الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العرس التمسماني أو زغرودة الحياة

محمد الرازقي

2013 / 8 / 29
سيرة ذاتية


انصرف الناس بعد ليلة صاخبة، فرادى وجماعات تحت ضوء قمر قد اكتمل منذ ايام قليلة في كبد السماء، وبدأت الطرقات توزعهم الواحد بعد الآخر على دور القرية، تماما كما كان أب العريس يوزع هدايا العرس "رعوايذ" على الحاضرين، لقد كانت فرصة لفتح علبة الذكريات، لتبدأ ألسنة شيوخ القرية وكبارهم سنا في عرض ما احتفظت به الذاكرة من أيام الزمن الجميل، انهم يتكلمون عن الماضي وكأنهم يحلمون، فتأخذك حكاياتهم وهي تتناغم مع ضربات الدف وزغاريد النساء التي ترتفع بين الفينة والاخرى في مراح المنزل القديم، ويتقد خيالك لمجاراته، تبني عوالم بالكاد تتميز الخرافي فيه عن الواقعي.
العرس حدث حقيقي في القرية، يصعب فهم طقوسه وأحداثه ان لم تكن عارفا بمواضعات الساكنة هنا، وطرق القول والسلوك لديهم، حيث سيبدو للوافد على القرية أشبه بلوحة يصعب فك رموزها وفهم ملابساتها، على أي حال فأبناء القرية يعرفون جيدا ماذا تعنيه لحظة دخول فناء المنزل بعد أن دخل الليل ثلثه الأخير، لإنشاد "أرازيق" تلك اللحظة التي تتوج العرس، والتي تختزله وتكثف رموزه وطقوسه، لكن "ارازيق" لم يبدأ داخل المنزل العتيق هذا بل خارجه، بالضبط أمام باب غرفة الاستقبال "أخام نبارا" أو "أخام نينوجيوان"، اذ منذ أن أعلن أهل العريس في الضيوف الجالسين تحت الخيمة الحمراء التي ضربت بجوار المنزل، سارع أحد ابناء القرية العارفين بفنون القول هذا، الى اعلان الانطلاقة "لأرازيق" رافعا صوته، لتبدأ الوفود تلتحق به، ثم تشكلت فرقة أخرى لكي يكون التداول في هذا الحفل الغنائي الجماعي، وفي نفس الوقت لاعطاء الفرصة للفرقة الاولى كي ترتاح وتأخذ أنفاسها، وعند انتهاء كل فرقة من انشاد مقطع تبدأ الاخرى بشكل مباشر بعد صمت الاولى، لترتفع أصوات تنادي في العريس " عقار خوسان ناش امراي".
التحقت بالفرقة الثانية وأطلقت حنجرتي مع الجماعة وذبت في ايقاع صوتها، كنت أحاول التفكير في هذا الحدث ومكمن العقل فيه، لكن سرعان ما كنت اعود الى معايشة هذا الطقس، ذلك أن مثل هذه اللحظات تؤخذ بمنطق "الحياة أولا"، في هذه الأثناء كانت التحضيرات جارية للدخول الى "رمراح" الداخلي للمنزل، حيث تم تخصيص مكان بين النساء لاستكمال ما بدأنها، كان الباب ضيقا شيئا ما كما هو الحال في المنازل العتيقة، وجدنا أنفسنا وسط حشد من النساء يملأنا جنبات المكان، فهمت من أن توزيع الامكنة على النساء تحكم فيه منطق خاص، حيث تجلس "تعزريين" في مقدمة الصفوف، في حين تأخذ المتزوجات الأركان والصفوف الخلفية، زغاريد من وهناك، "موراي" يبدوا خجولا في جلبابه الأبيض وهو يمد يده لفتاة تضع له الحناء، وبجانبه "روزي" بربطه عنق، والذي غالبا ما يتم اختياره من عائلة العريس الاصغر سنا من الاطفال، فتاتان يحملن ثوبا احمر يقفن على جانبيه، حاولت النظر في ملامح "موراي ناخ" لكنه كان قد حنا رأسه أمام الشموع الموضوعة في الحناء والمحاطة ببيض وورد منثور على هذه الطربيزة.
عيون الشباب غير حناجرهم، كانت تخطف بين الحين والآخر لنفسها نظرة على الفتيات اللائي تزين بأحلى ما يملكن، يتمايلن وينكسرن تحت الاضواء، وتنكسر معهن أصوات الرجال، انها فرصة للتعارف والالتقاء وجها لوجه، في بيئة لا تسمح بالاختلاط كثيرا الا في مناسبات كهذه، انه لا يسعك الا ان تبتهج وانت تقرأ البهجة على وجه الجميع، وجدت الناس ينصرفون من باب غير الي دخلنا منه، تبعت الجمع قبل أن افهم انهم سيقومون بانشاد "ارازيق" في فناء المدخل الرئيسي للمنزل قبل العودة لنفس المكان، لست أدري ان كان ذلك من اجل توفير فرصة لتحضير مكان جلوس العريس، أم لكي تعم بركة هذا الطقس كل أرجاء البيت. التنافس يشتد بين الفرقتين، وكلما ضعف صوت احداها او عجزت عن مجارات الاخرى الا وعلا الصياح والصفير مستهزئا بها، نظرات بعض فتيات القرية توحي لك بأنهن يتمنين ذلك اليوم الذي تكون الحناء في أيدي أزواجهن.
"سبحاين الخالقنا، سبحاين الرازقنا.." تعلو في هذه الليلة التمسمانية الرائعة، الاطفال يخترقون الصفوف، يستمعون أحيانا، أو ينظرون باستغراب، خصوصا الذين عادوا للقرية من المدن او من دول المهجر، وآخرون غلبهم النوم في أحضان أمهاتهم وعلى أرائك الغرف المجاورة، روح ما تنتقل شيئا فشيئا، وتبحث لها عن جسر للعبور في آذان هاؤلاء الصغار، كلما مر الوقت فهمت ان "ارازيق" يحمل كثيرا من المعاني، يسبح ويعظم فيها الله الذي يلاقي ويجمع القلوب، ويذكر في نفس الوقت بحتمية الرحيل، كسنة من سنن الحياة، فجأة يعلو صوت آخر، ينشد "ارازيق بطريقة غير معهودة لدى ابناء القرية، يبارك لـ"موراي" الحناء والقران بالريفية ويحمل معاني أخرى، لم تستطع الفرقة الاخرى أن تجاريها، لانها لم يسبق لها استعمت اليه، فقرأت الاستهجان في بعضهم.
لقد رأيت ردود فعل انسان يصعب عليه تمثل معاني النسبية في الاعراف والتقاليد، حتى على مستوى أبناء القبيلة الواحدة، وما بالك ان كان الأمر كونيا، عاد الجمع الى استكمال نفس النشيد الذي تعارف عليه ابناء القرية بشكل تدريجي ، الكثير من الشباب يبدوا عليه الاجهاد، كما تبدو العروق واضحة في عنقه وهو يؤدي هذا الطقس، ما يعني أنه يتفاعل بشكل كبير مع هذه الشعيرة التي أصبحت وكأنها أحد اركان الدين في الاعراس، أخ العريس يمر بالماء والسكر على الحاضرين كي لا تجف حناجرهم، واعتماد كبير على كبار السن استجداء لذاكرتهم الحية ليكون الاداء أفضل دون اغفال التفاصيل.
رجال ونساء يأخذون صورا لـ"موراي" ولأنفسهم لاختطاف هذه اللحظات من قبضة النسيان، أخذت بدوري البعض منها، قبل أن ينتهي العريس من وضع الحناء، ما يعني أنه قد حان وقت ادخاله الى غرفته، حيت يتم اصطحابه هو ووزيره الى مكان قريب من باب غرفته، وبعد ذلك عليه أن يدخل بسرعة جريا، كي لا تنال منه ضربات الشباب، هكذا تقول الاعراف ولو أن العقل يقول شيئا آخر، لكنها لحظة تبدو انها أثارت الكثير من الحماسة في الجمع، قبل ان يلتحقوا به هناك حيث ستتلى سورة "الملك" التي تختتم برفع أدعية للعريس بطول العمر وبالسعادة الزوجية ليكون بذلك قد اعلن عن نهاية أحد أهم فصول هذه المناسبة.
أب العريس يطلب من المشاركين في أرازيق عدم الانصراف قبل تفريق "رعوايذ"، وهي عبارة عن بيض مسلوق في الماء والحلوى، ويكون له طعم خاص، لست أدري لماذا، لكن الأكيد أن الأكل فعل ثقافي قبل أن يكون فعلا بيولوجيا كما هو الحال في كثير من أفعالنا، يقول رجل لآخر: لقد استمتعنا بوقتنا حقا. وقلت في نفسي لقد كان أجمل عندما كان في بدايته، ان هذه البدايات جميلة، والاكتمال يعني النهاية، انها لحظات ندرك فيها معاني الرغبة والفرح البدائي، هناك حيث لاشئ، لكن في نفس الوقت حيث كل شئ.
