الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الذاكرة

برهان المفتي

2013 / 8 / 28
الادب والفن


بعد أن أخذ الطبيب أشعة مقطعية لرأسي، أخبرني أن خلايا الذاكرة تلتهم الأجزاء الأخرى من الدماغ، وأنني في فترة قريبة قادمة سأكون مجرد جسد يحمل ذاكرة، قال ذلك وهو يحمل في يده وحدة ذاكرة ألكترونية ثم رماها مع بعض أوراق على مكتبه في حاوية قرب رجليه قائلاً " فيروس لعين فتك بها وبكل محتوياتها" ثم قال " أعتقد أن دماغك ملتهب بفيروس خطير" !
وصلت لمكتبي وفي الطريق زادت شراسة ذاكرتي، تذكرت حتى ماذا سيحصل بعد أسبوع من الآن، الأمر مربك عليّ، هل أملك ذاكرة تسبقني أم أنها هذيانات مريض على عتبة تحول دماغه إلى أرشيف ذاكرة بفعل فيروس محتمل يأكل خلايا الدماغ ويحولها إلى خلايا ذاكرة راكدة ؟!
تذكرت أنني بعد أسبوع من الآن وقفت أمام مرآتي المزعجة في الحمام لأحلق وجهي ، لكني حين نظرت في المرآة قفزت ذاكرتي إلى أيام لم تكن فيها لحيتي قد نبتت، ولا أحتاج إلى أن أمرر شفرة حلاقة على وجه طفل ناعم. الأمر مشوش وفوضوي في رأسي، هل أنا هنا أم في القادم، أم أعيش أيامي الماضية مرة أخرى في تأكيد على الذاكرة !
على مكتبي أوراق مليئة بالخطوط والملاحظات، فجأة أراها أوراقأ بيض قبل أن اكتب عليها، آراني أدخل إلى مكتبي قبل سنتين، لا زلت أحتفظ ببعض خصل الشعر فيما آراني ، أجلس على الكرسي، أتذكر أنني سأقع بسبب أرتباكي في أول يوم دوام في المكتب، حينها لم يرني أحد ولكني آراني الآن وأرى كيف يقع هذا الموظف الجديد المرتبك في مكتبه وأضحك !
لا، هذه فوضى غير حقيقية، أنني أتخيل ما أرى، الأمور كلها تبدو غير حقيقية، أي مرض هذا جعل ذاكرتي تلتهمني وتلتهم الصور التي أراها. أتذكر أنني كنت في زيارة لطبيبي قبل يومين حين قال لي أن ذاكرتي تلتهم باقي أجزاء دماغي وأن هناك فيروساً يسبب إلتهاباً في ذاكرتي...قبل يومين؟؟؟ لا هذا كان اليوم قبل ساعتين، ربما لا..ربما سأذهب غدا..لااااااااااااااااا.أضرب رأسي بيدي لأوقف زحف الذاكرة على ما بقي من دماغي.
أفتح عينيّ، في يديّ أوراق محاضرات ، فيوم غد هو أول يوم في إمتحانات التخرج، المادة صعبة، النمذجة الرياضية للعمليات الصناعية، نعم فأنا مهندس تخرجت منذ ثلاث وعشرين سنة ، أرتبك جداً فهناك فصول لم أقرأها بعد، أقرر أن أبدا بقراءة المحاضرات الآخيرة التي لم أحضرها، لا لا...حضرتها ، آراني أسرع إلى قاعة المحاضرات في الطابق الثاني، غير أن الدكتور سيمنعني من الدخول للقاعة بسبب التأخير وبعد ذلك قررت، أو سأقرر. لا أعلم الزمن، نعم سأقرر أن لا أحضر محاضرات هذا الدكتور.
لا..هذه الأوراق في يديّ هي مادة الإعراب في درس اللغة العربية ، نعم فهذه الغرفة التي كنت أدرس فيها سنة 1985 أيام الإمتحانات النهائية وأنا في الصف السادس العلمي، ليس لي مزاج في القراءة بعد سماع بيان الهجوم على البصرة، لا، هذه غرفتي سنة 1982 وأنا في الصف الثالث المتوسط، لا يهم، فالغرفة كانت هي نفسها حتى تخرجي من الجامعة، نعم، أنها سنة 1982 لأن هذا بوستر بطولة كأس العالم في إسبانيا. أخرج مسرعاً من الغرفة بعد سماعي صوت مذيع يعلن النصر المبين ! فآراني بين يدي أمي وهي تمشط شعري في أول يوم مدرسة، نعم هكذا لبست في أول يوم، قميص لؤلوي اللون برباط أخضر وسروال أخضر، سوف تأتي معي أمي للمدرسة وتقبلني في باب الصف..سيضحك الجميع بينما أبكي.
لكني هنا أمسك بندقيتي في ليلة باردة سنة 1991، صوت أنفجار قريب، أصوات مدافع، طائرات، أهرب فأسقط في بركة ماء من مطر يوم أمس، أنهض فأراني وجسمي كله مبلل وأنا واقف في وسط شارع فيأتي شخص لا أعرفه فيرشني بالماء، الشارع مزدحم، نعم ، هذه ليلة التي توقفت فيها الحرب سنة 1988. يناديني أحدهم ، نعم، فاليوم عندي مقابلة توظيف، لا، أنتظر، هذا صوت رئيس عرفاء الوحدة ينادي على أسمي في أوامر القسم الثاني لواجب الخفارة لهذه الليلة !
أضرب رأسي بيديّ ، أريد صوراً حقيقية، أهرب إلى القادم، لكن ذاكرتي هي الماضي، أصبحت ذاكرة، أو وحدة ذاكرة كما سيقول لي الطبيب الذي أنا في الطريق لزيارته بعد أن لازمني صداع مؤلم في اليومين الماضيين.
أطرق الباب...تفتح هي الباب وتقول: " لماذا رجعت...هل نسيت مفتاح السيارة كالعادة"
وأنا أصيح : أين الطبيب !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية