظروف وفي إطار القوانين الإقصائية المبنية على مبدأ "من ليس معنا فهو عدونا" تبنت الأحزاب السياسية، التي إنشقت عن أحزاب التحالف الحكومي، مواقف لم تمتاز بالحكمة السياسية بل كانت قائمة على مبدأ الفعل ورد الفعل المطلق، على الثنائية أبيض وأسود، فكل مواقف أو سياسات النظام خاطئة أو لا وطنية بالمطلق، ووفق هذا المنهج ساهمت هذه المعارضة في إعطاء المبررات الموضوعية والذاتية لترسيخ إستبداد السلطة وتمتين مواقعها، ممارسة أخرجت المعارضة من حاضنتها الشعبية وساهمت بتعميق الخسائر الوطنية والطبقية التي آلت بشكل مباشر وغير مباشر إلى ما نحن عليه.

وبالتوازي مع هذه الأحزاب نشأت معارضات فردية، من جميع الأشكال والأطياف، ثورجية، وطنية، طوباوية، ثأرية، إنتهازية، فوقية، عبثية، مرتهنة، ثورجية جديدة ... معارضات فردية دونكيشوتية لم تستطع تكوين قواعد وكوادر مناضلة (ويبدو أنها وبسبب فوقيتها لم تفكر يوماً بمثل هذا المشروع)، ولم يكن بمقدورها وضع برامج عملية للتغيير الوطني، عجز لم يظهر في صفوف المعارضة الداخلية فحسب بل ظهر جلياً حتى عند المعارضة المرتهنة للمشاريع الإستعمارية، وما التشكيلات المعارضة التي برزت من 2005 في الخارج حتى يومنا هذا إلا تأكيد على عجز هذه المعارضات تكوين فكر تغييري واضح ومقبول وطنياً.

إن تفسير هذه الحالة من العجز الفكري والسياسي في وضع برامج للتغيير الثوري أو السلمي، يمكن جزئياً تفسيرها بتدني الحريات الفكرية والسياسية لمدة أربعة عقود، لا بل ستة عقود منذ أول إنقلاب عسكري على يد حسني الزعيم، و بقسمها الأكبر للطبيعة الإنتهازية والفردية للمثقفين الذين حملوا لواء المعارضة والتغيير، فرفضهم الظاهر لسياسات الإقصاء الذي تبنته السلطة خلال أربعة عقود كان يقابله تعايش ذاتي يعبر عن قبول باطن لهذه السياسات لأنه قائم بشكل عام على رفض الآخر والرغبة بإقصائه، حالة من الوعي السياسي المذدوج، وهذا ما يفسر برأيي عدم قدرة هذه المعارضات الفردية على الحوار والتلاقي والإتفاق على قواسم مشتركة تؤسس لبرنامج موحد للتغيير السلمي. واقع وطني يستدعي إنكار للذات لكن في معارضاتنا كل معارض يملك الحقيقة لذا فهو يحرض، يُكَذِب، يشكِك، يخون الطرف الآخر، منهج مستنسخ بإتقان من ممارسات السلطة وطبيعتها، ناهيك عن فهمهم للثورة فرغم أن العالم خلق بستة ايام إلا أنهم جميعاً يريدون التغيير بيوم واحد دون النظر لشروط نضج الثورة وظروفها الموضوعية.

هذه هي البيئة العامة للمعارضة ولقاعدة الحكم التي تطور عبرهما الصراع السياسي، وهذه الملامح التي أسست منذ مطلع سبعينات القرن العشرين الأسباب المادية الموضوعية لدخول الدولة مرحلة الهشاشة، مرحلة الإهتراء، مرحلة التفكك، مرحلة التفسخ، وأمام المتغيرات التاريخية الداخلية لا يمكن للدولة السورية أن تبقى كما كانت، وقاعدة الحكم لن تتمكن مستقبلاً من التظاهر بصلابة بنيانها، لقد اصبحت هشة بحكم تشابكاتها وتعقيداتها التي منحتها شكلياً في الماضي القريب صفة التماسك والصلابة.

عبر اربعة عقود كان يفترض من المعارضات أن تكتسب الخبرة والمعرفة السياسية والنضالية اللازمة ذاتياً لتتمكن موضوعياً من أخذ دورها الوطني في إجراء تغيير النظام بالطريق السلمي، فالسلطة ما هي إلا مارد من فخار لإنهياره يكفي أن يضرب على عصب أخيل أسفل ساقه لينهار.
إن فهماً صحيحاً لطبيعة النظام وتحليلاً موضوعياً لطبيعة الأزمة كانا كفيلين منذ زمن طويل بجر النظام من أذنه إلى طاولة حوار لا يكون فيها مقرراً بل طرفاً على قدم المساواة مع باقي الفصائل السياسية.
لقد استطاع النظام بفعل محركه الأمني الفاعل أن يمنع ولادة معارضة ناضجة وواعية فبقيت أفراداً أو شرازم سياسية أدواتها السياسية مستنسخة عن أدوات النظام بذاته، التخوين والمهاترات السياسية ورفض الآخر.

ما يمكننا قوله أن المعارضة (الوطنية) في مراحل صراعها المختلفة مع السلطة لم تحسن استثمار عيوب السلطة وهشاشة قاعدة حكمها، وإنطلقت من التمنيات المشروطة دون قدرة على فرض الحوار السياسي وشروطه كطريق للتغيير السلمي للنظام، وعجزت عن فرض حالها كطرف محاور ذي شرعية شعبية كاملة يملك مشروعاً وبرنامجاً حقيقياً للتغيير السلمي بكامل مكونات المشروع السياسي.

إن افتقار أطياف المعارضة لهذه الرؤية الشاملة لمشروع سياسي للتغيير السلمي للنظام، جعلها تذهب بعيداً إلى أقصى الحدود لتنادي بإسقاط النظام ولو بالسلاح، مقدمة فرصة ذهبية وحجة للنظام لكي يؤخر ومن ثم يتحرر من الإستحقاقات التاريخية الحتمية في تغيير المنظومة السياسية القائمة وأرضيتها العقائدية.

هل ستظهر الأيام القادمة مشهداً سياسياً جديداً نقرأ من خلاله بتفاؤل وثقة برنامجاً وطنياً لإدارة الأزمة المستعصية، وهل ستتمكن المعارضات الوطنية من الإتفاق على تخريب المشروع الغربي في إرهاق وإنهاك سوريا وشعبها كشكل مستدام لدولة ضعيفة مستباحة (ربما كحل لمصلحة الغرب بدل التقسيم المشكوك بإمكانية تحقيقه)، الأيام قادمة وسنعرف منها هل نضجت المعارضات وتحولت إلى معارضة وطنية موحدة، أم سننتظر طويلاً لولادة معارضات من رحم هذه الأزمة الوطنية الكبرى.....إنها مجرد أيام ولو مؤلمة وسنعرف الجواب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تعتقل متظاهرين مؤيدين للفلسطينيين حاولوا اقتحام الـ-م


.. كلمة عضو المكتب السياسي للحركة أحمد الديين خلال الوقفة التضا




.. عنف الشرطة الأميركية ضد المتظاهرين المتضامنين مع #غزة


.. ما الذي تحقق لحركة حماس والفصائل الفلسطينية من القبول على مق




.. VODCAST الميادين | علي حجازي - الأمين العام لحزب البعث العرب