العرس لم يبلغ هذا الا بعد أن "ساوحند ثاسريث" في سيارة مزوقة ومزركشة، اليوم يزين الحديد بعد أن كانت تزين الأحصنة والبغال قديما، مع ألبسة خاصة كانت تصنع بنوع من خشب شجرة العنب ونوع من الثوب الاحمر وأشياء أخرى، في شكل يشبه القبة، وتصحب هذه العمليات طقوس خاصة كنت أراها في صغري، منها ما يدل على الخصوبة او لحماية العريسة من "العين" او لجعلها قوية قي بيت زوجها، او لجعل هذه العلاقة اطول وامتن..الخ، كتكسير بيضة في باب البيت قبل دخول العروسة لبيت زوجها، او جعلها تحمل المرآة، أو غسل رجل العروسة بالماء من طرف ام العريس في الباب قبل الدخول، اما بعد دخولها لبيت زوجها، فـ"ثسريث" يجب ان لا تضع حزاما وان لا توقد النار في بيت وزجها لمدة سبعة أيام.
السيارات لم تشكل قافلة نحو "ثداث نتسريث" في هذا الوادي السحيق الا بعد مفاوضات كبيرة مع اهل العريس، فكثرتها تدل على مكانتهم الاجتماعية في القرية، لكن للكل حجته موافقة أو احجاما عن الذهاب، النساء يفضلن أن تكون بأعداد كبيرة حتى يتمكن من معايشة كل فصول القصة، الاطفال ايضا يفضلون هذه المناسبة للخروج من القرية واكتشاف المحيط، وما تبقى من أمكنة بعد ركوب أهل العريس وأقربائه فللفضوليين.
شباب كثير من القرية ممن حضر العرس قارب على انهاء عقده الثالث، والبعض منه استقبل الاربعين من عمره ولم يستقبل بعد فارسة أحلامه في عرس كهذا، هكذا فهمت التعليقات الكثيرة حول زواج "موراي" الشاب هذا، اذ ينظر اليه البعض بمثابة مقامر، نعم أصبح الزواج شبه مقامرة محفوفة بالمخاطر، في مجتمع لم تعد فيه أسباب العيش التقليدية تضمن امكانية الاستقرار، يعلق شاب على كلام أحدهم، وهم ينهشون لحم ثور مزين باللوز والبيض المسلوق، قيل أن أهل العروس لم يتمكنوا من اخراجه من زريبته الا بعد ان قاموا بهدم بابها الذي لم يكن من السعة بما يكفي لإخراج ثور بلغ فيها سنته الثانية.
الدجاج المحمر والمشروبات الغازية والفاكهة أيضا زينت موائد الاستقبال، واختفى طبق البيصار والخبز التقليدين من الوجبات المقدمة في العرس واختفت معه كثير من الاطباق والعادات، بالرغم من روحه التي ما تزال مفعمة بالحياة، لست ادري هل هي التقاليد تدمج ما استحدث من طرق ووسائل حديثة لكي تستمر، أم أن مظاهر التحديث تتغلغل بطريقة لبقة في تسامح مع القديمة كي لا تتصادم معها، لكن الظاهر أن تفاعلا ما فيما بين الاثنين يقع بقريتنا هذه.
العرس هو عرس واحد، لكن هل يتمثله ويعيشه الجميع بنفس الاحساس؟ هل لايقاع "أجون" في هذه الليلة المقمرة والذي قطع عليه أحد الاطفال الوادي لإحضاره من "المدشر المجاور" نفس الوقع على الحاضرين؟ وهل لصدى الزغاريد أن تحرك فيهم هذا الاحساس الغريب، والرغبة في تهذيب الواقع واسطرته ايجادا للحياة حيث تبدوا مستحيلة؟ ، نعم العرس واحد، لكن لكل واحد احساسه، تمثله من موقعه، وللقارئ أن يحاول تصور قوة هذه اللحظات، وكل لحظة تثير الرغبة في الحياة لا يمكن الا توصف بالقوية.
يعرف الجميع أن القرية ستعود الى رتابتها بعد أيام قليلة، لذلك يسارعون الزمن للاستمتاع بهذا الحدث لحظة بلحظة، كم هي الحياة ثقيلة ومملة-هكذا بالخبز الحافي- بلا أفراح وغناء جماعي، بلا جديد وأحداث مميزة تكسر الروتين اليومي، فأبناء القرية يفرحون وينشطون بعيدا عن هموم وفظاعات العالم من حولهم، هذا هو عالمهم، هنا المحيا والممات، كانت القرية قديما تتكون من عائلتين أو ثلاثة وأصبحت ذريتها موزعة اليوم على كل بلدان اوروبا، بعد أن كان أجدادهم موزعين على مدن الجزائر منتصف القرن الماضي بحثا عن لقمة العيش، انها تحتفظ بقليل من أبنائها، بما يكفيها لكي تستمر، وتصدر الفائض لباقي العالم.
