الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


“اعترافات كائن” والتمثيل الروائي للفاجعة

فلاح رحيم

2013 / 8 / 27
الادب والفن


ما الذي يضمن تحويل المصيبة أو الفاجعة إلى عمل روائي حي ومؤثر؟ يحوّلها إلى وثيقة أدبية تتفوق على ما هو معروف من وثائق التاريخ لأنها تلتقط جوهراً مختلفاً وتستقصي زوايا منسية عجيبة. ظلّ هذا السؤال يتردد في ذهني بعد أن انتهيت من قراءة رواية العراقي إبراهيم حسيب الغالبي “اعترافات كائن” (دار التكوين، 2009). تبدأ الرواية زمنياً في العام السابق للاحتلال الأمريكي عام 2003، ويشكل حدث الاحتلال عنصراً مهما من عناصرها. وهو يمثل مع موضوعة القمع الاستبدادي الأهوج في تلك الحقبة المهاد الذي تتحرك عليه أحداث الرواية وتتطور. وكلمة مهاد هنا لا تعني سياقاً عشوائياً بل حاضنة عضوية لكل تفصيل صغير في الرواية.
“اعترافات كائن” والتمثيل الروائي للفاجعة

يؤكد الغالبي حاسته القصصية المتميزة باختياره الموفق للشريحة التي يكثّف عبرها مصائب المرحلة. تبدأ الرواية بإطلاق سراح ثائر مجدول بعد ستة أشهر قضاها في مديرية الأمن العامة بتهمة المشاركة في إحراق أحد مقرات حزب البعث الحاكم ومقتل بعض الحزبيين، وبالرغم من ثبوت براءته من التهمة فإن شدة التعذيب الذي مورس ضده وبشاعته تُوّج ببتر ثلثي قضيبه. وهو ما يعني أن عودته إلى حياته السابقة كما كانت لم تعد أمراً ممكناً. وإذا كان لكل نص روائي عرقٌ نابض يدفع القارئ إلى مواصلة القراءة باهتمام وتشوّق فإن هذا العرق يتمثل في رواية الغالبي في موقف زوجة ثائر خمائل من حالته التي انتهى إليها. تستقبله بحماس ومحبة ويتحدثان عن صديق له يدعى هاشم ظلّ يدّعي القدرة على إطلاق سراحه لكنه بدلاً من ذلك يستغل غيابه ليتقرب من زوجته الفاتنة. حين تكتشف الزوجة العَوَق الدائم الذي أصاب زوجها تنسحب خائبة وتتواصل زيارات هاشم المشبوهة لهما حتى يرتب لثائر عملاً في الحراسة الليلية ليخلو له الجو في بيته.
لدينا إذن شريحة غزيرة بإمكاناتها السردية وشخصيات تقع تحت درجة قُصوى من التحدّي لوجودها وغرائزها. كيف عرض علينا الغالبي مادته القصصية هذه؟ هنالك حدث اكتشاف ثائر لخيانة زوجته عندما يعود من الحراسة لطارئ فيجدها في فراش الزوجية مع هاشم. يقسم هذا الحدث الرواية إلى نصفين كما أرى لأنه يُعدّ تحدياً صعباً لقدرة الغالبي على مواصلة التصعيد والتعمق في استقراء شخصياته. ما نجده في الرواية بعد هذا الحدث لا يرقى إلى مستوى وعودها الأولى. إذ يفقد الغالبي زمام السيطرة على حبكته الواعدة وتمضي الرواية على وتيرتها السابقة نفسها متجنبة الخوض في الحدث بينما نحن ننتظر ما ينوي ثائر أن يفعله. هنالك إشارات إلى أنه ينوي الثأر لنفسه من خمائل وهاشم فهو يجهّز غرفة في البيت لتكون بمثابة مكتب تحقيق أمني. رغبته في الانتقام هي السبب الأهم في رفضه فكرة الانتحار التي راودته بعد ذلك الاكتشاف. ويتواصل هذا التجهيز للغرفة منذ اكتشاف الخيانة في نيسان 2002 حتى آذار 2003. خلال هذه الفترة الطويلة (عام كامل تقريباً) تتواصل الخيانة دون أن يبدر منه أيّ رد فعل. يسأل خمائل عن تبرّجها فتقول له ” تبرجت أم لم أتبرج، ما الفائدة …؟! لقد فعلوها بك والسلام.” (ص. 98)
