الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مواطَنة فخمة

صبحي حديدي

2005 / 5 / 17
حقوق الانسان


فكرة ممتازة أن يصدر في سورية كتاب بعنوان «دليل المواطنة»، يتناول بالشرح «المفاهيم الأساسية للمواطنة كما ينبغي أن يعرفها أيّ شخص يطمح للوصول إلى لعب دور مدني فعال كمواطن أو مواطنة في عالمنا اليوم»، و«يضع في حسبانه كونه موجهاً إلى أوسع جمهور ممكن عامة من الناس»، كما جاء في استهلال الكتاب. والعمل يقوم على نصوص كتبها الدكتور حسان عباس، وأعمال فنية تستند إلى منحوتات طينية للدكتور أحمد معلا.
غير أنّ المشروع ينتهي للأسف عند جمال الفكرة، أو يكاد!
الكتاب، بادىء ذي بدء، فخم... فخم للغاية، أو أفخم بكثير ممّا ينبغي لمطبوع يسعى إلى أن يكون دليلاً للمواطنة: قياس كبير غير مألوف (17.5 x 32,5)، يصلح دليلاً لمعرض ضخم يحتوي على النفائس (ولعله كان بالفعل دليل معرض بعنوان «طين ـ وطن» استضافه معهد غوته الألماني في دمشق أواخر العام الماضي، احتوى أعمال معلا ونصوص عباس ذاتها)؛ غلاف مقوّى، مجلّد، ملوّن؛ ورق صقيل، أبيض أو مصبوغ، سميك جداً؛ وأكثر من 45 لوحة داخلية، ملوّنة أو مصبوغة بدورها، في كتاب من 103 صفحات!
لا أحد يكره الفخامة، غنيّ عن القول، إلا إذا انقلبت ضدّ الغرض منها، والإنقلاب في مثال هذا الكتاب كان مزدوجاً. الأوّل لأنّ الفخامة المفرطة تتناقض تماماً مع الغرض المعلَن في تصدير الكتاب (أي التوجّه إلى «أوسع جمهور ممكن عامة من الناس»)، إذْ في وسع المرء أن يجزم أنّ القادرين على شراء الكتاب (وهو، بالمناسبة، لا يحمل أيّ سعر!) ليسوا نخبة النخبة فحسب، بل هم قلّة القلّة القليلة. هذه مسألة حاسمة لا ريب، لأنها في نهاية الأمر تجعل الدليل «مثل قلّته» كما يقول المَثَل الشعبي، أو تجعله حبيس واجهات العرض الزجاجية الباردة المعتمة.
الإنقلاب الثاني أنّ الفخامة هذه لا تأتي من حملة تبرّعات نظمتها أحزاب أو منظمات أو هيئات سورية مدنية ساعية إلى توعية «أوسع جمهور ممكن» حول مفاهيم المواطنة، لأنها في الواقع فخامة لا يمكن أن تموّلها سوى جهة خارجية سخيّة. وهنا أسارع إلى القول إنني لا أعني رفض أيّ وكلّ تمويل أجنبي لأيّ وكلّ مشروع اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي، ولعلّ موقفي شبيه بموقف السواد الأعظم من البشر: لكلّ تمويل مقال، والأمر رهن بجهة التمويل أوّلاً، والشروط المقترنة به ثانياً، وأهدافه ثالثاً، وطرائق تنفيذه رابعاً... وسوى هذا وذاك من الاعتبارات.
كتاب «دليل المواطنة» تمويل مشترك بين بعثة المفوضية الأوروبية في سورية ومؤسسة فريدريش ناومان الألمانية، في إطار ما يُعرف باسم «المبادرة الأوروبية للديمقراطية وحقوق الإنسان» التي أطلقها البرلمان الأوروبي سنة 1994. وقد لا يثير هذا كبير اعتراض، رغم ما قد يحمله المرء من تحفظات جوهرية على البرلمان (الذي تعامى مؤخراً عن كلّ شخصيات المعارضة السورية في الداخل واختار توجيه الدعوة إلى فريد الغادري!)؛ أو على مؤسسة فريدريش ناومان، الليبرالية أكثر ربما ممّا يحتاج بلد يعيش تحت الإستبداد وحكم المافيات العائلية، والتي تعمل في أكثر من 80 بلداً بهدف «تبديل وعي الناس، وتغيير أنماط سلوكهم».
مشكلة التمويل تبدأ من أنه لا ينتهي عند الشكل فقط، بل عند انقلاب الشكل إلى عائق جدّي أمام القراءة من جهة (بسبب فخامة الكتاب وتعذّر اقتنائه)، ويسفر من جهة ثانية عن قسر المحتوى أو تسييره في قنوات تجعل الأفكار مجرّدة، مفهومية، محضة، بريئة، وسابحة في سديم مطلق. ذلك لأنّ الكتاب يحيل إلى نصّين متناقضين متباعدين في المضمون والشكل والتاريخ والجغرافيا والثقافة: إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر في 26 آب (أغسطس) 1789 في فرنسا، و... الدستور السوري الذي وضعه حافظ الأسد سنة 1973!
والأمر يبلغ حدّ المقارنة الصاعقة التالية، مثلاً: «يمكن تعريف الحريات والحقوق الأساسية بأنها تلك الواردة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789 وتنص عليها غالبية الدساتير ومنها الدستور السوري في الفصل الرابع المعنون الحريات والحقوق والواجبات العامة»! أو خذوا هذه البراءة الخالصة: «بعض الانتخابات تستوجب شرطاً عمرياً محدداً في من يودّ أن يشارك فيها، كانتخابات الرئاسة. فالمادة 38 من الدستور السوري، المعدلة يوم 10 حزيران عام 2000 تشترط على من يرشح نفسه إلى منصب رئيس الجمهورية أن يكون قد تجاوز السادسة والثلاثين. أما في فرنسا فيكفي أن يتجاوز الثالثة والعشرين»!
كيف اقتنع الدكتور حسان عباس أنه يستطع زجّ الثورة الفرنسية في ساحة مقارنة إحالية ـ دلالية واحدة مع «الحركة التصحيحية»؟ التفسير بسيط، وهو أنّ الجهة المموّلة تضع المحاذير الدبلوماسية في صدر اعتباراتها حين تعمل من داخل البلد، ولهذا لا نقرأ في الدليل سوى كلام عامّ غائم أشبه بالتأتأة حول حقوق المواطن والحريات الأساسية في سورية ذاتها. وفي سياقات إشكالية التمويل هذه، لست أدري إذا كان الحياء ــ حياء المموّل أو حياء المؤلف ــ هو الذي أسقط معلومة حاسمة جاءت في النصّ الإنكليزي للاستهلال، وغابت تماماً عن الترجمة العربية: «هذه الأنشطة تموّلها بشكل مشترك المفوضية الأوروبية بإسهام يبلغ 500,000 يورو، وهي تندرج في إطار المبادرة الأوروبية للديمقراطية وحقوق الإنسان».
مبلغ سخيّ، للإنصاف، فلِمَ الحياء؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجزء الثاني - أخبار الصباح | الأمم المتحدة تعلق مساعداتها إ


.. أطفال فلسطينيون يطلقون صرخات جوع في ظل اشتداد المجاعة شمال ق




.. الأمم المتحدة: نحو نصف مليون من أهالي قطاع غزة يواجهون جوعا


.. شبح المجاعة.. نصف مليون شخص يعانون الجوع الكارثي | #غرفة_الأ




.. الجنائية الدولية.. مذكرتا اعتقال بحق مسؤولَين روسيين | #غرفة