الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشاهدات من بلاد النكت .. والزحمة .. والشطارة - الجزء الرابع

فارس حميد أمانة

2013 / 8 / 25
كتابات ساخرة


ما أجمل القاهرة .. وما أحلاها .. وأحلى ما فيها ناسها .. ببساطتهم وظرفهم وشطارتهم .. لكن حذار أن يغلبك أحدهم بفهلوته فالغلبة عندهم يدعونها بالفهلوة وتعني الشطارة .. حدثتكم في الأجزاء الثلاثة السابقة عن مواقف طريفة مرت بي عندما زرتها وأنا لا أزال طالبا جامعيا في السنة النهائية من دراستي عام 1977 .. سأحدثكم في هذا الجزء عن جوانب آخرى من حياة المصريين ..
كانت الأفلام العربية بغالبيتها ان لم تكن جميعها مصرية .. ولابد وان نكون قد تعلمنا قليلا او كثيرا من أسرار تلك اللهجة الخفيفة .. وقد ساعدني حينها عندما كنت آواخر الستينيات والسبعينيات قيما على مكتبة والدي رحمه الله الثرية بامهات الكتب ومن بينها بالطبع القصص والروايات المصرية وكنت معجبا جدا بالكاتب المصري احسان عبد القدوس .. كتب احسان أروع القصص والروايات التي غاص فيها بتفاصيل دقيقة جدا وزوايا معتمة من حياة المصريين غائصا في خبايا النفوس ونوازعها الانسانية الخيرة منها والشريرة .. كما غاص في الرغبات الدنيئة والأحلام الرقيقة لمختلف شرائح المجتمع المصري .. الثري الفاحش الثراء والفقير المعدم والموظف البسيط والخضري وبائع الزبادي وطالب الجامعة والتلميذة المراهقة واللص والقهوجي وفتوة الحارة والباشا والعمدة والفلاح الساذج الذي لا يفرق بتفكيره عن بهيمته والسياسي المعارض والعاهرة والقوادين والتلاميذ الصغار .... ولا أتذكر شريحة تركها دون المرور بها .. كان هذا الكاتب يكتب حواره باللهجة المصرية وأعتقد ان هذا ما كرس الواقعية والمصداقية في قصصه ورواياته .. ولابد ان هذا كان السبب الثاني لي ليجعلني أتعرف على الحارات الشعبية للقاهرة وأسواقها وناسها حتى قبل ان تطأ قدماي أرض مطار القاهرة ..لقد كنت أعرف الدقي وبين القصرين والسيدة زينب والحسين وخان الخليلي والمعادي وميدان طلعت حرب ومقهى جروبي والموسكي ورمسيس ونادي الجزيرة والمهندسين وغيرها وقبل أن أراها ..
وكنت أعرف ان غالبية المصريين يعيشون حياة فاقة أو كفاف والقلة منهم يعيش حياة ثراء فاحش .. ولكل حياة منهما نكهة خاصة ولا بد لي حينها من تجربة الحياتين .. فكنت في النهار أخرج من شقتي الواقعة في شارع سليمان جوهر بالدقي لأخترق سوق الخضار داخلا في عمق الحارات الشعبية باحثا عن عربات بائعي الفول المدمس مفتتحا به افطاري كأي مصري .. ثم أجلس على عتبة مقهى صغير أرتشف شاي الحلبة أو السحلب .. مستمعا للأحاديث التي كانت تجري أمامي ومستمتعا بخناقة صغيرة تحدث بين صبي المقهى وأحد الزبائن الذي لم يدفع ثمن شايه .. أو بصوت صاحب المقهى وهو ينادي صبيه بلحن جميل وصوت رخيم : " وعندك واحد شاي للبيه وصلحو " ..
عند الظهيرة كنت أتسرب الى مكان آخر باحثا عن الفول والطعمية حارقا لساني بالشطة اللاهبة مع قليل من المخلل أو باحثا عن طبق الكشري مع صحن ملوخية بالأنارب .. أو سندويشات الفشة التي أتناولها ماشيا .. ولم أركب سيارة أجرة في النهار قط .. كنت أنتظر الأتوبيس الذي لا يتوقف عند مكان الانتظارغالبا بل يبطيء وعلى من يريد النزول ان يستعد في الزحام الخانق داخل الأوتوبيس ويقف قرب الباب قبل الوصول ثم وعند الابطاء يقفز منه الى الخارج وكانت هذه أفضل فرصي للهرولة وراء الأوتوبيس عند اسراعه مرة آخرى ثم قافزا فوق مجموعة من الأجساد الخارجة من الباب ومتمسكا بمقبض الباب مرة وبجلباب واحد بلدياتي مرة آخرى وأنا ألكز بكوعي هنا وهناك متدافعا مع الجميع هاتفا : " وسع يا بيه .. وسع عشان النبي " .. وكنت أنجح في كل مرة .. وأعترف ان تلك الحياة على صعوبتها كانت لذيذة جدا وذات نكهة خاصة لا تغيب أبدا عن خاطري ..
أما في الليل فتلك حياة آخرى ..
كنت أستقل سيارة أجرة كأي بيه ولا أتعشى الا في المطاعم الفاخرة كميرلاند في الجيزة أو الكازينوهات الفاخرة على النيل الخالد ككازينو قصر النيل .. أو في مطعم برج القاهرة التي تشبه قمته زهرة اللوتس رمز الفراعنة .. وكنت أعشق الحمام المشوي بالفريك والمكرونة باللحم المشوية بالفرن مع البشاميل .. وكنت أستمتع بمنظر النادل وهو يتقدم نحوي كل حين منحنيا وهو يقول لي بأدب جم ونبرة الواثق من كمال عمله لكنه يرغب بالمديح : " ان شا الله عجبتك الخدمة يا بيه " .. وأنا أهز رأسي مؤمنا على كلامه .. وعند المغادرة كنت أناديه بصوت واثق قوي : " الحساب يا متر " فكان يهرع لي قبل ان أكمل كلامي .. ولا بد من التفاتة أخيرة تكمل تلك الصورة البورجوازية بتقديمي أكثر من المطلوب وأنا أقول له : " خلي الباقي عشانك " .........
في مرة من المرات ذهبت للعشاء في حدائق ومطاعم القناطر الخيرية .. كان مكانا رائعا جدا حيث جلست على طاولة قرب النهر وأنا أستمتع بخرير شلالات القناطر .. طلبت حماما مشويا وكان الثمن حينها جنيه واحد وخمس وثمانون قرشا فقط .. كان هذا المبلغ الزهيد بالنسبة لي يمثل مبلغا كبيرا لمن يعيش حياة الفاقة اذ ان هذا المبلغ يكفي عائلة مصرية ليومين أو ثلاثة .. ولم أقل للنادل : " خلي الباقي عشانك " .. لا أعرف لماذا .. ولم يرجع لي النادل الباقي .. سيطرت علي فكرة استرجاع الباقي فناديته عندما مر من أمامي مرة ثانية وطالبته بالباقي ففغر فاه مدهوشا اذ ربما كانت المرة الأولى التي يطالبه فيها زبون بارجاع الباقي في مكان راق كهذا فرد متلعثما : " أيوه يا بيه .. دقيقة وحده وحرجعلك بالباقي " .. لكنه لم يفعل اذ اختفى من أمام عيني لكنني فضلت التعامل مع الموقف ببرود وطفقت أنتظر لحوالي عشر دقائق دون أن يظهر أمامي ..
لاحظت ان النادل قد تبادل موضع خدمته مع نادل آخر وأصبح بعيدا نوعا ما عن نظري لكنني تابعته بالنظر وحين التفت صوبي أشرت اليه ليأتي فأتى صاغرا .. وعند ذاك كررت المطالبة بما تبقى لي من نقود أو أنادي مديره وأطلب منه ارجاع النقود المتبقية فأجاب على الفور : " حالا يابيه .. حالا " ثم اختفى أيضا وانا أقضي الوقت بتصفح مجلة حتى مرت عشر دقائق آخرى ولم يرجع النادل العنيد .. كبر الاصرار عندي .. لن تغلبني ايها النادل الفهلوي .. قمت من مكاني لأجول بين المناضد دون ان أعثر عليه مطلقا .. لن تهرب مني حتى لو تطلب مني ذلك المبيت على العشب هذه الليلة ..
سألت عنه نادلا فأشار لي بانه في المطبخ .. دخلت المطبخ لأرى النادل العنيد مكبا على صحون يغسلها متشاغلا عن النظر الي فتقدمت حتى وقفت خلفه مباشرة وأنا أضع يدي على كتفه كمن يلقي القبض على هارب وقلت بهدء : " هات الباقي يا متر .. والا اندهلك المدير " .. أسقط بيده أمام برودي واصراري .. لم يحر جوابا على الاطلاق فمددت يدي الى جيبه مستخرجا حفنة من القروش ثم عددت خمسة عشر قرشا دسستها في جيبي وأرجعت الباقي الى جيبه .. حدث كل هذا وفمه لا يزال فاغرا والكلمات متوقفة عند شفتيه ..
ثم خرجت بهدوء ..











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - متابعة اخرى
أراس ( 2013 / 8 / 25 - 10:02 )
كنا في تلك السفرة اعتندنا على تناول طعام الغداء في مطعم ( لبنان ) الواقع في المنطقت التجارية الهامة في قلب القاهرو اذا كنا لا نستسيغ الاطعمة التقليدية المصرية لاحتوائها على مطيبات ومواد ذات رائحة ونكهة لم نتعود عليها وكنا فيمطعم لبنان تنناول (المقلوبة او الحمام مع الرز ) طبعا بعد ان نكون قد احتسينا كأسين من بيرة ) الستيلا اللذيذة المذاق في نفس المطعم وكان اغلب مرتاديه من السياح واتذكر جلساتنا في بعض الايام النهارية والمسائية في كازينو ( ابو الفدا ) بالزمالك اما الاهرام فكنت حريصا على مشاهدتها ومشاهدة تلك الاحجار الضخمة المكعبة التي تبلغ وزن كل واحدة منها طنين ، ولحد الان فأن العلماء والباحثين في حيرة من امر ايصال هذه الاحجار وتحريكها بدون معدات والالات الميكانيكية ..ولم نبقى هناك كثيرا اذ ازعجتنا الاتربة االت تثيرها الخيول هناك واشياء اخرى .. وفيما يخص ما ذكره الاخ الكاتب حول مطاردته للعامل ولم يعطه البخشيش فالذي عرفته هناك ان ( النادل ) الذي يعمل في الاماكن السياحية لا يحصل على أجور من صاحب العمل وانما يعتمد على ( البخشيش ) المقدم من المرتادين ونحن كنا لا نبخل عليهم في ذلك ..

اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-