عندما يبدأ الهجوم الأمريكي على بغداد يأخذ زوجته إلى قريب له خارج بغداد ويعود إلى بيته وحيداً، لكنه يتعرف في الطريق على امرأة أخرى تدعى رجاء تقطعت بها السبل تقصد حبيبها في بغداد فيصحبها إلى بيته وتبقى معه أسبوعاً كاملاً. يكثّف وجودها إحساسه بعجزه، وحين يلجأ هاشم إليه بعد سقوط النظام يتفاهم معها فيبيتان معاً حتى يصل ملثمون لقتل هاشم ثم تختفي رجاء ويبقى ثائر مستعدا للثأر من زوجته. وهذا الثأر هو الموضوعة التي تسيطر على الفصول الأخيرة إذ يتحول ثائر إلى جلاد يكرّر ما فعل زبانية الأمن به بالأمس فيعلّقها على الحائط في مكتب الأمن الذي شيدّه ثم يقطع لحم فرجها حتى تموت. تنتهي الرواية بالاعتراف الذي وقّعت عليه خمائل بعد التعذيب وهو يحتوي تكراراً لحبكة الرواية منذ بدايتها وحتى النهاية دون كشف جديد. وهو يثير السؤال الدال أي اعتراف يشير إليه العنوان؟ يبدو أن الروائي يقصد به اعتراف الزوجة الذي مهد له طويلا، لكني لا أستطيع إلا النظر إلى الرواية برمتها بوصفها اعتراف الزوج الذي لا يقل غرابة عن اعترافها.
من الواضح أن الخامة التي ينطلق الغالبي للتعامل السردي معها غزيرة وحادة، لكن الناتج النهائي نص روائي لا يرقى إلى وعود هذه الخامة. ولابد من البحث عن السبب في هذا ذلك.
أول ما يعرقل القارئ لغة السرد المشغولة بنفسها أكثر من انشغالها بوظيفتها السردية. هنالك لدى الغالبي هاجس شعري يجعله يسعى إلى وضع ثقله السردي عندما تحين المواقف المحتدمة في روايته على التصعيد اللغوي الذي ينتمي إلى لحظة الاستعادة بدلاً من استقصاء التيارات الخفية التي تحرّك سلوك الشخصيات في لحظة الحدث. من الأمثلة على ذلك ما يكتب ثائر حين تلقي عليه خمائل تحية الصباح بعد ليلة اكتشاف أمر عوقه: ” أي لفظة تلك التي تصلح أن تكون رداً مناسباً لتحيتها؟ أي لغة تصمد لتحبك لها معنى مفهوماً أمام شهاب ثاقب يخترق الكون أو ومضة من ومضات أسراره… أنى لضجيجي أن يرتّب مقاطعه العصية… أن يرفع سلالمي إلى ربوة معقولة لجرأة مثولي في حضرتها؟” (ص. 33).
لا يمكن الاعتراض على هذه العبارات في قصيدة، لكنها تبدو ناشزة غريبة في سياقها، فثائر يواجه زوجته التي خاب أملها في وصاله ولابد أنه انشغل في تلك اللحظة الحساسة بتداعيات أكثر قرباً من الحالة من هذه التهمويمات اللغوية. هنالك فضلاً عن انشغال اللغة بنفسها عن أداء وظيفتها السردية ميلٌ إلى تكويم المفردات الأنيقة في تراكم لا يمت إلى الموقف بصلة. حين يطلق ثائر النار خطأ على شرطي في خفارته الليلية ويسيطر عليه الخوف من إعادته إلى مديرية الأمن يصف نفسه كما يلي: ” كنت كتلة واعية من الأفكار الجادة تعمّق أواصرها المتشابكة في بحبوحة من الصفاء والوضوح التام وإن خالطها شيء من تنمل يدب على هسيس ذاكرتي.” (ص. 82) أثناء الهجوم الأمريكي يكون مع الغريبة رجاء وحيداً ونقرأ ما يلي: “من خلال نظرة خاطفة كان ثمة بياض لصدرها ينقح بعض هوامش الوقت ويعيد محاولاً ضبط بوصلة ميتة.” (ص. 113)
العنصر الثاني في عدم ارتقاء الرواية إلى إتمام وعدها الكبير هو ضبابية الشخصيات ونمطيتها. وأول ما يتبادر إلى الذهن في هذا المضمار شخصية خمائل التي تقدّمها الرواية باختزال شديد بوصفها شيطاناً لا ينطوي على أية هواجس تمت إلى الإنسانية بصلة. لم يتمكن القارئ من الدخول في طوايا موقفها العسير وهي تواجه موقفاً كهذا. والواقع أن ثائر يمتلك مخيلة أخلاقية قاسية عندما يتعلق الأمر بمن حوله من الناس فهم إما ملائكة أو شياطين. هنالك الشيخ راضي وابو بلقيس اللذان شاركاه العذاب في المعتقل في جهة وخمائل وهاشم وحتى رجاء في الجهة المقابلة. ويبقى القارئ مرتبكاً وهو يتابع مشاهد تعذيب ثائر لزوجته خمائل في الفصول الأخيرة: أهي إحقاق الحق أم أفعال نفس شوّهها العذاب وجففتها رغبة الانتقام من كل حس إنساني؟ لم تشر الرواية بأسرها إلى حقيقة ماثلة أمام القارئ هي أن خمائل نفسها ضحية بدورها وإن كانت استجابتها لغرائزها الإنسانية قد اتخذت طابع الخيانة وحولتها إلى جلاد بحق ثائر. والواقع أن الراوي مقتنع أن الغريزة بحد ذاتها شيطانية لا تدفع إلى الرذيلة فحسب بل هي الرذيلة بعينها. يسمي ثائر عضوه المبتور “وريد الشيطان” الذي قطعوه من جسدي وجعلوا مني شيطاناً ناقصاً لا سرير له في ليل الأرض المليء بالأسرار اللزجة والحكايات المروية لأوثان حواء.” (ص. 80) مثل هذا الفهم سيعجز بالتأكيد عن تفهم معاناة خمائل وضعفها.
يبقى ثائر نفسه أعمق الشخصيات في الرواية ولكن القارئ يحتاج قبل أن يدرك عمق محنته ونفسه أن يتذكر دائماً أنه راو غير موثوق. العذاب مسخه إلى نفس ثائرة منتقمة، لكن التهويمات اللغوية التي استغرقت من الرواية صفحات طويلة أقامت حاجزاً بينه وبين القارئ. نبقى نفتقد عون الكاتب لمخيلتنا كي تتابع الطريقة التي تعايش بها مع عالمه الجديد ما بعد المعتقل. إن رهان الفن الروائي الأهم أنه قادر على أن يأخذنا إلى هناك، حيث الواقعة نفسها بتفاصيلها ونكهتها وواقعيتها (ولابد أن نتذكر أن الواقعية ليست خياراً متروكاً لمزاج الروائي بل هي ركن تعريفي لفن الرواية لا يستغني عنه بكل مدارسه ونزواته). يبقى الغالبي مطالباً أيضا بتبرير حصر نفسه في وجهة نظر ثائر بطريقة فوّتت على القارئ فرصة التعمق في معرفة المشهد بأسره، وهو مشهد حافل بكل ما يثير الفكر والمخيلة.
إن ما يدعوني إلى التوقف عند هذه الرواية وقفة خاصة أنها تقدم لنا موهبة قصصية أكيدة ننتظر منها الكثير. يكفي الغالبي دليلاً على قوة مخيلته الروائية أن تذهب به إلى هذه الساحة العجيبة من المشاعر المحتدمة الفاجعة. كما أن هذه الرواية التي تحتوي على بذور عمل روائي فريد من نوعه تعيد علينا من جديد تأمل أهم الأسئلة التي تواجه الرواية العراقية ما بعد الحرب والاحتلال: ما الذي يضمن تحويل المصيبة أو الفاجعة إلى عمل روائي حي ومؤثر؟.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا


.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية




.. -صباح العربية- يلتقي نجوم الفيلم السعودي -شباب البومب- في عر


.. فنان يرسم صورة مذيعة -صباح العربية- بالفراولة




.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان