الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نظرية رأس السمكة

السيد نصر الدين السيد

2013 / 8 / 25
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


"تفسد الأسماك من رؤوسها وتفسد المجتمعات من نخبها"

صراع لم يحسم بعد
ليس ما يحدث في مصر اليوم من مواجهات سياسية واجراءات امنية الا أحد اشكال الصراع الذي بدأ
في الديار المصرية منذ حوالي 150 سنة. انه الصراع بين "قوى التقليد" و"قوى التجديد" للفوز بعقل وقلب المجتمع المصري، او بعبارة أخرى على "ثقافته الحاكمة". وتتمثل "قوى التقليد" في "تيار الإسلام السياسي"، بكافة فصائله، الذي يعتبر أن الإسلام "دين ودولة" وان الحل هو في "تحقيق المناط"، أو إعادة تشكيل الواقع ليتوافق مع جاء في النص. اما "قوى التجديد" فتتمثل في "التيار العلماني"، بشتى طوائفه من يساريين وقوميين وليبراليين، الذي يؤمن بضرورة فصل الدين عن الدولة ويتبنى قيم الحداثة كأساس لصناعة التقدم. ولقد سعى كل فريق على احداث تغيير في مكونات ثقافة المجتمع المصري لتتفق مع رؤيته.

ويتضح للناظر الى ثقافة المجتمع المصري المعاصرة، كما تتمثل في منظومة القيم الحاكمة لسلوك اغلب افراده، الأثر المحدود والسطحي لـ "مثقفو التجديد". لذا لم غريبا ان يصفهم د. مراد وهبة، أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس، بأنهم "أكبر طبقة خائنة في المجتمع" موضحاً أنهم "لم يؤدوا مسؤولياتهم سواء تجاه تنوير المجتمع أو في الوقوف ضد الأصوليات الدينية" [1].

وهنا نتوقف ونتساءل عن أسباب اخفاق المثقفين العلمانيين، "مثقفو التجديد"، في احداث تغيير جذري في ثقافة المجتمع المصري. ومحاولة الإجابة على هذا السؤال هي فرض عين على كل مثقف يرغب في تفادى أخطاء الماضي. ويمكن ايجاز هذه الأسباب في اربعة مجموعات رئيسية هي: "شيوع التفكير اللاعقلاني"، "الانتقاء العشوائي والمنقوص للمستجدات الثقافية"، والانفصام بين مضمون الخطاب ومشاكل الواقع"، و"سيطرة الأساطير الثقافية".

شيوع التفكير اللاعقلاني
التفكير اللاعقلاني هو التفكير الذي يؤدي الى تصورات مشوهة للواقع واحداثه واستنتاجات غير صحيحة لا سند لها ولا توجد شواهد تؤيدها وتفتقد للمنطق الذي يربط النتائج بالأسباب. وبالطبع فإن الإخفاق هو المصير الحتمي لأي فعل يرتكز على هذه التصورات المشوهة والاستنتاجات غير الصحيحة. ويأخذ هذا التفكير اشكالا متعددة من أهمها "التفكير الثنائي (أو تفكير الأبيض والأسود)" Black and White Thinking، "الاستهانة" Minimization، "التعميم المبالغ فيه" Overgeneralizing. وأول أشكال التفكير اللاعقلاني هو "التفكير الثنائي (أو تفكير الأبيض والأسود)" Black and White Thinking الذي يتبنى في حكمه على الأمور منطق "إما ... أو"، فإما أنت معي على طول الخط أو أنت ضدي على طول الخط. وهكذا يحكم نظرة الذهنية، المحكومة بهذا النوع من التفكير، مفهوم "الحقيقة النهائية والمطلقة" أو "ثنائية الأبيض والأسود" التي لا تقبل الاعتراف بامتزاج الخطأ والصواب في أحكامها وتقديرها للأمور. والشكل الثاني هو "الاستهانة" الذي يتنصل صاحبه من مسؤولية افعاله وتبعاتها ويلقى باللوم على الآخرين. وهو الشكل الذي يدفع أصحابه الى تبنى "نظرية المؤامرة" لتفسير ما يحدث لهم. أما ثالث هذه الأشكال فهو "التعميم المبالغ فيه" الذي يجعل صاحبه يتصور ان ما يصلح، من سلوك او أفكار، في موقف ما يصلح في المواقف الأخرى دون أية مراعاة لاختلاف الظروف.

الانتقاء العشوائي
وثاني هذه الأسباب هو تركيز هؤلاء المثقفين، منذ بداياتهم الأولى، على المنتجات الثقافية الظاهرة للمجتمعات المتقدمة والتغاضي عن مرتكزاتها غير الظاهرة المتمثلة في منظومات القيم للمجتمعات التي أنتجتها. كما اتسم هذا التركيز بما أطلق عليه د. أحمد زايد لفظ "الانتقائية العشوائية" " التي تخضع –على مستوى الفكر-لاعتبارات الشهرة أو الترف الفكري أو الجري وراء الموضات الفكرية، وعلى مستويات السياسات لاعتبارات المصلحة والهوى، وعلى مستوى الحياة اليومية لاعتبارات التميز والمظهرية. لقد كان مبدأ "الانتقائية العشوائية" هذا هو المبدأ الحاكم لتحديث الثقافة التقليدية على مستويات عديدة بدءا من الاقتصاد ومرورا بالنظم السياسية، وحتى الممارسات الحياتية" (زايد 2005). والنتيجة الطبيعية لهذا الانتقاء العشوائي للمنتجات الثقافية المصحوب بالتغاضي عن مرتكزاتها القيمية والفكرية هي عجز هذه المنتجات عن لعب دورها المنشود في تطوير المجتمع المصري كما فعلت في تطوير مجتمعات النشأة. ويوفر لنا تاريخ المجتمع المصري الحديث أمثلة عديدة على هذه الظاهرة. ومن أبرز هذه الأمثلة تلك المنتجات الثقافية المتعلقة بـ "الديموقراطية" وبآليات تحقيقها. فعلى الرغم من مرور 147 سنة على إنشاء مجلس شورى النواب سنة 1866 وعلى الرغم من تعدد تجارب الحياة الحزبية التي مر بها المجتمع المصري منذ هذا التاريخ فإن فكرة الديموقراطية لاتزال غير مترسخة في ثقافة المجتمع المصري. وليس هذا بالأمر الغريب فتفعيل مفهوم الديموقراطية في أي مجتمع يستلزم وجود بنية تحتية من القيم. وعلى رأس هذه القيم قيم "احترام التعدد"، سواء كان تعددا في الفكر أو العرق أو الدين، و"الحرية"، بكل أبعادها الشخصية والسياسية والاقتصادية، و"المساواة"، بما تعنيه من حق الإنسان في أن يعامل على قدم المساواة بغض النظر عن عرقه أو جنسه أو دينه أو وضعه الاقتصادي. ونظرة متأملة لأوضاع المجتمع المصري، على وجه العموم، ولأحوال مثقفيه المسئولون عن ترسيخ وإشاعة هذه القيم، على وجه الخصوص، يكتشف مدى تآكل البنية التحتية القيمية اللازمة لتفعيل مفهوم الديموقراطية. فأول من يهدر من قيمة "احترام التعدد" هم مثقفو التجديد. فمن يخرج عن الاتجاه السائد، فكرة كان أو موقف، هو في عرفهم خائن أو عميل. وما واقعة فصل اتحاد الكتاب المصري لأحد أعضائه لخروجه عن الاتجاه السائد إلا مثال واحد من أمثلة يصعب حصرها.

لغة الخطاب
أما ثالث هذه الأسباب فيتعلق بخصائص الخطاب الذي استخدمه ولايزال يستخدمه مثقفو التجديد في عرض أفكارهم وبطبيعة الجمهور الموجه إليه هذا الخطاب. ونظرة عامة على خطاب مثقفو التجديد منذ نشأتهم وحتى يومنا هذا تشي بملامحه السائدة. فهو في أغلبه خطابا موجها للنخبة وبلغتها ولا يربط بين ما يعرضه من عناصر ثقافية جديدة وما يعانيه المجتمع المصري من مشاكل وما يواجهه من تحديات. لذا لم يكن غريبا أن تكون إجابة أحدهم على السؤال الموجه له عن خطاب النخبة الثقافية وهل تواجه مأزقا في خطابها الذي فقد اتصاله بهموم الشارع المصري على النحو التالي: "هناك بالفعل مشكلة في خطابها مما أحدث نوعا من الانفصال بين خطاب النخبة والجماهير، وعلى النخبة أن تسعى لتطوير وتحديث خطابها لتعاود اتصالها بالجماهير لكي تحدث ثورة اجتماعية" [2].

الأساطير الثقافية
وآخر هذه الأسباب، واخطرها في الوقت نفسه، فهو ما يسيطر على فكر أغلب مثقفو التجديد وما يروجون له من أساطير وأوهام ثقافية. والأسطورة الثقافية هي أي مجموعة من الفروض المتخيلة التي لا يوجد لها أساس في الواقع وعلى الرغم من ذلك تتقبلها مجموعة من البشر على علاتها باعتبارها حقائق وبدون إخضاعها للفحص الناقد عقليا كان أو علميا. ومن أبرز هذه الأساطير أساطير "الوسطية" و"الأصالة والمعاصرة" و"الغزو الثقافي" التي قللت من قدرة مثقفو التجديد، وعلى الأخص قطاع المفكرون منهم، على إنتاج الرؤى المبتكرة والأفكار الجريئة اللازمة لإحداث التغيير المنشود في منظومة الثقافة المصرية. فكلا من أسطورتي "الوسطية"، بنزعتها التوفيقية والتلفيقية، و"الأصالة والمعاصرة"، بالتباس مفاهيمها، تحدان من قدرة من يؤمن بهما على اتخاذ مواقف حاسمة وواضحة تجاه ما يطرح عليهم من قضايا وتحدان من قدرتهم على تطوير رؤى مكتملة تتسق عناصرها مع بعضها البعض وتسهم في إثراء وتطوير منظومة الثقافة المصرية. كما تؤدى قناعة البعض من مثقفي التجديد بأسطورة "الغزو الثقافي" إلى اتخاذهم موقف منغلق يتعامل مع المستجدات الثقافية برفض وعداء مسبقين.

[1] كلمة د. مراد وهبة في الندوة التي عقدت بمقر جريدة "المصري اليوم" شهر مايو .2008
[2] من حديث إدوارد خراط مع جريدة المصري اليوم في عددها 1498 الصادر في 20 يوليو 2008.

المراجع
زايد, أ. 2005. تناقضات الحداثة فى مصر. القاهرة: عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو يقدمان التعازي -للشعب الإيراني-


.. كيف ستنعكسُ جهودُ الجنائية الدولية على الحرب في غزة؟ وما تأث




.. حماس: قرار مدعي -الجنائية- مساواة بين الضحية والجلاد


.. 50 يوما طوارئ تنتظر إيران.. هل تتأثر علاقات إيران الخارجية ب




.. مقتل طبيب أمريكي في معتقلات الأسد