الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
تلويحة لحِذاء الأنصار الشيوعيّين في مؤتمرهم
نصير عواد
2013 / 8 / 27مواضيع وابحاث سياسية
هل نستطيع اضاءت جزء من تجربة الأنصار الشيوعيّين بكردستان العراق عبر الحديث عن بغلٍ أو باكَردان أو حِذاء لـ(السمسون) من دون أن نربك سياق التجربة المليئة بالتفاصيل والمعاناة والشهداء؟. وهل إن أنسنة الحِذاء والبغل يخبئ علاقات داخلية تكشف عنها، أحيانا، القيمة الاستعمالية المتراكمة؟. وبالتالي هل شكّلت هذه المفردات حضورا ما كان لتجربة الأنصار البيشمه ركَه الاستمرار من دون التواصل معها اجتماعيا وثقافيا ونفسيا؟. الواصلون الجدد إلى جبال كردستان العراق، ملاذ تجربة الأنصار الشّيوعيين في الربع الأخير من القرن الماضي، يتذكّرون جيدا نظرات مَنْ سبقهم مِنَ الأنصار وهي تتفحّص أقدامهم وأحذيتهم، واحيانا سؤال أحدهم عن طبيعة الحذاء ومصدر صناعته. وهي دهشة سرعان ما تتبدد، بعد أن يعرف الواصلون الجدد دور الحِذاء في حياة الأنصار، والذي لا يقل أهمية عن السلاح.
المعروف عن حياة الأنصار في الجبال أنها تفتقر إلى النعومة ولا تحتمل كثرة وتنوّع الكماليات، بما فيها الأحْذية. وكان لكل مقاتل حِذاء صيفي واحد مصنوع من مواد متنوعة ومضغوطة كتلك المستخدمة للرياضة، وآخر شتوي مصنوع من البلاستيك القوي ويسمونه الـ"سمسون"، إذ لا يوجد حِذاء واحد لكل الفصول والأمكنة والتضاريس. الذاكرة الشفاهية للأنصار البيشمه ركَه ردْدت تسمية حِذاء "السمسون" على أنها ترْكيّة، وكانوا يوصون من يذهب إلى ترْكيا بشرائه، مع أن الأنصار المتواجدين على الحدود الإيرانية يشترون أحذيتهم من هناك. وحين يتحول حذاء "السمسون" إلى هم من هموم المقاتل وجزء من ذاكرته الأنصارية يتشكل له بمرور الأعوام حضور ودور وموقف. يحسبون حسابه في المسير والنوم والأعمال اليومية، وأحيانا يكون جزء من حواراتهم، ويوقدون بقطعة صغيرة منه نارهم في الشتاء. بل حتى في رسائلهم المليئة بالمودة والرفقة والمعاناة يأتي ذِكره منسجما مع نص الرسالة، يأتي كهدية أو توصية من رفيق لرفيقه.
حِذاء السمسون المصنوع من البلاستيك، الأسود اللون، يبدو كقطعة واحدة في أقدام الأنصار. غير مبطن من الداخل أو مكسو من الخارج بأي مادة. بلا أزرار أو أربطة أو خرز. هو حذاء سميك وقويّ النعل وبدون كعب، يتحمل الغطس في الماء والطين والثلج. أخذ قوته وشكله من قسوة الطبيعة المحيطة به. ولا نظن حذاء بهذه المواصفات له مصمم فرد أو مبدع تجرأت مخيلته على ذلك، وعلى الأغلب هو نتاج جماعي لأعوام وحاجات وتراكمات بطلها الطبيعة، الجبال والثلوج والأمطار والغابات، صار بمرور الأعوام جزء من عادات وتقاليد الشعب الكردي في العيش. أحيانا، وبسبب تشابه أحذية "السمسون" وغياب لمسات الجمال عنها، تبدو للناظر وكأنها كلها صنعت في قالب واحد، مع حفظ المقاسات. وكأن اللون الوحيد، الأسود، وخامة البلاستيك والشكل الرتيب لم يمروا بمراحل تطور. وأن الفصول والأعوام تمرّ عليه، بطيئة أو سريعة، وهو محافظ على شكله ومادته. لقد كنْا في ليال الشتاء الطويلة نتأمل بصمت حذاء "السمسون" ونرى فيه غرابة لا اناقة، والمشكلة أنه لم يكنْ بين الأنصار حذّاؤون يفكون لنا أسرار حكايته، فأغلب المقاتلين من السياسيين والمثقفين الشاطرين بالشكوى منه، وكان أشد ما يؤلم بعضهم هو لابد لهم أن يلبسوه.
كان الجميع، أنصار ونصيرات، قادة وقواعد ينتعلون نفس الحذاء. ليس من باب ردم الحواجز بين الأجناس والمواقع والرتب، ولكن من باب أنهم مجبرون على ذلك. حذاء "السمسون" ليس دليلا على المكانة الاجتماعية، يلبسه الثوريون والمهربون. فهو يحفظ أقدام الجميع ويمنحها الدفء والراحة، يأخذ رائحتها وسر مشيتها وثقل حمولتها. يزداد حضوره عندما تقسو الطبيعة، عندما لا يتوقف سقوط الثلج ولا تنتهي المسافات. بعض الأنصار، نكاية بحِذاء السمسون وعنادا للطبيعة، يلبسون حذاء صيفيّ في موسم الثلوج، سرعان ما يدفعون ثمنه من صحتهم، والكثير من الأنصار يتذكرون قطرات الدم في مسيرهم على جانبي طريق الثلج بسبب تشقق الحذاء من شدة البرد والتعب. وهناك عمليات جراحية بدائية أجريت لقطع أطراف بعض الأنصار بسبب الغنغرينا، بعد أن دُمْيت أقدامهم بسبب عدم مقاومة الحِذاء وتمزقه وعدم الانتباه إليه إلا بشكل متأخر.
إنّ الحاجة التي يوفرها حِذاء السمسون للمقاتل صنع له، للحذاء، قيمة استعمالية وهيبة أنصارية نلمسها في احاديث الأنصار القدامى عن أن "السمسون" يشعرهم دوما بالقوة والثقة والسير لمسافات طويلة. قدماء الأنصار غالبا ما يتحدثون عن فقدانهم حقيبة ظهر أو قطعة سلاح أو أنهم أضاعوا بغلا بين القرى ولكن لم يحدث لهم أن تحدثوا عن فقدان حذاء "السمسون"، بسبب الترابط الدائم بينهما. بمعنى أن العلاقة بين حذاء "السمسون" والثوري قديمة وقوية ومستمرة، حتى أن المقاتل لا يجد الوقت الكافي لخلعه وإراحة قدمه، وتجده يسير ويستريح وينام ويقاتل من دون أن يخلعه. في شتاءات كردستان القاسية عندما يستيقظ المقاتل النصير من النوم صباحا ستكون بندقيته قرب يده وعيناه تبحث عن حذاء السمسون. وهناك بعض الأنصار يضعون أحذيتهم تحت رؤوسهم، مخدة أنصارية، حتى لا تختلط بالأحذية الأخرى في الظلام، وتكون في متناول أيديهم في الظروف الطارئة. في النهار كل مقاتل يعرف حذائه ولا يتوه عنه، بل ويعرف حتى أحذية مَن معه مِن الأنصار، وفي حال أراد البحث عن أحد الأنصار لغرض ما ستذهب عيناه للبحث عند موقع الأحذية، وبنظرة خاطفة سيعرف إن كان صاحبه موجودا أم لا. حِذاء "السمسون" مع صاحبه يقاتل وينام ويستريح. أنه جزء منه، يشبهه، كلاهما يحمل دلالات المقاومة والقسوة. حتّى صار "السمسون" بحق رمزا للمفارز المتنقلة في شتاءات كردستان القاسية. ومن ينظر لأحذية الأنصار العائدين من المفارز سيلمس معنى البرد في شقوق البلاستيك المتيبس. وسيعرف، من الثقوب القليلة في شراويلهم وفي أحذية السمسون، عذابات التصاقهم بالنار.
إن العلاقة بين الحِذاء وبين النصير تقف ورائها الحاجة لا الحب، قد تتغير معها عادات وتظهر أخرى. نلمس ذلك في تبدّل زاوية الرؤية للحذاء، صارت معها الشتيمة العراقية المتداولة بين العامة "أبن القندرة" ليست ذي دلالة سلبية بسبب دور الحذاء وبسبب الحاجة الماسة إليه. ولم يعدْ الأنصار يعدّلون الحِذاء المقلوب عند الباب كما كانت تفعل أمهاتهم. بل حتى العادة التي درجنا عليها في شوارع ومقاهي مكاننا الأول بالنظر إلى أقدام النساء وتنشيط المخيلة، هذه العادة تخلينا عنها في الجبال وصارت كعوب النصيرات لا تغري بالنظر والتأمل بعد أن تسطحت أقدامهن وصرن يلبسن قياسات قريبة من أقدام الرجال ويسرّن مسافات ويعبرن روبارات كفيلة بإنتاج أسوء أنواع الروائح والبكتيريا. إنّ الحضور البطولي والضروري لحذاء "السمسون" لا يلغي حقيقة أنه ترك آثار جانبية مؤلمة، من بين ضحاياها النصيرات المقاتلات اللائي تورمت وتفلطحت اقدامهن وانتشرت بين أصابعهن البكتيريا، ووجدن أن ليس لهن في الجبال سوى الصمت والتعوّد. صحيح أن النصيرة ليست بحاجة ماسة إلى ألفات نظر الآخرين في عزلة الجبال، وليس لديها مناسبات وسهرات وأدوات تجميل أو حقيبة يد أو كنتور ملابس، ولكن للمرأة دوما خصوصيتها، وعلاقتها بالحذاء غير قابلة للتشكيك، وما زلنا نتذكّر بعض الرفيقات اللائي حملن معهن، في قدومهن الأوّل، احذية نصف كعب أو ملابس أنيقة لم يجرِ استخدامها وبقيت على حالها في صناديق السرايا الخلفية، جزء من حكايات التسكع في الأسواق والعواصم.
إنّ الاختلافات الجسدية والجمالية بين الذكر والأنثى تصدعت الكثير من اشاراتها في الجبال، بعد أن تساوت علاقة الأقدام بنوع يتيم من الأحْذية. ولو نظرنا إلى الصور الجماعية للأنصار الشيوعيّين، من الزنار وتحت، سوف لن نستطيع تمييز الرجل من الأنثى. فكلهم يلبسون حذاء واحد وشروال واحد وبشتين واحد أشبه بالبدائيين القدامى قبل أن تتطور الحياة وينفصل الرجل عن المرأة. عندما كنت أعود في ساعات الليل المتأخرة من مناوبة الحراسة لم أكنْ أميز، على ضوء الفانوس، بين أرجل وكعوب الرفاق النائمين مَنْ للنصير ومَنْ للنصيرة. وفي نهار اليوم الثاني، عندما أستعيد منظر الكعوب، كنت أرى حِذاء "السمسون" في قدم النصيرة هو أكثر قبحا منه في قدم النصير. يومها لم أعرف لماذا !؟.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. عاجل | المبعوث الأممي إلى سوريا: ليس لدي أي معلومات عن بشار
.. سقوط نظام الأسد.. ما الضمانات التي قدمتها تركيا لروسيا وإيرا
.. ساحة الأمويين تحتضن الاحتفالات في وسط العاصمة دمشق
.. هل ستكون فترة بقاء رئيس الوزراء مكلفا بإدارة المؤسسات العامة
.. كاميرا الجزيرة تدخل منزل بشار الأسد في دمشق