الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النادي الفرنساوي

مجاهد الطيب
(Megahed Al-taieb)

2013 / 8 / 29
الادب والفن


- 1 –

اسمها سماء ، وينادونها "سما " ؛ نظرا لإلحاح طويل منها ، وموقف صلب مدعوم بشواهد تملأ حوائط المدرسة : وسائل تعليمية من صناعتها وصناعة تلاميذها ممهورة باسمها الحبيب :

قسم اللغة الفرنسية
إشراف / مدام ســـــــمــــا رضوان

إذن الكلام عن مدام سما رئيسة قسم اللغة الفرنسية بمدرسة اللغات التي أعرت إليها حديثا ؛ فأصبحت " مستر " بدلا من" أستاذ " ، مدام سما كريمة جدا . كرمها حمَّال أوجه . صديقي الوحيد في هذه المدرسة حتى الآن هو مستر أسامة مدرس اللغة الإنجليزية ، صداقتنا عمرها ثلاثة أيام ، تقابلنا في التوجيه ، ثم في الإدارة التعليمية ، قرّب بيننا أننا سويا أعرنا إلى مدرسة واحدة ، جلسنا على قهوة الاعتماد في ميدان العباسية القريبة من الإدارة ، أبرز ما يميز مستر أسامة في هذا اليوم الفرح الطارئ الذي يملأ وجهه ، سعيد سعادة فوق الوصف ؛ لأنه انتقل إلى إدارة مصر الجديدة ، وإلى مدرسة بارزة ولغات خصوصا . لم أفهم سلاسل الحمد التي كان يصدرها تباعا باسمي واسمه : إحنا كده نقول الحمد لله ، الحمد لله إحنا ربنا كرمنا آخر كرم .

مستر أسامة هبط إلى القاهرة قادما من الصعيد من خمسة أعوام ، عمل فيها بمدارس – كما يقول – ما يعلم بيها إلا ربنا ؛ فعمله كله كان في منطقة شبراالخيمة. عن طريق خاله المحامي الذي تربطه بعضو مجلس الشعب علاقة وثيقة ، و إن تكن من الدرجة الثانية ؛ فهو صديق صديقه ، استطاع عبر تلك الواسطة أن يحصل على تأشيرة " يُنفذ ونُفاد " بالقلم الأحمر ، من أقوال أسامة في هذا اليوم " من ساعة ما جيت القاهرة وأنا محسود .. الاسم شغال في مصر .. دا بيديك وضع برضه بس الواحد كان بينكسف يقول لواحد عدَِّي علي في الشغل ، أقصد الطابونة اللي كنت شغال فيها .

- 2 -

عندما وصلت وصديقي أسامة رحبت بنا مدام سما ترحيبا شديدا ، لم نجد له مثيلا في قسمينا ، وأصرت أن نجلس في غرفة اللغة الفرنسية التي هي أشبه بناد اجتماعي ، تشرف المدام بنفسها على عضويته ، عزمتنا على الشاي ، " وإن شاء الله هاتنبسطوا معانا " ، كانت تتكلم كوكيلة وزارة ، أمام إلحاحها في الفسحة وفي الحصص الفاضية انضممت وأسامة إلى النادي . كان أقدم الأعضاء وأبرزهم مستر عبد العزيز : صاحب بنية قوية ، وشارب أصيل ، أربعيني ، الشيب الذي فشا في رأسه زاده قوة وأضاف إلى طلعته وسامة من طراز شائع .

كانت مدام سما تصر بشكل لا لبس فيه على عزومتنا ، ولا أحد من أعضاء النادي يمانع ، أحاول أن أبدي استغرابي باعتبار المنطق والأصول ، لكن لا حياة لمن تنادي . اللهم تعليقات من قبيل دي رئيسة قسم .. شوف عامللها كام امبارح بس ، كانت تبعث الدادة إلى محل فخيم لتحضر الفطار وبزيادة دائما : كرواسون- باتيه – جاتوهات ، وما شابه . تذكرت على الفور أيامي الأولى في مدرسة المطرية الإعدادية ، حين دخل عليّ أحد التلاميذ وأنا منهمك في الشرح ، يا أستاذ هات ربع جنيه ، أستاذ علي بيقولك . كان هذا في الحصة الثالثة ، وبعد دقائق كانت الفسحة ، صرخ فيّ الأستاذ علي من داخل غرفة صغيرة هي غرفة التربية الرياضية : تعال الحق ..تعال افطر ، مش أنت دافع ؟ وجدت طبقين من الفول وأمما من المدرسين .

