الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجسر

مصطفى لغتيري

2013 / 8 / 25
الادب والفن


الجسر
مزيج من الأصوات حاصرنا، و نحن في طريق العودة، فأثار ذلك بعض القلق في نفوسنا .. كل منا احتمى بذاته ، بحثا عن توازن وهمي ، قد يخفف من حالة القلق ، التي تملكتنا .. المساء يتسلل بخطى بطيئة .. خلسة يبسط يديه السمراوين على المكان من حولنا .. مجهدا كنت أسحب قدمي المتعبتين ،وفي أعماقي هواجس وليدة، أحاول كبحها . التفت نحو رفيقي ،فبدا لي أمرهما أسوء مما تصورته .. علامات الإجهاد بادية عليهما ، بيد أنهما كانا يكابران ، محاولين مداراة الخوف الطافح من ملامحهما.
خاطبني أحدهما قائلا:
- لا علامة تدلنا على الجسر.
لم أرغب في إذكاء جذوة القلق لديه ، لذا أجبت بمواربة:
- ربما نكون قد أضعنا الطريق الصحيح.
قلت ذلك ، و أنا أحاول إظهار بعض التماسك .. الحقيقة إن ما تفوهت به ألقى الروع في قلبي ، و كأنني لست قائله .. كنت أمام الحقيقة السافرة : إننا تهنا ، و الأنكى أننا على أبواب الليل ، و هذا يعني أننا قد نقضي ليلتنا في هذا المكان الموحش.
أردف رفيقي متسائلا:
- ما العمل؟
تجاهلت سؤاله . حثت السير نحو الأمام ، محاولا التركيز ، علني أتبين معلما، يدلني على الطريق . أصوات الطيور الملعلعة ضاعفت من التوتر في نفسي . قدماي تصدمان بالأوراق اليابسة . بصري أصابه بعض الغبش. بصعوبة أصبحت أميز الممرات المتداخلة. وحده طيف الجسر يدغدغ عواطفي . وصولنا إليه سيكون حتما نهاية كابوس مزعج ، فأن يقضي المرء ليلته في هذا الدغل ، متدثرا بالعراء أمر من الصعب تحمله . بعض اليأس طفق يتسرب إلى ذاتي ، كان لزاما علي أن أفكر في بدائل أخرى. حالتي لم تسعفني في ترتيب أفكاري. واصلنا التقدم. الظلام غدا حقيقة يصعب تجاهلها. كلما تكاثف امتص بعض الأمل الذي ظل يراودنا .. فجأة ارتفع صوت أحد رفاقي مستبشرا:
- هناك ضوء ما.
استولت علينا المفاجأة السارة . دون تباطؤ هرعنا نحو مصدر الضوء ، الذي يلوح من بعيد رغم كثافة الأشجار. حين أشرفنا عليه ، صدمنا وجود بناية ضخمة . كل شيء فيها غريب. أسوارها، شرفاتها ، هندستها، و كأنها كتدرائية من القرون الوسطى.. كبست الدهشة على أنفاسنا.. أبدا لم أتخيل وجود بناية مماثلة في هذا المكان.. ألا يتعلق الأمر بمجرد حلم؟ حين نظرت إلى وجهي مرافقي ، كانت الحيرة تأخذ بلبيهما.. بكثير من الفضول و الرهبة تطلعنا إلى البناية.. الإنارة داخلها خففت من وطأة الوجل في قلوبنا.. طفقنا نطوف حولها متوجسين نستطلع ما بداخلها . توقفنا عند البوابة.. لاشيء فيها يدعو إلى الريبة.. تبادلنا النظرات.. أدركت أن رفيقي يفكران في الدخول . دنوت أكثر .. اشرأببت بعنقي ، محاولا رؤية ما بداخل البناية . الصمت مطبقعلى الأجواء.. بعد تردد لمست الباب ، فإذا به ينفتح تلقائيا . انقبض قلبي.. بعد هنيهة دخلنا تباعا. التفت حولي لعلي أرى أحدا.. لا شيء.. دنونا من الباب الداخلي فانفتح هو الآخر من تلقاء نفسه، و إذا برجل يتطلع إلينا باسما. لباسه أسود . سحنته صهباء . يبدو غريبا في كل شيء : وجوده ، سمته ، ملابسه.. لاحظ ترددنا ، فدعانا بإشارة من يده .. كالمسحورين تقدمنا ، و كأن قوة خفية تجذبنا نحوه.. ابتسامته العريضة بددت الكثير من تحفظنا.. في الداخل بدا كل شيء مرتبا، و كأنه كان في انتظارنا.. زحفنا نحوه و نحن نسترق النظر إلى جنبات البيت الفسيح. لا شيء مألوف. لوحات و تحف لم تقع عيناي على مثلها من قبل . لم يستعجلنا الرجل. فسح لنا المجال للنظر إلى ممتلكاته و تحفه. ابتسامته لم تفارقه لحظة واحدة .. سيطرت على انبهاري محاولا طلب المساعدة من الرجل ، و كأنه يقرأ أفكاري ، بادرني قائلا:
- إنكم تائهون.. ضللتم طريقكم و أنتم في عمق الغابة . خففوا من روعكم .. لستم الأولين و لن تكونوا –طبعا -الآخرين.
نظرت إلى رفيقي . في أعماقي تردد إحساس مريب .. هل يتعلق الأمر بحلم ؟ أإلى هذا الحد يصبح الواقع يهذه الغرابة؟
انتزعني الرجل من تساؤلاتي بقوله:
- اطمئنوا . لدي أحصنة ستوصلكم إلى الجسر.
كدت أفقد صوابي ، و أنا أتلقف كلماته . خطا الرجل نحو باحة البناية ، و نحن خلفه ، لا نفقه شيئا مما يحدث أمام أعيننا . عرج بنا نحو اليمين ، فإذا بنا إزاء إسطبل . حاولت إخبار الرجل بأننا لا نحسن ركوب الخيل . مرة أخرى ، التفت نحوي ، و قال بلهجة الواثق:
- لا تخشى شيئا.. الأحصنة ستتكفل بالأمر . ما عليكم سوى امتاء صهواتها . إنها مدربة على فعل ذلك.
وددت استفساره عن سبب مساعدته لنا رغم أنه لا يعرفنا. حين التقت نظراتنا لمحت تضايقا في ملامحه. لم يشجعني ذلك على الكلام ، فلجمت السؤال في أعماقي.
ودعنا الرجل.. ركبنا الأحصنة، و ما هي إلا لحظات ، حتى أخذت الخيل تطوي بنا الأرض طيا. كاد خافقي يتوقف عن النبض.. لكن بمرور الوقت تملكني إحساس خادع بأنني فارس لا يشق له غبار.. لم يمض زمن طويل حتى أحسسنا أننا في الطريق الصحيح ، فرغم الظلمة من حولنا شعرنا بقربنا من الجسر . رائحة الرطوبة المنتشرة في الأجواء أشعرتني بذلك. و أنا على صهوة الحصان توقف ذهني عن التفكير . وحدها النشوة بمسابقة الريح هيمنت على وجداني ، حتى إن هذا الوجود المثير للبناية و للرجل و للأحصنة غاب عن ذهني.
بعد زمن قصير وصلنا الجسر. توقفت الأحصنة على بعد مسافة منه . دنا مني مرافقي . بادرني قائلا:
- و أخيرا .. هاهو الجسر.
بتوجس سألت مرافقي:
أليس من الأفضل التخلي عن هذه الأحصنة، و نتابع السير على أقدامنا؟
رد أحدهما:
- و لم لا نتابع على ظهورها ؟ الوقت ليل، و المرء لا يضمن الوصول إلى بيته سالما.و في الغد نردها إلى صاحبها.
لم أرغب في مواصلة الجدل . التزمت الصمت ، و في أعماقي ينوس إحساس بأن هناك شيئا ليس على ما يرام.
تقدمنا نحو الجسر .. و بينما نحن نعبره حدث ما لم يكن في الحسبان . بغتة ، و كأن الخيل رأت أشباحا مرعبة .. انتفضت فزعة . رمتنا من على صهواتها ,و سقطنا في مياه النهر ، ثم قفلت عائدة من حيث أتت.. تبللت ملابسنا . بيد أنه من حسن حظنا لم نصب بأي أذى.. تسللت ارتعاشة إلى جسدي .. حاولت جاهدا مقاومتها.. غادرنا المياه و ارتمينا على ضفة الوادي . ما يحدث أكثر من قدرة استيعابنا . لذنا جميعنا بالصمت. كل منا انشغل بنفسه ، محاولا ترتيب دواخله بالشكل الذي يجعله يفهم ما يقع ..
لحظلت فقط كانت كافية لانتشال أنفسنا من الوجوم الذي ران علينا.. لمحت صديقي على الجسر يتعثر بخطواته المرتبكة. بدا لي كشبح تائه .. لم أتباطأ في مكاني . استجمعت أنفاسي . انخرطت في المشي . حين بلغت منتصف الجسر ، التفت نحو الصديق الذي تخلف ورائي.. ناديته حاثا إياه على اللحاق بنا ، ثم استأنفت السير نحو وجهتي.
صباح اليوم التالي ، أبدا لم أستطع الانفلات من شبح البناية . وجودها الملغز أثار الشكوك في نفسي .
حين التقيت بصديقي ، عبرت لهما عن هواجسي . نصحاني بنسيان الأمر . بعد لحظات ودعتهما , وبشكل لاإرادي وجدت نفسي منجذبا نحو الغابة . في دواخلي توق لمعرفة سر البناية . توغلت في أعماق الغابة . و عبثا بحثت في كل مكان . حين أخذ اليأس يتسرب إلى نفسي ، انتبهت إلى أنني في مكان لا أتبين معالمه .. حينها بدأ القلق يساورني . طفقت مجددا أبحث عن طريق العودة ، قبل أن يفاجئني المساء بحلوله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