الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عذاب آل كشموش .. شخصية لن تتكرر

فارس حميد أمانة

2013 / 8 / 27
كتابات ساخرة


لا تزال ذكريات الجلسات الصيفية التي كان والدي رحمه الله يعقدها لأصدقاءه وضيوفه الآتين من العاصمة بغداد في حديقة بيتنا الكبيرة في ناحية المشخاب منذ نهاية الستينيات وحتى نهاية العقدين التاليين حاضرة في وجداني ونحن نرفع صحاف ما لذ وطاب من الطعام لندور بالشاي الأسود اللذيذ على الجميع .. وقد كان والدي يحرص أشد الحرص عند قدوم ضيوفه الآتين من مكان بعيد وخاصة العاصمة بغداد على دعوة واستضافة شخصية طريفة جدا .. عذاب آل كشموش بقامته الفارعة الرشيقة وجلده الأسود .. وعينيه المفتوحتين .. وأنفه الأفريقي الضخم .. وصوته الجهوري ..
كان هذا الرجل نجم الجلسات ومحدثها الأوحد .. كان يجعل الجميع يقهقهون بل وينقلبون على أقفيتهم من شدة الضحك الذي تسببه نكاته ومقالبه وأحاديثه وليس هذا فقط .. بل تلك الطريقة التي يتحدث بها اذ كان يتقمص الموقف تماما فتتحدث شفتاه وعيناه وأذناه وكل عضلة من وجهه .. وقد كان عذاب آل كشموش اضافة الى تلك الموهبة ذا ذاكرة قوية جدا وهو يحدث الجميع عن مواقف موغلة في القدم .. وكان سريع البديهة في رده رغم حراجة الموقف الذي يكون مارا به .. أحبه الجميع .. كان ذلك شيئا مؤكدا .. ورغم انه يتحدث أحياناعن مواقف مضحكة مرت ببعض الجالسين الذين كانوا ينقلبون ضحكا من هذه المواقف الا ان لا أحد كان يغضب منه مطلقا ..
لقد ظل حتى الدقائق الأخيرة من حياته يلقي بنكاته المضحكة .
مرة وقبل أكثر من ستين عاما كان عذاب آل كشموش في سيارة مخدومه الشيخ راجعين من بغداد ومعهما شيخ أخر .. كان الشيخان يجلسان في المقدمة وهو في المقعد الخلفي يستمع ساكتا لنقاشهما الحاد .. كان النقاش في كون من تسبق ؟ أهي المهرة " المأصلة " أي المهرة المولودة من ذكر وأنثى دمهما أصيل لم يختلط بدم الحيوانات العادية المستخدمة لجر العربات ؟ أم " السبوق " وهي المهرة القوية المتمرسة من الحيوانات العادية والتي لا يجري في عروقها دم أصيل ؟
كان أحد الشيخين يقول بالتأصيل والآخر يقول بالتمرس .. احتدم النقاش وكان يبدوا انه لن ينتهي فقد تعصب كل شيخ لرأيه وبدا انه لن يلين ولن يحيد .. عندئذ التفت الشيخ الذي كان عذاب آل كشموش بخدمته سائلا عذاب ما الجواب .. فاستسمح عذاب شيخه من الاجابة متعللا بعدم معرفته .. كان هذا جوابا لم يخل من ذكاء اذ ان أية اجابة مهما كانت ستغضب قريب ولي نعمته .. أو ولي نعمته وتلك أدهى ..
أوقف الشيخ سيارته على جانب الطريق وأرغم عذاب آل كشموش على أن يجيب .. فطلب منه الأمان قبل الاجابة .. فأمنه شيخه على ذلك .. فسأله عذاب : " ما اسمك يا شيخي ؟ " فزعق به الشيخ : " ويحك الا تعرف اسمي ؟ " فذكره عذاب آل كشموش بالأمان .. فأذعن الشيخ لوعده وأجاب عن اسمه .. ثم سأله عذاب عن اسم ابيه فأجابه الشيخ ثم سأله عن اسم جده فأجابه وهكذا وحتى وصل الى جده التاسع فغضب الشيخ : " ويحك من غضبي .. كفى "
ثم قال عذاب آل كشموش لشيخه : " والآن يا شيخي اسألني عن اسمي " فسأله الشيخ فأجاب : " اسمي عذاب " ثم قال عذاب والآن يا شيخي اسألني عن اسم أبي ففعل الشيخ فأجابه " اسم أبي كشموش " ثم قال له : " والآن يا شيخي اسألني عن اسم جدي " ففعل الشيخ فأجابه عذاب آل كشموش : " لا أعرف اسم جدي " .. ثم أردف والآن لينزع كل منا مركوبه " ويعني حذاءه " ولنتسابق ولنرى من سيكون في المقدمة .. الشيخ " المأصل " أم الخادم " المتمرس " ؟ .
اسقط بيد الشيخين .. كان الجواب لاذعا .. ذكيا .. مبهرا ..
في احدى الجلسات في حديقة بيتنا حضر شخص من أصدقاء والدي وهو شاعر لقبه فلان الصغير اذ لا أتذكر اسمه الأول .. طلب منه البعض القاء بعض القصائد ففعل .. ثم استأذن عذاب آل كشموش لالقاء قصيدة للترحيب بالشاعر الضيف .. لم يعرف أحد ان لعذاب موهبة الشعر وحتى تلك اللحظة .. كانت مفاجأة حقا .. لا أتذكر بالطبع القصيدة التي ارتجلها ارتجالا الا انها كانت كلمات مبعثرة لا يربط بينها الا الوزن الذي ضبطه باحترافية أدهشت الجميع .. اتذكر انه بدأها بداية مدهشة وأعتقد انها من بحر القصير :