- 3 -

تبدو سما في البدايات شخصية لطيفة بسيطة باعتبار أن البساطة لها علاقة بالثرثرة . قدمت شخصيتها على مراحل ، أخذ الموضوع عدة شهور ، لكن ثمة جملة مفتاحية ترتكزعليها غالبا لتبدأ منها الكلام : أنا ما باعترفش بمصر الجديدة بتاعتكو دي . تنطلق بعد ذلك لتعرفنا على أبيها المحارب القديم ، والبلكونة السحرية التي تشرف مباشرة على النيل ، وعن شلتها في آداب القاهرة التي كن يترافقن مشيا على كوبري الجامعة ، وعن حي المنيل اللي هواه يرد الروح .

مستر أسامة كان مبهورا بها : ست جميلة ، بنت ناس يا أخي ، بتفكرني بليلى طاهر ، ما بيبانش عليه السن ، وبعد شهور طويلة يخبرني أسامة " الأبله سما دي مشكلة .. مشكلة .. مشكلة " ، يردد الجملة مرات بأداء تصاعدي ، ولن يزيد ، وكأنها القول الجامع المانع ، وفي كل مرة ينظر إليّ لأعلق.

كانت سما قبلها قد لفتت نظر أسامة إلى أن مداموزيل "سها " شكت منه ؛ فهو ينظر إليها نظرات مش هِيّه ، سما كانت تقول له ذلك ببساطة ، وكأنها تنبهه إلى زرار مفتوح في قميصه. تعليق أسامة تأخر أياما ولم يكن لسما ولا لسها بل كان لي ، قال وهو يعطي لكل حرف حقه من النطق وزيادة : نظرة مش هيه ؟ إزاي؟! أمال عمك حفظي بيبص لها إزاي ؟1الناس دي اتجننت ، سها مين دي اللي ابص لها " أنا عيني مليانة.. أنا مراتى عندها شَرْطة عين ...بصراحة ماشفتهاش في أي ست " ، قال ذلك قاصدا أن يغلق هذا الباب بحسم ، وأيضا تطلع إليّ ينتظر تعليقا .

- 4 -

سها أحدث أعضاء الأسرة الفرنسية خريجة الليسيه – بنطلون جينز- قامة متوسطة –أنيقة - شعرها المنسدل على ظهرها يزيدها قوة تعوض بدنها النحيل – وسيارة 128 بيضاء عبر زجاجها الخلفي ترى بوضوح عددا من الدباديب متعددة الألوان . سها آخر من وفدوا إلى المدرسة ، ومع ذلك تمشى في طرقاتها بثقة لا تعرف مصدرها ، كأنها مولودة هنا ، حين يدق الجرس تراها تمشي مهرولة ، هرولة شيك ، تكشف عن جدية ، تحمل اللوحة ( الوسيلة التعليمية ) باليد اليسرى وتسندها على كتفها كمضرب تنس . وباليد اليمنى أكوام من الكراسات المجلدة بجلاد مميز ، حين ترى هذه الأكوام تشعر أنها في مأزق ، غير أن مشهد مضرب التنس لا يدعم ذلك .

عندما اسيارة كانت 128 ، اشتريت دبدوبا على سبيل الاختبار ، أضعه بجانبي حين أكون بمفردي ، حتى يحين وقت الاختبار ، في اليوم المناسب أمسكت به ووضعته على الرف الأخير ، نزلت من السيارة ووقفت انظر إليه من الخلف ، لم أستطع تكوين رأي ، ركبت السيارة وانطلقت ، ثم ركنت ونزلت مرة أخرى ؛ لأعيد تقييم الموقف ، لم استرح للأمر ، يبدو أن الموضوع ليس بهذه البساطة .

- 5 –

عم حفظي أو الأستاذ محمد حفظي أستاذ اللغة العربية المخضرم " تبعنا ومش تبعنا " كما يحلو له أن يقول ، يقترب بدأب من الخامسة والستين سن معاشه ؛ فهو أزهري ، كل صباح يأتي بآخر نكتة ؛ آخر نكتة بالنسبة إليه ، يمثل النكتة وهذا هو سبب انفجار الجميع في الضحك حين يسمعون نكتا سمعوها من قبل ، نحيف جدا ، عندما يضرب الجرس لايقوم من على الكرسي بل يقفز وينتظم في المشي مباشرة ، في آخر صيف له قال سأعلمكم شيئا يا لله أهو كله لله ، كله يجي بدري بكره في فصل 3 / 5 ، كل واحد معاه قلم رصاص وأستيكة وبراية وكراسة محترمة ، ها علمكم الخط يا شوية جهلة ، وعلى الله يضمر فيكم ، رقعة ونسخ وثلث وديواني ، سمعتو عن الحاجات دي قبل كده؟ ،معظم أعضاء النادي الفرنساوي والقليل من خارج النادي انضموا إلى 3 /5 حيث حلقة عم حفظي .

- 6 -

مدام سما خريجة مدارس فرنسية ، السِكْر كِير ، متميزة في فرنسيتها كما تقول ، نحن لم نلمس شيئا ، ولا نستطيع.

سما حجابها حديث ، تعد رائدة وسباقة في ذلك ، نحن نتكلم عن أوائل التسعينيات ، لم يكن الحجاب المزود بـ بَدي وجيبات قصيرة تسترها بنطلونات ولا ربْطة الطرحة الاسبنش قد ظهر بعد ؛ فقد كانت تضيق بالإيشارب تقدمه وتؤخره ، وأحيانا تتجلى فتفكه وتعيد ربطه وكأننا لسنا موجودين ، أحيانا ترضي نفسها فتلبس بنطلون جينز وتفسده بجيب ليس قصيرا . علقت مرة زيزي سكرتيرة المدرسة صاحبة اللسان السليط والقد الممشوق والشعر البندقي والنظارة الشمسية التي لا تلبسها ولكن تضعها أعلى الرأس : " إيه يا سما ده ؟ إنت رايحة السوق ؟ إيه اللي إنت لابساه ده ؟ بالتأكيد تعرف زيزي رأي سما فيها : " عايشة لي في الدور أم دبلوم دي " . مدام سما لها ميول ثقافية " عندي دوواين نزار قباني كلها . اجيبلك؟ ، وتتردد أحيانا مع زوجها على الأوبرا لحضور حفلات الموسيقى العربية 0 وتشتري الشرائط بعد الحفل ، ثم تتخلص منها بعد أيام من باب الكرم . عندى حتى الآن شريطان لصباح فخري ذكرى أيام النادي الفرنساوي.

- 7 -

سما صاحبة شخصية تربوية قوية وحاسمة بامتياز ، عدد لا بأس به من البنات والبنين يستشيرونها في أمورهم الهامة ، تؤمن إيمانا ما بأهمية لغة الحوار " العيال دي أنضج مننا ألف مرة " ، هوايتها هذه سببت لها العديد من المشاكل إلا أنها دائما تتجاوزها بيسر لشخصيتها المميزة كمدرسة وتمكنها من مادتها ، وأيضا لإ تقانها أداء دورها كنجمة وواحدة من الأسرة البشرية ، والتمثيل هنا لا علاقة له بالزيف بقدر ما له علاقة بالخبرة ، أو موهبة الأداء الصحيح لما تريد أن تكونه في هذه اللحظة أو تلك .

مدام سما عظيمة التردد في أمور عادية ، خذ مثلا : عندما تبدأ في إرسال الدادة لشراء الفطار : آكل جاتوه شيكولاته ولا كريمة ؟ تبدو متحيرة فعلا وناقمة ؛ فلا أحد يقدر هذه الحيرة الإنسانية ، أو أشرب شاي ولا نسكافيه ؟ نوع من الصداع الفرنساوي اعتدنا عليه ، فأصبحنا لا نعيرها أي اهتمام ، وتتولى هي السؤال والجواب .لكنني للأمانة أشهد أنها تحتار فعلا .

- 8 -

مستر عبد العزيز زميلي في قسم اللغة العربية ، و زميلي في النادي الفرنساوي عندما تنتهي سما من عملها تمر عليه في القسم : " يالله يا عبد العزيز " ، فيرد بعجرفة مصطنعة : ماشي اسبقي انتي ثم يمسك بقلمه ، ويضرب عدة ضربات على مكتبه لا تخلو من توتر ، وأيضا بها تمثيل ، ثم ينهمك في أي شيء أمامه . وبعد ثوان طويلة يتبعها . العلاقة بينهما ليست مفهومة . أبناء عبد العزيز معنا في القسم الابتدائي ، في الفسحة يمران عليها فتقبلهما وتعطيهما المعلوم الروتيني شكولاتة وشيبسي ، ثم باي باي . عمرو وهبة في الغالب يحبانها جدا . هي لم تنجب ، ولكنها أم بجدارة شكلا وموضوعا .

عندما أصيب مستر عبد العزيز بأزمة قلبية نقل على أثرها إلى العناية المركزة باتت معه ثلاث ليالٍ إلى جانب زوجته وجانبه . عندما وصلنا كوفد مدرسي لزيارة المستر فعلقنا : الحمد الله كويس ، عقبت سما والارتياح يغمر وجهها المرهق : كويس قوي قوي قوي ، إحنا كنا فين ، ماشوفتوش امبارح ولا أول امبارح . زيزي كانت رفيقتنا في هذه الرحلة ظلت تردد بغنج وهي تتبختر على سلم المستشفى : " إحنا كنا فين . إحنا كنا فين " . ثم تشهر سبابتيها وتباعد بينهما وتقرب " .ما شوفتوش امبارح ماشوفتوووش ".

عبد العزيز قلب الأسد . هذه تسمية دفعة قديمة من دفع المدرسة . يشرح طوال الحصة بذمة تحتاج إلى توضيح ، ويراجع ما يشرحه في الحصة التالية ، يمر على الطلاب والطالبات ، ويا ويله من لا يعرف جواب سؤاله؟ يمسك بعصا طويلة طوال الوقت ، إلا أنه لا يستخدمها في الضرب ، هي أشبه بصولجان لزوم الهيبة فقط ، أما الضرب فباليد وبالشلوت. من أسئلته الأثيرة في قصة وا إسلاماه : الشيخ سلامة امبارح لما كان بيهرّب الواد محمود والبت جهاد من التتار وبيّتهم في الكهف ، ربط الحمار بتاعه فين ؟ الفصل بالكامل ولاد وبنات يقف بإشارة من يده ، ويستمر واقفا بإشارة أخرى ، وفي النهاية بعض البنات يبكين في انتظار العقاب الذي هو أمر من العقاب ، إلا أنه يفاجئهم هذه المرة بعفو عام : اقعد ياحمار منك له ليها.

مستر عبد العزيز محبوب من سائر الطلاب إلا القليل ، له طريقة مخصوصة في الشرح : الضمير بعد إن هو اسمها يا دهوف منك له ، لما تلاقي إن أو أخواتها تحط إيدك عليها وتحسِّس ، أول حاجة تقابلك دا اسمها - ضمير نصب وتعربه : ضمير مبني في محل نصب اسم إن. بكره ها اسأل فيه ويا ويله اللي.. با قلكو كتير ما تروقتوش – عندما سألته إحدى الطالبات وهو يشرح مشهدا من مصرع كليوباترا : يا مستر مكتوب في كتاب الأضواء إن كليوباترا كان عندها أولاد من يوليوس قيصر ، همّا كانوا متجوزين يا مستر ؟ يرد : إنتِ قاعدة نايمة ؟ أمال إحنا بنقول إيه م الصبح يا حاجة ... دي كانت صايعة يا ماما. يكره بعض الدروس وكراهيته لها تتجدد سنويا : ودائما هذه الدروس تُنعت بـ رزل أو سئيل ، لذا فعبارته الأثيرة في أواخر كل عام : " النسب " ده رزل رزالة .

وألقى علينا محاضرة طويلة عندما استجابت الوزارة لأوجاعه وألغت الدرس نهائيا ، قال : أهو دا غباء وعك ؛ كده بيلغوصوا في المنهج ، يتخفف شوية ماشي ، بس ما يتلغيش. من النصوص التي يكرهها : أراك عصي الدمع لأبي فراس : دا نص أهبل وسئيل في نفس الوقت ، المدرس ما يعرفش يقول فيه كلمتين ، والنبي اللي بيسوقوا في الوزارة دول عايزين إيه ؟ فيه نص يفضل يتدرس 20 ولا 30 سنة . ما خلاص خلصنا .

- 9 -


ذوق سما في الملابس ردئ للغاية ، إلا أنها ذات ذوق دقيق عندما تقيم ملابس الآخرين ، وهو تقييم ينم عن ذوق رفيع فعلا . تبدو سما متيسرة ماليا متعثرة نفسيا ، ولن تدخر شيئا ، ولن تقصر في سبيل زجر الهم عن نفسها .الحقيقة أنها من أسرة متوسطة ، ولكن أدواتها أو (عدتها ) ارستقرطية ، تجيد استخدامها بمهارة . الفلوس والحساب الشخصي بالبنك يشعرها بقوة ونفوذ لا تخفيه بتاتا ، فمن آن إلى آخر تعلن : أنا رايحة البنك هنا في تريوموف نص ساعة محدش يروح . بالتأكيد سينصرف الناس جميعا وهي تعرف ، ولكنها لا تتنازل عن " ما حدش يروح" هذه أبدا ، فالكلمات المقصودة ليست هي المهمة فقط . لن تغضب عندما تعود ، ولا تجد أحدا ، ولم ولن تعاتبنا ، بمناسبة العتاب أكثر ما يستحق العتاب واللوم عندها الغياب ، ليس الغياب عن المدرسة ، بل عن النادي ، لا تنفعل ، بعبارات أقل من العادية تسأل عن سبب الغياب ، وهل يرجع إلى إنك " إنسان ما بيضمرش فيه" ، تقولها وتسحبها في نفس اللحظة بابتسامة أو دعابة ، وإذا شعرت أنها لم تُمحَ تعتذر صراحة .

أحيانا كنت أشعر بملل حقيقي ، وأكتفي بصباح الخير من خارج الغرفة ، فترد صباح ما صباحش ليه ؟ بابتسامة وطولة بال ، في الغالب تعتبرنا سما زملاء في قطار لا أكثر ، علاقاتها غير قابلة للتطوير من أي نوع ، ستزورك في بيتك وتحرص على مواساتك إذا أصابك مكروه . وقد تعزم المدرسة بالكامل على حاجة ساقعة إذا رزقك الله بمولود . إلا أنها أساسا تقضي وقتا وتحارب فراغا ، وأي شي آخر يعتبر ( شيء لزوم الشيء.)


سما – نستطيع أن نقول دون تجاوز - متكلمة ، طلقة اللسان ، من زوايا مختلفة ، تراها أما حنونا حازمة مع بعض المترددين على مكتبها من الطلاب والطالبات ، وغالبا ما تختتم كلامها بأداء تمثيلي رائع وحنون : " مش عايزة اتكلم في الموضوع تاني ، وياريت نكون بنفهم ونقدر، ونبقى قد المسئولية " ، ثم تشير بيد واحدة مفتوحة : " اتفضلوا يا شباب " ، فينصرفون دون تعليق . سواء عرفت ما دار في متن الحديث أو لم تعرف ، تشعر أن سما لم تقل سوى ذلك ، الخاتمة السحرية أهم مايميزها ، أضف إلى ذلك شكل الكلام وتلاوته لا مضمونه . طريقة تقطيع الجمل المصاحَب باللفتات الحانية ، حركة يديها بضم الكفين او تباعدهما أو الدوائر التي ترسمها في الهواء 0 ديكوباج تم تحميله في أم رأسها عبر سنوات ، يُعظِّم من الأداء ، ويجسد المشهد ، ويوحي للنظارة الصغار بخطورة الأمر . مشهد ختامي يَجُبُّ ما قيل قبله ، أو بالأحرى مالم يُقل .


وقد تبدو متدينة على نحو متطرف ، ترص الكلام رصا مدعوما بما تحفظ من آيات قرآنية وأحاديث نبوية ، تجعل محاوريها حيرى ، أو في حيص بيص من غزارة الشواهد التي تتلوها ، وتحرص على استباق سامعيها ؛ فتحرمهم من فرصة الرد كأن تقول : " يعني أنا مثلا اُعْتَبر بعيدة جدا عن الدين ، كلنا بعيد ، يا جماعة المتدين اللي بجد حاجة تانية . الدين واسع وكبير جدا .

بنفس الحماسة ، والتسلط الطوعي ، قد تتحدث عن المكياج ، أو عن عبد الحليم وأم كلثوم ، أو عن قواعد اللغة الفرنسية ، أو عن فطيرة التفاح . وهنا يجب أن يقال إن ما يُسكت السامعين ليس فقط منطقها القوي ، بل كرمها وخصالها المميزة ؛ فهي حبوبة وطيبة وصاحبة واجب ، والأهم أن كل ماتصدره من أحكام غير ملزم بالمرة لغيرها ، ومن قبل لها ؛ فنشوتها التي يراها القاصي والداني بعد كل حلقة نقاشية تشارك فيها رفعـة ً للروح المعنوية لا أكثر. روحها المعنوية ترتفع على الملأ ، وبشهادة الشهود.

- 10-

الحـكـاية بسـيـطـة . هذه جملة عم محمد حفظي التي يبدأ بها ، هي فاتحة كلامه وفاتحة كتابه ، يرميها فتمنحه القوة والهمة وتحلل عقدة من لسانه ، قد تكون مقدمة لرده على معضلة نحوية ، أو رأي سياسي ، أو مشورة في أمر من أمور الحياة الدنيا ، لا يهم ، يبدأ قائلا : الحكاية بسيطة .. ثم يتجلى بما يفتح به الفتّاح . هل هي حكمة شعره الأبيض الذي مازال حافظا لمركزه ؟ في الحقيقة يصعب تفسير همة عم محمد بطول الأيام التي عاشها ، أو بالطبول التي دقت ، ومازالت تدق على الرأس . أظن أنها تعود إلى تفاؤله – تفاؤل عم محمد " تفاؤل - تركيب " ، لا معرفة لنسبه ولا سبيل إلى تصنيعه على مجال واسع ، تفاؤله على قده فقط . كثيرون من يرونه صنيعة أيام ولت ، درويشا يتطوح طربا على قارعة الطريق بلا طبول ، ولا أناشيد تقوّم الروح وتطرد الأغيار . كيف له أن يرقص طربا في حضور الأغيار شخصيا . الحكاية بسيطة كيف ؟ وبأمارة ماذا ؟ .

التفاؤل الذي يجاور عم محمد يراه مجالسوه الهطل ذاته ، أو الطيبة التي زادت وفاضت حتى هطلت عليه ، فحسبها ماء السماء . أقول تقريبا التفاؤل الذي نسي عم محمد كيف ركَّبه أول مرة ، ولم يعد هناك دليل عليه سوى نجاحه هو شخصيا وشفائه من أمراض الدنيا .هذا النجاح وهذا الشفاء الذي لا يدركه سواه . أقول تقريبا التفاؤل الذي يلازم عم محمد هو الرضا .هل قنع بما رُزق ؟ وما الذي رزق ؟ المشكلة أن عددا لا بأس به يرى أن ما فيه عم محمد لا يرضي أحدا . لكنه راض ، هذه حقيقة لا تخطئها عين محبة أو ساخرة .


الأستاذ حفظي وسامة قديمة ، طلة مميزة ولها أشكال : طيبة وحنان غالبا ، وأحيانا غرور يصاحب بتكشيرة يدعمها ارتفاع حاجب واحد فقط . شعره الفضي الناعم أهم وآخر ما تبقى ، في جيبه الخلفي يضع مشطا ، يشهره فجأة ، ثم يمشي به على شعره الحرير ، في أوقات الغضب كذلك في أوقات التجلي تتدلى خصلة اوخصلتان على جبهته ؛ فترى شبابه على مقربة . كان شديد الإعجاب بـ "سها " ؛ يحب أن يسمع منها ما هو عادي بالنسبة لها ، وساحر وفظيع بالنسبة له ؛ يستعذب طريقتها في نطق كلمة : مِسْتِر ( كل الحروف مرققة ) ، يكفي أن تنطقها فقط ؛ ليعقب كأنها قدمت له معروفا : الله يفتح عليك ياسها . في أيام حصص الخط نادى عليها مرة مشيرا إلى كرسي بجانبه " تعالي هنا يابنت ؟" " أيوه ياعم حفظي " ، " وريني عملت إيه في واجب الخط ؟" . ينظر إلى كراستها ، ثم يخاطبنا جميعا : تعرفوا إن شخصية الواحد بتبان من خطه ؟ ترفع سما رأسها وتوزع نظرة على الجميع قبل أن تستقر بذات النظرة على عم حفظي ، يتابع الأستاذ متفحصا كراسة سها : إنت يا بنتي شخصيتك صافية جدا جدا من جوه ، بصي معايا ويشير إلى منحنيات في الخط : شخصيتك لطيفة وبتحبى العزلة بس مش منطوية ، ثم يدير الكراسة كمن يقرأ فنجانا ويتابع : ..ومسالمة قوي ما تحبيش المشاكل… بس ده مش معناه إن انتي بتسيبي حقك ، عدة خصلات فضية تنسدل على جبهة عم حفظي التي باتت لامعة وشابة … ينتبه فجاة فيضيف : حد تاني عايز يقرا خطه ، هاتي كراستك يا سما ، ترد سما بمنتهى السرعة : لاااا. طب تعالى أنت يا عبد العزيز ، عبد العزيز باقتضاب : شكرا يا مستر ، فيعقب متندرا " مصطر" اتعلموها بقى .. هاتي ياسما هاتي ، فترد غاضبة : لا انا عارفة خطي كويس وعارفة شخصيتي.

شخصية سما الكامنة أو التي تستحقها ، والتي سُلبت منها منذ البداية ، فيها كثير من سها إضافة إلى بعض التعديلات التي تجعل من سها مجرد وصيفة . سما رشيقة صاحبة جمال نادر- جمال القطعة الواحدة ، لا ترتدي سوى الجينز ، علبة سجائرها الميريت الأزرق لا تفارقها ، شعرها القصير الأصفر بطبيعته ، تنزل منه خصلات تزيحها برفق ؛ لتستمر في الكلام ، وتعود الخصلات تتدلى ؛ فتزيحها بكل هدوء ، وهكذا ، متواضعة رغم هذا كله ، إلا في الأماكن المغلقة – النادي الفرنساوي خصوصا ، لديها من الحياء و الكياسة ما يجعلها تحسن التصرف والإدارة لسائر أسلحتها الأنثوية . هذه هي مشكلة سما الأساسية تتصرف وفق جسد آخر ، لا علاقة له البتة بجسمها الضخم المترهل ، وملابسها غير الملونة كما يجب ، وروحها المرحة التي تستدعي تعديلا جذريا في كافة الأبعاد الخاصة بها . علاقتها بـ " سها " على كف عفريت ؛ فأحيانا تدللها وتتغزل في جمالها ، وتثني على ذوقها في الملابس الذي يحمل دائما مفاجآت سارة ، تفعل ذلك باعتبار أن سها تشاركها نفس "الاستايل "! ، وفي أحيان أخرى تبدو سها العمل الأسود لسما ، وإلا فما الذي أتى بهذه التحفة الفنية إلى صميم النادي الذي أسسته سما بالجهد والعرق ، بالدلال والكرم ؟ ما الذي أتى بـ سها التي تشارك سما نفس الغرفة و الطعام والشراب والإغ الفرنسية ؟ جسد سها الحي بالفعل يقول : وما نيل المطالب بالتمني .




- 11 -

سألتقي أسامة بعد فترة طويلة على إحدى قهاوي ميدان الجامع ، يرتدي بدلة كاملة كعهده ويبادرني بالسؤال :
- ما طلعتش إعارة؟
- - لا والله
- ليه يا راجل ؟ أنا لسه راجع الصيف ده
- - حمد الله ع السلامة
- الله يسلمك .. بس الواحد راجع مش عايز يشتغل .المهنة بقت صعبة قوي بافكر ارجع البلد تاني ، انا بنيت هناك . الواحد يقضي اليومين اللي فاضلين له.

صعقتنى هذا الجملة ، بالتأكيد هذا سوء تعبير منه ، إنه يقول كما يقول الناس ، إذ إن ما تبقي لي وله كان بالتأكيد أكثر من ذلك بكثير .

- ثم يتابع : القاهرة بقت مش هيه . ودون سابق إنذار : عارف يامستر أنا جايب معاي من السعودية كام بطانية ؟ علق إجابته ثواني من باب التشويق ، وربما لملاحظته شرودي. ثم أعلنها صريحة : خمسين بطانية.. أي والله .

- 12-

العلاقة بين سما وعبد العزيز ليست بسيطة ، لخصها مستر أسامة ذات يوم :" بتحبه يا بيه ." إلا أن عبد العزيز لا يعرف الحب ، أعني لا يهتم بمثل هذه المسائل ، ويعتبرها طبقا لتعبيره " مُحْن " ، لا يجلس معنا على القهوة إلا نادرا ، نحن فقط أعضاء النادي لا نعرف ، اكتشفنا بعد ذلك أن المدرسة بالكامل تعرف سره ، وخط سيره.

بعد أعوام طويلة قابلت عبد العزيز ، أخبرني أنه عائد من أيام من العمرة ، هنأته ، وأخرج من جيبه سِبحة ، " حاجة بسيطة من عند النبي " ، سألته بشيء من الحرج عن مدام سما ، أخبارها إيه لسه موجودة في المدرسة ؟ قال : يا راجل ….بقى لها سنين سابت المدرسة ، زاد حرجي ، ثم أردف : والله هي كويسة دلوقت ، اليومين اللي فاته ماكانتش قوي ، قعدِت تلاتاشر يوم في المستشفى. بس دلوقت الحمد لله ، ومع ذلك جت المطار ووصلتني ، بتسأل عليك دايما والله . ذهب حرجي . ويبدو أنه لاحظ فزاد : سما دي دفعتي ، أنت عارف كده ولا لأ ؟ أمال أحنا بنحب بعض ليه ؟ ، ثم أخرج تليفونه المحمول ، وأخذ منى الموبايل وسجل الرقمين .

على الفور ، بعد ثلاثة أيام ، جاءني صوتها عبر الهاتف : ازيك إنت لسه عايش ؟ خلاص مفيش أصل ؟ والله دايما على بالي ، إنت فين وأخبارك إيه ؟ لسه زيزو مكلمني (زيزو إزاي ؟ ) ، هواللي اداني التيفون ، أنا قلت اطمن عليك بس ، والله من أول امبارح وانا عايز أكلمك ، بس البت هبة مطلعة البلا على جتتي ( هبة مين؟) ، يا سيدي مش هبة بنت عبد العزيز جايلها صيدلة وراسها وألف جزمة تخش آداب ، فين بقى لما اتكرمت ووافقت . مخها صرمة قديمة ما هي تربيتى . كانت تتكلم بشكل متواصل ومنظم وسريع كمترجمة فورية محترفة ، ما حصّلته من ترجمتها لم يشف غليلي ، رغم أن الأداء كان رائعا وممسكا بالتلابيب . لم أنجح في اقتناص أي سكتة ، أو توان؛ لأبادلها الحديث . شعرت بالاطمئنان عليها ، وبأن دوام الحال ليس من المحال ، واحترت ماذا أفعل بفضولي ، فضولي الذي تعاظم خلال الأيام القليلة الماضية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس