الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خبرة تخريج الأزمات

رضا كارم
باحث

2013 / 8 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


تجتمع قوى الانقلاب على المسار الثوري في نفس البؤرة المحرقية.هي العقدة التاريخية للفعاليات الحزبية المرتهنة و المرتبطة و الفاشلة.إنهم يقيسون نجاح أي عمل ينجزونه بحجم الحشد الجماهيري.
لم تفهم الجبهة الشعبية أنها أرهقت جماهيرها بموعدها الكرنفالي السخيف ، في باردو. ملّ الناس إمضاء عطلة الصّيف بين صخب الخطابات الرجعيّة ، و صفاقة قطيع "شباب الجبهة "، و الشعارات الصارخة بأعلى أصواتها ، قبل العودة الى المنازل بحناجر ملتهبة و حرارة مرتفعة...
رواد باردو ليسوا المعنيين الحقيقيين او المباشرين بأزمة البطالة الحادة، و القطاع الصحي الفضيع بنظامه و قوانينه و موظفيه و إدارته،و غلاء الأسعار و شططها.
لماذا لا تدعم وزارة الثقافة حفلات كبرى لصالح القرى المهمشة في دواخل البلاد؟
ما الداعي لمواصلة هذه السياسات المركزية الرهيبة ، التي افلست تماما و تقود شعبا بأسره الى مشارف حرب أهلية مدمرة؟
لا بد من التعجيل بحلول فوريّة سهلة لا تتطلب أكثر من حكم جاد و مسؤول يملك إحساسا بهموم الناس و رغبة في توفير كل شروط الحلّ .أنا الآن أخاطبهم من داخل سياساتهم القائمة، أي أقترح عليهم حلولا ليبرالية تشبههم، إن كانوا ليبراليين حتى.
لقد كان بورقيبة أكثر ثورية من هؤلاء جميعا. حيث كان تشبعه بتلك القيم، يقوده لتوفير تعليم إجباري و مجاني و صحة مجانية و خدمة اجتماعية تضمن "المواد الأساسية" من خبز و زيت و شاي و سكر و صابون ...إنهم حتى لا يشبهون بورقيبة في عنفوانه الأوّل. كيف يواصل هؤلاء الملاعين الحكم و المستشفيت بلا دواء؟
إنهم يسلبون الناس حقوقهم في البقاء البيولوجي اصلا. إننا بالفعل إزاء التناقض المطلق و الشمل مع عصابة مافيوزية تمسك السلطة و لا تتحرك لإسعاف جريح ثورة و لا تهتم لأمر عائلة مات شرطي أو جندي كان عائلها الوحيد.
بالفعل نحن أمام عصابة مجرمة فاقدة لكل قيمة أخلاقية ، و ليس من وارد بحاساباتها غير التحصّن بنتائج انتخابات رخيصة قاطعها غالب المصوتين المفترضين.
3سنوات بعد هروب الدكتاتور الفاسد ، و الطاغية المجرم، و المسألة التربوية خارج دائرة الفحص و المراجعة و التثوير ،كلّيا. رغم النتائج المخجلة و أشكال التقييم المدرسي المتخلفة و أدوار الرقابة و التكوين البائسة و الإدارة البيروقراطية الجامدة.
مازالت مدرسة النجاح الكامل و الإخفاق النشاز تواصل سفسطتها و هروبها من واقع الفشل التكويني الكبير. و تواصلت الحلول الترقيعية التي تزيد الأزمة استفحالا، من قبيل نسبة 25بالمائة في الباكالوريا، أو تكوين مدارس و معاهد نموذجية تفترض اقتطاعات مالية من جيوب الأولياء، و تخالف مبدإ المجانية ، و تحمل البلاد إلى مزيد من الصراعات الطبقية الحدية.حيث أن أغلب المتفوقين مدرسيا ليسوا في الأعمّ من الفقراء، و هم في أغلب الحالات أبناء المرفهين اجتماعيا و بعض الموظفين من قطاع التربية.
و زاد على كل ما تقدم جامعة متخلفة تقنيا و سكولائيا و تربويا أي أخلاقيا.كل الأحاديث الجانبية تركز على علاقة الأستاذ فلان بعدد من طالباته.كم دفع لتلك و كم غازل الأخرى و كم امتطى الثالثة و كم سقط و ازداد سقوطا.
ليس معقدا كثيرا أن تنال شهادة جامعية، الرشى مقبولة. العلاقات الودية تيسّر ذلك . فتح الأفخاذ أسرع الطرق. و إلا فهو الفشل. يتحدث الطلبة عن أستاذ علم نفس بجامعة تونس 1،الذي أمضى سنوات رديئ من تجربته يسند أصفارا لطلبة مجتهدين ، و يبيع كتبه الرثة لأنها ستتضمن مادة الاختبار...
نعم، التنظيم التربوي سيئ، و لكن المربّين أسوأ. و هم إفراز طبيعي لمستوى تعليمي و تربوي بهذه الدرجة من النشاز. بدءا بالتعليم الابتدائي، و خاصة في التعليم العالي، حيث تتوضح الأزمة بفداحتها و فضاعتها.
قادتني تجربة إلى التعامل مع أحد هؤلاء، فأحسست حقا بحقد طبقي حدي و تمالكت نفسي حتى لا أتجاوز معقولية التواصل و أسمح بالحد الأدنى من مواصلة الحديث ضمن الشروط الأقل تهذيبا. إنهم متكبرون دون موجب تكبر .
لا ترى باحثا نشطا يحبّر المقالات مفيدا المجتمع ، لا ترى أكثر من نوادر تتحلق حول قهوة فاجرة و عيون مغروسة بمؤخرات فتيات صغيرات .

3سنوات و لم يجتهد أي منهم في فرض "شتلة" القمح المناسبة لتربتنا و شحّ مياهنا. سدودنا المزمع بناؤها تتقدم بطء، أو يتم تأجيل العمل بها.قروض الفلاحين القادمة لم تعالج، و فلاحتهم اليوم غير منتجة.
أهم من مناجم الفسفاط و مناجم الذهب، أراضينا غير مستغلة في مجملها.
لا مجهود الفلاح كفى، و لا مؤسسات الدولة خططت و وفرت فرص تحقيق محاصيل القمح و الشعير، التي ستوفر بكل تأكيد فائضا إنتاجيا غزيرا، فضلا عن تأمين الحاجات الحيوية للناس.
إننا نعيش أزمات متداخلة بشكل مفرط. من يحتاج السفر، كمن يطلب أكثر الأشياء تعقيدا و استحالة أحيانا.القطاع العامّ مأزوم حتى الثمالة، و القطاع الخاص فاسد و مبتزّ و غير منظم .
قرى بأسرها معزولة بالكامل في غياب القطار تحديدا. و في انعدام حافلات تؤمن سفرة مريحة من الحد الأدنى. ترنح شركة النقل العامة، الذي سيؤدي إلى إفلاسها قريبا، يعود الى مستوى خدماتها المخجلة و المسيئة للإنسان.
حافلة تكتض بالواقفين، قلة قليلة فقط ممن يقتطعون ثمن تذاكرهم، و انعدام كامل لشروط الإنسانية ضمن أتون حرب بذاءة و تدافع و تلاصق و تمايل و لصوصية.إنها واحدة من أكبر أزمات تونس المستعصية، أزمة بحجم بلاد بأسرها.
و لم تقدر أية حكومة فاسقة من حكومات التعاقب و الفساد و الهروب من المسؤولية على تنفيذ أي برنامج لإنهاء الأزمة . على الأقل يمكن الاعتماد بشكل مكثف على "التاكسي الجماعي" عوض تلك الحافلات المقززة و المقرفة و المعادية
للإنسان. ثمة أوقات ذروة يجب أن تؤمن خلالها كل المجهودات .ثمة إصلاح إداري يطال أوقات الخروج الى العمل .هل من الضروري أن نذهب جميعا الساعة السابعة و النصف الى مقرات أعمالنا؟
فضلا عن ذلك مازالت سيارات قديمة جدا تتجاوز صنعت في السبعينات و الثمانينات تتجول بشوارعنا و تخنق حركة المرور و خاصة تدمّر البيئة و تشدّد أزمة الطاقة . و من الضرورة القصوى بناء مواقف سيارات عديدة بكل مداخل المدن ، لإنهاء حالات الاختناق المروري، و بالتالي تأمين بيئة أنظف و توفير بعض الطاقة.
و يعتمد هذا على النقل العام السريع و الخفيف، دون حافلات مرعبة و منتهية الصلوحية. دون خشية إصبع ممتد من جسد الشهوة الملتهبة و الرغبة الجامحة في تحقيق توازن داخلي يؤمن انضباطا عامّا لدقيقة.
و لا يتوقف الفزع هنا. لا تنتهي ماساة التونسي بعد مغادرة تلك الحافلة. إنه يبدأ رحلته نحو فوضى البقاء ، بوصوله الى الإدارة المعنية للحصول على خدمة إدارية ما. يراقب الطوابير المزدحمة التصاقا آخر و ضجيجا ثانيا و انعدام احترام لمنطق الطوابير من المصطفين جميعا. يهاجمك أحدهم بفاتورة ، يقسم أنه مضطرّ إلى الإسراع ، لكأنّك أنت الواقف في الطابور لا شغل لك غير الانتظار
تلاحقه أعين غاضبة و ربما لكمة حاقدة و يتحول المكان الى حلبة عربدة و صعلكة.
الناس لا يضطرون الى تنظيم أنفسهم تلقائيا ، فقد يتفق كثيرون على النضباط لنظام ما، قبل أن يفسد كل شيء قلة من "المضطرين الى الإسراع". تنظيم الناس لأشكال تصريف ما يطلبون من خدمات، يحتاج جهدا تنظيميا من الإدارة. مثل توفير كراس لائقة ، و بطاقات تتضمن أرقام كل طالب خدمة. سيمنع هذا بكل تاكيد النزعات الهيمنية و يحفظ لياقة مقبولة . و تظل الإدارة مطالبة بتنفيذ سريع للخدمات المطلوبة منها، و إنهاء للبيرقوراطية و الجمود و انتظار إمضاء المدير المتغيب دائما.
إنها يوميات كل تونسي يسافر الى العاصمة أو بقية المدن، لنيل خدمة طبية أو تعليمية أو إدارية أو خدمة نقل.
مأساة يومية مكرورة ، تشكل أول دافع مباشر تجريبي و خبري لانعدام المسؤولية و الاهتمام و الشعور بالانتماء الى مشترك.
|إنه التاسيس لفردانية ما قبل الوعي. فردانية التيه و الفراغ و العدمية. ثم فردانية الارتشاء و الخسة و الوضاعة.
هناك يبنى الإنسان، و هناك تموت الإنسانية. إنها دولة الحداثة التي غزتها الرأسمالية فتحولت مقبرة للثقافة و ركاما للحضارة
و مجزرة للإنسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مقتل 5 أشخاص جراء ضربات روسية على عدة مناطق في أوكرانيا


.. هل يصبح السودان ساحة مواجهة غير مباشرة بين موسكو وواشنطن؟




.. تزايد عدد الجنح والجرائم الإلكترونية من خلال استنساخ الصوت •


.. من سيختار ترامب نائبا له إذا وصل إلى البيت الأبيض؟




.. متظاهرون يحتشدون بشوارع نيويورك بعد فض اعتصام جامعة كولومبيا