"سفينة الحب سيري
حبا لهذا " الصغير"
ثم استرسل كما قلت بالكلمات والعبارات المضحكة لكن الموزونة فاستلقى الجميع على بطونهم غارقين في الضحك ثم ختمها ببيت يصف الضيف فيه كما يلي :
" حديقة.. تفاحها برتقال
سفرجل في بعير "
عندما كان عذاب آل كشموش مع شيخه يخدمه وهو حاضر في مجلس الأعيان ببغداد " البرلمان كما يسمى اليوم " وكان الشيخ يتحدث الى كبار شخصيات المجتمع في العهد الملكي من سياسيين وبرلمانيين وهو يحمل بيده ديوان المتنبي شاعر العرب الكبير .. فأشار بيده لخادمه عذاب لحمل الديوان وهو لا يزال يكمل حديثه للآخرين .. لم يكن عذاب منتبها لأمر الشيخ فقد كان مبهورا بالبناء والمجتمع المخملي الذي ولجه توا .. فلم ينفذ أمر سيده بالطبع .. أشار الشيخ مرة أخرى بطرف عينه لعذاب بحمل ديوان الشعر .. الا ان عذاب كان ساهيا عن أمر سيده .. كان كبيرا جدا عند الشيخ ان لا ينتبه الخادم لأمر سيده فلكزه بعصاه زاعقا فيه " ويلك يا عذاب .. لماذا لا تحمل عني ديوان الشعر ؟ " عند ذلك فقط انتبه عذاب الى فعلته التي تسببت بغضب شيخه عليه .. فأجاب بهدوء وبثقة وبصوت ثابت : " لا ألاريد فعل ذلك .. لن أحمل ديوان المتنبي ".
انتبه الجميع للحوار بين الشيخ وخادمه بتعجب شديد .. غضب الشيخ أكثر هذه المرة وفغر فاه ثم زعق بشدة وهو يلكزه للمرة الثانية بعصاه : لماذا ايها الأحمق ؟ هل انت أفضل من المتنبي ؟ " .. فأجابه عذاب : " كيف أحمل ديوان ذلك الرجل وهو القائل :
" لا تشتري العبد الا والعصا معه
ان العبيد لأنجاس مناكيد "
بهت الجميع .. وحتى الشيخ .. كانت اجابة في غاية الذكاء تخلص بها عذاب آل كشموش من سهوه عن أمر سيده واتقى بها غضبه .. كما خلص شيخه من حراجة كون خادمه غير منتبه للأوامر .. كان ذلك حقا من أفضل ما سمعته شخصيا من طرائف هذا الرجل .
كان والد عذاب يعشق بشدة خلط الزيت الحيواني بالدبس " وهو عصير التمر " ثم أكله مع الخبزاللذيذ الخارج توا من التنور .. كان يعطي عذاب القليل القليل لكنه لم يكن يكتفي بذلك فقد كان مشاركا أباه شغفه بهذه الخلطة الشتائية .. وقد كان والده يخفي " كنزه " الثمين في مكان لا يخطر على بال أحد .. اذ كان يخبأه في زريبة الأبقار .. أضمر عذاب لوالده خطة جهنمية اذ تسلل بعد منتصف الليل الى الزريبة لسرقة السمن والدبس ووالده خارج البيت .. فزعت البقرة عند دخوله وهاجت رافسة جرتي السمن والدبس فساح الاثنان على الأرض فانزلق عذاب آل كشموش ساقطا على الأرض محدثا جلبة كبيرة .. هرع والده الذي كان عائدا توا من جلسة مع أصدقاءه حاملا فانوسه وراكضا الى الزريبة زاعقا : " أما أن يكون هذا لصا يسرق السمن والدبس .. أو أن يكون زانيا يعتدي على أم عذاب " .. لقد اختصر أثمن مالديه في الكون بهذين الشيئين .. زوجته والجرتان ..
في نقاش حاد له مع ابيه الذي امتعض منه قائلا له ان الابن ليس أفضل من الأب .. أجابه عذاب : " بل أنا أفضل منك " فدهش الأب بشدة لوقاحة ابنه فطالبه بالدليل .. فقال عذاب آل كشموش : " لقد ذكرني الله في القرآن عشرات المرات .. مرة عذاب النار ومرة عذاب السعير .. لكنك لو قرأت القرآن من الغلاف الى الغلاف فلن تجد فيه كشمشة واحدة " .. والكشموش أو الكشمش باللهجة العراقية الدارجة هو الزبيب الأصفر الطري .. يا للذكاء وسرعة البديهة ..
عندما توفي والده طالبته زوجته وبناته وأولاده بشراء ملابس الحداد السوداء كما هو العرف السائد .. والعائلة كما أسلفت ببشرة سوداء لكونهم من أصول أفريقية .. فأجابهم " يكفي لكم أن تتعروا ليعرف الجميع انكم في حداد " .
لم يتميز أحد مثله ولم يتفوق عليه في الطرائف والردود وظل هكذا حتى الدقائق الأخيرة لوفاته ..
كان رحمه الله يحتضر في الساعات الأخيرة من حياته فيقفد الوعي حينا ثم ينتبه حينا أخرى .. وفي آخر انتباهة له وهو على فراشه فتح عينيه ليجد زوجته وعياله يبكون عند رأسه وهم يسدون مدخل الغرفة فصاح بهم : " كيف سيدخل عزرائيل ليقبض روحي وأنتم تسدون الطريق ؟ ".
كانت تلك آخر كلماته قبل أن يقضي ..
رحمك الله يا عذاب آل كشموش ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-