الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عوني كرومي ...... رحلة مسرحية مبدعة لم تنته بعد

يوسف العاني

2013 / 8 / 29
الادب والفن


أواسط عام 1957 كنت أخطو خطواتي الاولى الى مسرح (برشت) - البرلينز انسامبل- في برلين، اقف أمامه متهيباً حذراً فلم أكن اعرف عنه شيئاً عدا كلمات وآراء عابرة تكتب ضمن بحوث طويلة ومسهبة.. بحيث يصبح الحديث عن برشت أو مسرحه امراً في غاية الصعوبة والتعقيد.
كنت آنذاك ارقب حماس المشاهدين في برلين وخارج برلين بألمانيا الديمقراطية (سابقاً) وهم يتحدثون عن هذا الفنان الكبير وعن مسرحه فأبدو وكأنني (أطرش بالزفة) لكنني ألمس حماسهم الحار والذي احسبه احياناً مبالغاً فيه من اجل مشاهدة مسرحياته حتى انك تضيق احياناً لكثرة ما تحاول، وتحاول حضور العرض المسرحي فلا يكون أمامك مجال..
وبذلت جهوداً خارقة وتدخل تنظيم الشبيبة في برلين لمساعدتي ومرافقتي الألمانية (فراد انجريد) لأنفذ الى رحاب هذا المسرح من خلال سيدته وفنانته الفذة (هيلينا فايكل) زوجة برشت ومسؤولة هذا المسرح آنذاك.. وان التقي بها فترحب بي لأكون واحداً من أبنائها!! ولتفتح لي أبواب المعرفة والاقتراب منه- من مسرح بريشت- فحضرت عروضاً كثيرة وشاركت بعد ذلك في أكثر من مؤتمر مسرحي عنه وكان لوجودي في تلك المهرجانات أو المؤتمرات مجال رحب للإطلاع على التجارب المسرحية هناك. ومن أكثر من بلد يعني عناية خاصة وجادة في مجال ذاك المسرح العتيد وسارت الأيام لترسم التواصل الدائم والمهم بين البدايات الأولى وما تبعها من اهتمامات عديدة أخرى..
فمن المسرحيات الأولى التي شاهدتها أواسط الخمسينيات والتي سحرت بها وظلت ببالي سنين طويلة مسرحية (بونتولا وتابعه ماتي) وكنت آنذاك احلم ذات يوم ان أكون ممثلاُ لدور (بونتولا) وشاهدت "دائرة الطباشير القوقازية" فأحببت (ازداك) وما زالت أمنيتي ذات يوم ان امثل دوره..
وشاهدت المسرحية (الإنسان الطيب في ستسوان) من إخراج بينوبيسون أول مرة وراودني الحلم ان أكون يوماً ممثلاُ لدور (السقا) في المسرحية.
قالوا (ان العالم صغير) وبين الأمس واليوم.. سنوات طويلة لكنها تبدو أحياناً، وبعد حين أياماً معدودات.
ففي عام 1974 جاءني الصديق الغالي الفنان الكبير إبراهيم جلال رحمه الله ليخبرني عن عزمه على تقديم مسرحية "بونتولا وتابعه ماتي" للفرقة القومية ولكن بعنوان "البيك والسائق" وقال ان دور بونتولا لا يمثله الا أنت وقدمنا المسرحية في بغداد ودمشق والقاهرة والإسكندرية وقد تحدثت عن المسرحية تفصيلاً عند الحديث عن الراحل الأستاذ إبراهيم جلال في بداية حديثي عن المخرجين الذين عملت معهم في المسرح.
عام 1970 كان الشاب عوني كرومي وبعد تخرجه من كلية الفنون الجميلة فرع المسرح وما قدم من اعمال مسرحية تلفت النظر وتثير الاهتمام، قد وصل برلين وكنت هناك مشاركاً في مهرجان المسرح الألماني..
عوني كان في بعثة لدراسة المسرح وكان حلمه وهاجسه برتولد برشت..
وكنت قد حجزت مقصورة لمشاهدة مسرحية (كوريولان) في الـ(برلينر انسامبل) فدعوته لمشاهدة المسرحية معي فهش وبش كما يقولون وركض الى غرفة في الفندق ليخرج نص المسرحية التي كانت مترجمة الى العربية في مجلة المسرح المصرية وجاء الى المسرح ومعه المجلة.
حين بدأت المسرحية راح يقلب النص صفحة صفحة ويقرأها سطراً سطراً ليتابع الحوار رغم الضوء الخافت.
كنت أراقب انفعال هذا الشاب وحماسته بإعجاب لكن صيغة مشاهدته لم تعجبني فقلت له مداعباً:
-أغلق النص وشاهد العرض واترك القراءة الى الأكاديمية التي ستدرس فيها!.
ومرت سنون أخرى أنا أتابع خطوات هذا الشاب في غفلة منه وكانت لقاءاتنا قليلة لكنني كنت امتحن فيه- دون ان يدري - خطوات اقترابه الحقيقي من فن وفكر برتولد برشت..
ومرت سنوات قليلة أخرى وبدأت الأحلام في نفسي تتيقظ وتقترب من الوقائع الملموسة ترى هل تكون لهذا الفنان الشاب معي تجربة لأحلامي المسرحية من مسرح برشت بعد ان حقق لي قبله الرائد إبراهيم جلال المشاركة في مسرحية "بونتولا وتابعه ماتي" لأمثل دور بونتولا؟
عام 1985 شاءت الصدف ان تكون لعوني كرومي بعد أكثر من تجربة برشتية قدمها وشاهدتها له ببغداد وكان لي رأي خاص بها دون ان يفارقني الإعجاب ببعض تلك التجارب.
أقول شاءت الصدفة ان يتقدم عوني كرومي برغبة في اخراج "الإنسان الطيب في ستسوان" بنفس عراقي يحمل بعده الإنساني وانه يرغب ان امثل انا دور السقا في المسرحية وهكذا صار الحلم حقيقة وبدأنا التجربة سوية عبر فرقتين: المسرح الشعبي وفرقة المسرح الفني الحديث من الرواد والشباب المتحمس لكل جديد نافع في درب الحركة المسرحية.
وهكذا وقفت امام مخرج جديد شاب جاء محملاً بمدرسة برشت العظيمة هو (عوني كرومي) ولكن ليس مشاهداً بل ممثلاً ممتلئاً بتصوير واضح وحماسة كبيرة لهذا الكاتب الكبير فكيف يتم التعامل بيننا من جهة وأنا مسؤول عن فرقتنا- المسرح الحديث- وهي تتبنى مع شقيقتها- فرقة المسرح الشعبي- تقديم هذه المسرحية المهمة؟
فكانت أمامي ومع مجموعة من خيرة فناني المسرح عندنا تجربة غنية رائدة اولاً واكتشاف لي لمخرج على صعيد التطبيق الواعي والمبدع الذي يجب ان يتحقق ثانياً.
ورحت امثل واراقب كل مجريات (العمل) الذي تولاه هذا المخرج الذي وضعت فيه املاً كبيراً للعطاء المثقف وبالذات أعجبت به سلوكاً وتصرفاً وحماسة كبيرة للعمل الذي يكون مسؤولاً عنه او الذي يشارك فيه. وهو ومن خلال مراقبتي له، لا سيما بعد البدء المباشر بإخراج مسرحية "الإنسان الطيب"، اكتشفت انه بذات السلوك الذي عرفته فيه خارج العمل المباشر- هو هنا المخرج أي سيد العمل وبعض المخرجين حين يتولون القيادة المسرحية يتحولون الى النقيض في الطباع والسيطرة وربما فرض الرأي الواحد.
كنت أخشى ذلك لا سيما العاملون في المسرحية يتباينون في عمق المعرفة اولاً وبالتجربة الطويلة وبالرؤية المسبقة للعمل المسرحي الذي هم فيه ثانياً وكنت أخشى ان تحدث اختلافات قد تجرنا الى ما لا نريد.
الذي اكتشفته ان عوني ظل على حميميته وسلوكه المشحون بأدب جم واحترام لفنانين كبار وبعضهم أساتذة له. يكفي ان اذكر مثلا سامي عبد الحميد، جعفر السعدي وأنا وخليل شوقي وغيرهم.
عوني.. كان يحمل مسبقاً التقدير والاحترام ووضع أفراد المجموعة كلهم بمواقعهم مع الحفاظ على مكانته الجديدة بالحساب والتقدير المسبق واللاحق والمتأتي من الاحتكاك خلال البروفات الساخنة والحلوة.. والتي ظل عوني حريصاً على اغنائهم بها عبر كل لحظات العمل.!
كان يمارس العمل بالسهل الممتنع ان جاز لي التعبير مع غالبية العاملين معه.. وكان في مواقف قليلة يحسم الامر بحماسة واثقة مما يريد لكنه بعيد حين يكسر كل بعد بينه وبين ذاك الطرف الذي قد يزعل ان لم يكن مقتنعاً بما طلب منه.
كنت ادري صعوبة ان تحافظ على صيغة مسرحية قد تتبدد للبعض غربته لكنها في مواقع اخرى تبدو وكأنها خرجت من صيغتها تلك لتكون واقعاً حياتياً محضاً ولكن لفترات قصيرة جداً.
كان عوني يدري كيف يوظف طريقته ومتى، وصار عند البعض حالة مستوعبة وجديدة بالتبني بل كانت عندي حالة اضعها في مختبر التطوير الدائم.
لقد أفادني استعمال الموسيقى الحية المرافقة في العرض فحولت ادائي الى عرض إيقاعي يتسم بالرشاقة وخفة الحركة وتطويرها لما أنا فيه من موقف حتى صارت عندي ظاهرة دفعت عوني الى تطويرها بعد ان أعجبته مبادرتي لاسيما قد حدثت بعض المفارقات لم تكن في الحسبان لكن عوني تناولها ليضعها في موقعها المناسب من خلال تجارب مشتركة.
مثلاً في البدء كنا حريصين على ان يكون كل ممثل او ممثلة في مكانها المناسب من الدور مع حساب أمور كثيرة تؤهله لهذا الموقع ولكن من أصعب الشخصيات شخصية الممثلة لدور الإنسان الطيب حيث تمثل دورا مزدوجاً مرة سيدة وأخرى.. الرجل الأخر لابد من قدرة للعب هاتين الشخصيتين تناقض المشاعر والمواقف.
مرت بنا أسماء عدة وحاولت بقناعة عرض اسم واحدة من ممثلاتنا الشابات والححت على عوني بضرورة ان تكون هذه الممثلة هي التي تؤدي الدور وفجأة صرخ عوني وكأنه يبكي كالطفل رافضاً لطلبنا. استغربت من موقفه وأوشكت ان اتصرف تصرفاً لا أرضاه لنفسي لكنني اكتشفت ان هناك امراً لا يمكن ان يتجاوزه عوني فيرفض او يقبل بطلبنا ثم جاءني بعد حين معتذراً لتكون ممثلة اخرى لم يسبق لها ان وقفت على مسرح جماهيري يضم جمهوراً بهذا العدد والعدة لكنها كانت ممثلة موهوبة ومبدعة هي اثمار خضر لكن هذه الممثلة وفي يوم الافتتاح جاءتني راكضة لاهثة وقد شحب وجهها و إصفّر وقالت لي أستاذ انا لا اقدر ان امثل الدور لقد نسيت كل الحوار انا خائفة وليس بذاكرتي كلمة واحدة اقولها وبكت.. جاء عوني متسائلاً ماذا بها.
لم اشرح له الأمر تفصيلاً لكنني قلت له اترك الأمر لي:
وجئت الى أثمار اقول لها:
اثمار انا ايضاً نسيت الحوار الذي اقوله لكنني احفظ حوارك انت معي:
نظرت الي باستغراب (كيف) قلت اول مشهد في المسرحية هو بيني وبينك ساتقدم اليك وأسألك لا تقولي لي شيئاً ان كنت نسيت بل انا الذي اقول للزائرين انها تقول كذا وكذا وينتهي الأمر نظرت الي والدموع تتساقط من عينيها وبوداعة ومحبة أدخلتها الى المكان الذي هي فيه وحينما بدأت المسرحية وجئت إليها موجهاً سؤالي ردت علي بكل وضوح وبكل جرأة وسار المشهد على أحسن ما يرام وكذلك المشاهد الأخرى.
أحداث ووقائع تبدو عابرة وغير مهمة بعد تجاوزها لكنها حين حدثت كان بالامكان ان تربك العمل كله وقد تحرف الصيغة الإخراجية عن مسارها لكن حسن التصرف والثقة العالية التي كان يتمتع بها عوني وقدرته على لمّ التفاصيل والسيطرة عليها وتوجيهها لما يجب ان تكون كما يراها ويريدها جعلت المسرحية اخراجاً وعرضاً اكتمالاً في الجو العام الذي هي فيه متماسكة ومحبوكة حتى في تفادي مستويات الأداء عند بعض الممثلين.
حادثة طريفة وقعت لي منذ اليوم الأول لعرض المسرحية- الافتتاح- فبعد ان أدخلت أثمار الى مكانها - أي - بيتها وعدت الى الكواليس انتظر لحظات دخولي الى المسرح وضعت قدمي كأول خطوة وانا اردد بصوت عال “يا جماعة بهلولاية الكلش هواية بعيدة اني سقا واسمي سقا وشغلي سقا”.
في هذه اللحظة بالذات شعرت بألم حاد وقاس في ساقي اليمنى وكأن تمزقاً عميقاً في عضلاتها قد حصل وآلاما حادة أوقفتني في مكاني خلال لحظات، وقفت على رجل واحدة وبدأت أقفز واردد الحوار وكأنني بساق واحدة كابتا الألم القاسي في داخلي وكأنني -سقا- بساق واحدة كما قلت وحتى نهاية المشهد حيث عدت الى داخل الكواليس اخنق آلاما تدعوني الى صراخ مر ومؤلم.
التفوا حولي وكانت (وسن) ابنتي أول من لاحظ الحالة فراحت وهي تلميذة طب تمسك بمكان الألم عساها تفعل شيئاً لتخفيف الأذى، في هذه اللحظات دخل المخرج عوني كرومي مبتسماً مسروراً ليقول لي.. لماذا لم تخبرني بأنك ستمثل بساق واحدة شيء جميل..الشخصية كانت حلوة هكذا..
نظرت إليه وأنا أوشك ان اصرخ به وحين عرف السبب راح بحماسته المعروفة يناشد من حولي الى الإسراع في علاجي بأسرع وقت وان أبقى حتى بعد ان يزول الألم بنفس الأداء الذي ظهرت به حين حدث التمزق في ساقي دون ان اعرف السبب المباشر لذلك وبقينا نردد ضاحكين: صابوني بالعين.
قام فاروق محمد وهو كاتب مسرحي مبدع بكتابة الحوار او بتحويله، بكلمة أدق من الترجمة المسرحية والتي كانت طبعاً بالفصحى الى العامية المقبولة والمناسبة للشخصيات والمتناسبة مع الطرح الذي كتبت فيه اصلاً.
وحين بدأنا التمارين ولا سيما بالنسبة للسقا وانا كما قلت وظفت حركتي على ايقاع الموسيقى التي كانت ترافقني مباشرة عزفاً على البيانو من قبل رائد جورج، أحسست ان الحوار يبدو ثقيلاً غير منسجم مع الإيقاع الذي انا فيه بإبدال أجزاء منه على ايقاع الموسيقى، فسرّ عوني بذلك.. آنذاك استأذنته في ان أحول هذا الحوار برمته وبنفس مضمونه وفكرته الى شعر سلس وبسيط او الى مقاطع مقفاة احياناً تقترب من الصيغة الأصل كما كتبها برشت بالقدر الممكن فرحب عوني مسروراً بالفكرة ونفذت ما أردت وما أراد لتتميز تلك المشاهد بخصوصية محببة للنفس بالنسبة لي وبالنسبة للمشاهد الذي تؤنسه حالة كهذه بغرابتها وطرافتها في ان واحد.
كان عوني كرومي، وبقي دائماً، يعقد صداقات مع من يعمل معهم ومع من يتعرف عليهم ويحاول توسيع دائرة التعارف بمناسبات كثيرة لاسيما بعد ان تخطى مرحلة الشباب اليافعة وخاض التجارب المسرحية الكثيرة وكانت واحدة منها تجربة "الإنسان الطيب" حيث عرفته من خلالها مخرجاً يتسم بالذكاء ويبحث عن الأصالة في الإبداع مع معرفة شاملة لعلم وفن المسرح ولاسيما مسرح برشت الذي كان مدرسته الرصينة التي تعلمها ومارسها نظرية وتطبيقاً.
عوني.. بعد تلك التجربة بقيت أتابعه باعتزاز عبر سنوات ليست قليلة وهو يتنقل من بلد لآخر.. لألتقى به في مهرجانات ومؤتمرات كثيرة حتى لا يكاد مؤتمر او مهرجان يخلو منه وهو ذاك الإنسان والفنان المبتسم والضاحك رغم الألم، يصافح هذا ويسلم على تلك ليجدد صداقات كانت.. ويفتح صداقات جديدة أخرى.. من اجل ان يتسع به عالم المسرح الذي صار فيه رمزاً من رموزه الشريفة والأمينة.
مات الانسان..!
اثنان حققا لي حلمين كانا اقرب الى (الخيال المسرحي) الذي يخطر على بال الفنان حين يتمثل -بل ويؤمن - ان المسرح حلم كبير.
إبراهيم جلال - حين اخرج "بونتولا وتابعه ماتي"- البيك والسابق- للفرقة القومية. لأمثّل انا دور- بونتولا - عام 1974- عوني كرومي- حين اخرج مسرحية (الإنسان الطيب في ستسوان) لفرقتي (المسرح الشعبي والمسرح الفني الحديث) عام 1985 لأمثل فيها دور (السقا) والمسرحيتان لبرتولد برشت.
وان هاتين المسرحيتين، او الدورين، فيهما من الأدوار والشخصيات المسرحية، كانا كما أشرت ارغب ان امثلهما في مسرحنا العراقي، غادرنا هذان الفنانان الى دار الخلود- كما نقول صادقين.
إبراهيم جلال فارقنا عام 1991 اما عوني كرومي فقد مات يوم السبت 27/مايس 2006.
البارحة مات الإنسان الطيب!!
البارحة تساقطت أحلام كبيرة ما زالت تعيش في أعماق عوني كانت لا تغادره ابداً، بل تزداد عنده عدداً وعدة كلما إلتقيته او رأيته.
البارحة، عادت صورته امامي كلما حضرت مهرجاناً او مؤتمراً او لقاءً اراه أمامي يهرع الي فاتحاً ذراعيه ليحتضنني ونتبادل عطر الأشواق والمحبة والاعتزاز، ويسألني (اشلون صحتك؟)، وأنا اسأله عن صحته بحماسة تصل حد اللوم احياناً في ان يقلل من نشاطه وانتقالاته ومشاركاته الجادة، والباسلة.
كي يرسم لما يجب ان يكون مدافعاً عن الحق والحقيقة والصدق في ان يظل المسرح أينما كان رحلة سعيدة وجديدة.. وخلاقة من اجل الإنسان والروح النقية في داخله والجمال الذي يتألق به الفن والفنان، وكل مسارب الحياة.
البارحة، الفراغ المخيف بدأ يتساقط أمامي صوراً كانت متحركة نشطة ملأى بالحياة أراها اليوم قد توقفت أمامي جامدة بملاكها الساكن، المتوقف، غابت الروح فيها فبدت امامي فراغاً لا يشغله ولا يملأه الا ذاك الناطق وهو ساكت والمتوثب وهو ساكن والسعيد وهو يبكي مرارة عن كل الأشياء والقيم التي تغيرت في وطنه العراق، سعيد لأنه يؤمن بحرارة ويقين، ان كل ما كان خيراً واملاً وبشائر سيعود.
هذه هي الحتمية التي تسعده.
وتنطلق أحلامه ويتحدث عنها وبها ويناقش المتشائم بروح نابعة من ثقته الكبيرة التي تعلمها من المسرح وعلمها للمسرحيين الآتين بعده فهو قد صار.. مدرسة..،تنقل من مكان الى مكان.
يزرع نبتة هنا، ويغرس زهرة هناك، وهو في كل مرة يشعر انه برغم التواصل المبدع، يبدأ من جديد.
البارحة أحسست وللمرة الاولى ان ما يقوله، او ما قاله لي آخر مرة في جلسة مبكرة في صالة الفندق على مائدة الإفطار ،في الشارقة (الملتقى الثالث للمسرح العربي) 2005/12/22، ان ما قاله لي لن يتحقق ،فقد أعطاني عهداً انه سيحققه مادمت أنا حياً وهو على قيد الحياة.
كان الأخير من أحلامي ولأقل بوضوح اكثر، ان ثلاث مسرحيات لبرشت تمنيت ان امثل فيها أدواراً احببتها حد العشق والإيمان، بونتولا وقد حققها لي- إبراهيم جلال- والسقا- في الإنسان الطيب وقد حققها- كما ذكرت- عوني كرومي - وشخصية (ارتورو اوي) لبرشت ايضاً، مثل الدور قبل سنوات طويلة (اكهارد شال)حيث يقدم فيها شخصية (هتلر) بأداء حركي نادر وفهم عميق قلما شاهدته، واسم المسرحية صعود ارتورواوي- رويت له كيف كنت اتمنى وانا في سنوات شبابي، ان امثل الدور، قال- انا أحققه لك ولا تسألني كيف، ومتى!.
نظرت اليه وانا ارقب عيونه المتعبة، وهو يقول.
-(آه لو كنت أستطيع تدخين سيكارة بعد هذا الفطور الشهي). لتحدثت لك، كيف استطيع تحقيق حلمك هذا. ضحكت وشتمت السيكارة ومن يدخنها، وقلت له: دعنا من السكائر وحدثني عن صحتك الان، وأنا أراك بهذا النشاط المتواصل المتعب، وليتك تركن الى الراحة ولا تبالغ بحضورك هذه الندوات والمؤتمرات. سكت قليلاً، وأراد ان يقول شيئاً لكنه عاد الى السكوت. قلت له- سمعت ما أردت ان تقول. قال : شنو؟.
قلت له: قلت، ما اكدر! الا ان أتواصل بالنشاط الذي خلقت له ..! تمام؟.
قال- صح!
قبلته وخرجنا من الفندق لنواصل، ولنجتمع من اجل مشروع مقبل لتأسيس (منتدى المسرحيين العرب) الدائم وموقعه في الشارقة، واتفقنا على عدد الأعضاء المؤسسين ليجتمعوا في اقرب وقت، حسب ظروفهم، قال انا مستعد: وافترقنا!!.
البارحة- تكومت مواقف وصور وحالات لا ادري ما البديل لها ان اردت استذكار او استعادة الانموذج النادر للمبدع المسرحي والمثقف الذي لا يكف عن ملاحقة الجديد والغريب المطور لكل حالات الجمال والصدق معاً وللعمق الذي لا تستطيع الا ان تتابعه حين تشاهد كل عرض يتقدم به، او يقدمه عوني كرومي.
حتى يتعبك وأنت غارق بفرح من اجل ذاك التعب، بل انه حين يناقشك او يخالفك الرأي لا تستطيع الا ان تدرك ان الذي يقوم بهذا التصرف، هو صديق لك، وحميم في علاقته معك، انه يبدو احياناً طفلاً صغيراً في طيبته وتعامله وحكيماً لا تغيب عنه تجارب الدنيا على سعتها وتنوعها، هكذا صار في المكان الذي هو فيه دالة يتأمله الحاضرون ليقتبسوا منه ما جد واستجد في سياق الاكتشاف المتواصل الذي لا يكتفي منه (عوني) بحثاً ومتابعة.
البارحة استعدت الكثير الكثير مما كان عند ذاك الشاب وهو يجلس بجانبي يوم وصوله الى برلين، لنشاهد مسرحية (لوكولس) في مسرح لبرشت، محاولاً معرفة كل شيء مرة واحدة، كان ذاك عام 1970.
وأتذكر “الكرسي الهزاز” واسأله اخر مرة ونحن - كما ذكرت - في فطور عمل صباحي بالشارقة عن مصير مسرحيتي (المفتاح) حيث اتفق مع فرقة زنجية في برلين لتقدمها مسرحية موسيقية بدأوا بإعدادها وهو يؤكد لي انها ستظهر ذات يوم فالحياة لن تتوقف حتى في اصعب الظروف وأتذكر، وأتذكر.
البارحة سكت عوني كرومي المسرحي العراقي والعربي النادر الذي يقف بكل ثقة وشموخ بمصاف مخرجين عالميين يشار إليهم بإعجاب وتقدير.
عوني كرومي، فارق الحياة وهو واحد من هؤلاء الكبار.
وداعاً أيها (الإنسان الطيب).
وداعاً يا( ارتورو اوي).
وشكراً اخر كتاب قدمته لي (الخطاب المسرحي) دراسات عن المسرح والجمهور والضحك، وتصر في كلمة الإهداء لي على (الأمل والتواصل..!) وأنت تقدم الكتاب الى زوجتك الرائعة وأولادك.
ما أروعك..! يا عوني وما أقسى موتك علينا وأنت العون المبدع لكل المسرحيين المخلصين في زمن ضاع فيه الوفاء والإخلاص الصادق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع


.. هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية




.. إعلام إيراني يناقض الرواية العراقية حيال -قاعدة كالسو- وهجما