كي يكون "مدشرا" صالحا للعيش قديما، كان يكفي أن يتوفر على منبع قريب للماء وأرض صالحة للزراعة، ومكان للعبادة يعزز بقبر لولي من اولياء الله يقوم بتلبية حاجات الناس الروحية فيما تعجز عن تلبيته المساجد، ومقبرة للرقود بسلام بجوار اولياء الله الصالحين وبجوار المسجد، أما الباقي فتدخل في باب مكملات العيش، إمام المسجد كان حاضرا في العرس على مائدة مع شيوخ القرية، لكن الغريب أنه لم يكن مع من كان يتلوا القرآن في غرفة العريس، بل تكفل بتلاوته منشدو "أرازيق"، أو بالأحرى ختموا به ما أنشدوه ابتداء.
يختلط هنا الديني بالدنيوي، الطبيعي بالثقافي، ويلبس الوحد منهما جلباب الآخر، لكنهم جميعا ينشدون الحياة والاستمرارية، حياة هنا أو هناك لما وراء وراء الازمنة، العرس بدوره يجسد هذه الرغبة في الاستمرارية على هذه الارض المعلقة بين قمة الجبل وضفاف شاطئ سيدي عبد الرزاق، غريزة تزينت بأزياء ثقافية، وتسترت فيها، لذلك حافظت على ديمومتها واستمرارها، نتفق ونختار عن وعي او تختار لنا الظروف مع من نتوالد ونقضي بقية أيام عمرنا، طقوس كثيرة ترافق اللقاء الاول بين العروسين، وهواجس تخيم على سمائهما، بالخصوص في عقلية الانسان القروي، فالسحر والشعوذة ومكائد الحساد كثيرا ما كانت تفسد "ليلة الدخلة" حسب القصص الكثيرة التي تروى على التجارب والاعراس السابقة، واليوم الموالي "ثفوت" هو الآخر يحمل معاني خاصة في العرس، كما تقام طقوس مميزة في اليوم السابع بعده، فيما يعرف بـ"أبياس"، حيث يحضر أهل "ثسريث" لتبدأ عملية وضع حزام لها قرب صحن كبير يتوسط قالب سكر موضوع في الدقيق، وعلى جنبات الصحن يوزع بيض مسلوق وشموع، يمكن أن تتصور فتى صغير له حساب على الفيسبوك ويعرف استعمال الحاسوب والهواتف الذكية وله مستوى تعليمي وثقافة علمية ولو في حدود معينة، وهو ينظر في هذه الطقوس ماذا سيفهم؟
قديما كانت هذه الطقوس متناغمة مع المناخ الفكري العام لساكنة البادية، حيث كانت تنعدم وسائل الاتصال بالعالم الخارجي، وبالتالي بطئ عملية التثاقف والتلاقح الفكري والثقافي، والاطلاع على تجارب العالم، بل حتى مع القبائل والمدن المجاورة، اذ لن يجد غرابة في هذه المشاهد والطقوس غرابة وهو الذي تربى ونام زهرة طفولته على ايقاع حكايات خرافية واسطورية، وتلقى تعليما عتيقا لا يختلف في جوهره عن هذه الحكايات، ويعتبر أن ما يعيشه هو حقيقة هذا العالم.
خرج الرجال من مراح المنزل القديم، ليعود اليه "موراي" بعد أن ختموا عليه "أرازيق" بآيات من سورة الملك ليكمل ليلته بالرقص وسط زغاريد النساء، وصيحات تنادي فيه:
"عقار خوسان ناش أموراي".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تشاد: المرشحون للانتخابات الرئاسية ينشطون آخر تجمعاتهم قبيل


.. رويترز: قطر تدرس مستقبل مكتب حماس في الدوحة




.. هيئة البث الإسرائيلية: تل أبيب لن ترسل وفدها للقاهرة قبل أن


.. حرب غزة.. صفقة حركة حماس وإسرائيل تقترب




.. حرب غزة.. مزيد من الضغوط على حماس عبر قطر | #ملف_اليوم