الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نجوتُ وحدي .. لأحدِّثِك

ماجدولين الرفاعي

2005 / 5 / 18
الادب والفن


دمشق ...
أي حنين يجذبني إليها .. تلك المدينة الساحرة .
دمشق ... في نيسان ياه !!! عذوبة تخترق ذاكرتي .
كيف أحدثك .. عن تلك المدينة وأي ذاكرة متعبة مثقلة بهموم تاريخ طويل من الإنكسارت والتشرد ، يمكنها التحدث .

سوف أحدثك ولكن عن بلفاست ...
الربيع هنا في شوارع بلفاست ، يوزع أزهار شجر الكرز الياباني .
كان الربيع في دمشق .. يوزع الورد الجوري والفل الرازقي .
كان أبي يزرعهما في حديقة بيتنا .
وكان أيضا يأتي بالياسمين لزنزانتي في قاطع الإعدام .

كانت رائحة الياسمين تبقى لأيام في الزنزانة حتى بعد أن تذبل الزهور وأرميها بأسف .. ببساطة ، ذاكرتي ما زالت معطرة بالياسمين وإن كان يذكرني بحبي لدمشق ، هذا الحب الماسوشي الشرقي الأصيل ، الحب من طرف واحد ولا أدري لماذا لم تقبل بي دمشق حيبياً ولماذا عذبتني .
اشتقتك كثيراً أيها الياسمين العراتلي ، أنا الطفل الذي يسكن داخلي ولا يملك من الزاد إلا الحب أولاً وأخيراً .


ما زلت أنتظرك كل صباح لتطلي عليَّ بالمحبة والياسمين الدمشقي مع القهوة .. مواسم الحب والفرح مقدسة وأبدية الحضور أمَّا الألم وكما تعلمين فصفحة عابرة وغريبة لا تحمل عنا سوى بصمات البؤساء المعوقين نفسياً ممن التقيانهم صدفة وتحملناهم شفقة أو اضطراراً .
الحب يبقى هو السر ولو حصدنا الخيبة بعد الخيبة بحثاً عن حب العمر .

وإذا كان الخبث ليس الكلمة الدقيقة لوصفي فهي ليست إطلاقاً الطيبة وإلا ما الذي يفسر الخيبة والمرارة التي شعر بها كل من حاول من العارفين بالأمور وخصوصا المتنفذين منهم لإرشادي للطريق الأصوب .

سوف أحدثك الآن عن البصرة ...
في مديرية أمن البصرة أثناء حفلة احتفاء وتكريم خاصة ، كنتُ قد عدتُ لوعيي للتو بعد إغماءة بسيطة ...
سمعت الضابط يقول :
متى أخو القحبة هذا يعترف ؟
تعبنا من هذا .
ثالث يوم لنا هنا .
متى نذهب لبيوتنا لنرى نساءنا وأطفالنا مثل بقية العالم .
لايمكن أن تتصوري كم كنت أشعر بالابتهاج ، من معرفة الوضع الذي يتألم منه الضابط .. لقد أنساني ذلك كل ما يؤلمني .
ليست هذه حادثة منفردة ، وعموماً حينما أكون مرتاحاً ويراقبني بعض هؤلاء بغضب ، تتحول الراحة إلى بهجة طاغية والفارق بيني وبين الآخرين ، هو أنني لم أكن بحاجة للطيبة .
جربي إسألي أي عراقي عن أهل البصرة سيقول " شو طيبين"!! , خلاص سُمعتنا ، هيك, شو ما كنا .

سوف أحدثك ...
أنني حُكمت بالإعدام عام الف وتسعمائة وخمس وسبعون لانتمائي لحزب شيوعي يمارس الكفاح المسلح لإسقاط نظام رئيس الجمهورية مع أن الرئيس كان يؤكد ويحذر كل من يلعب بذيله بأنه سيقص هذا الذيل رغم أن الحزب الشيوعي الآخر كان حليفاً جبهوياً مع حزب الرئيس ومشاركاً بوزيرين ونصف في الحكومة .
وبعد أشهر من الإنتظار في قاطع الإعدام جاء دورنا .
إقتادونا الى بناية المشنقة لتنفيذ الحكم و كان بعض رفاقنا الخبثاء حينما يُخرجونا للشمس أحياناً بالقرب من بناية المشنقة يغنون لها " نحنا والقمر جيران " ! اه لوسمعتي هتافاتنا و شاهدتي شجاعتنا , فاتتك والله !! لكن ينبغي الإعتراف بأنهم قاموا بالواجب وتركوا أهلنا يقابلوننا لساعات ويغادرون إلى انتظار إستلام جثثنا في الطب العدلي , كما حضر رجل دين ورجانا بمنتهى اللطف نطقَ الشهادتين بدون أن يفلح المسكين بإقناع أي أحد ، لقد خيبنا بخبثنا أمله لإحراز الحسنات , فأنا على سبيل المثال كنت أتوقع بعد أن تنزاح اللوحة التي سيضعونها تحت قدمي وينقطع الحبل الشوكي بثقل جسمي الذي سيضغط حبلَ المشنقة بشدة , لن أشعر بألم أو لا أو لمجرد ثوانٍ قليلة جداً وثانياً سأنتقل من الحياة الى العدم أي كما لو أني سأقفز عبر النافذة للخارج لكن لفضاءٍ واسع مظلم لا حدود له لأظل أسبح فيه للأبد .

دعيني أحدثك عن قاطع الإعدام ...
كنا سبعة عشر وكان معنا ثلاثة من الحزب الديمقراطي الكردستاني , وحين دقت الساعة السابعة حان موعد التنفيذ , بدأوا بالأكراد لأن زنازينهم في بناية المشنقة كانت الأقرب للمشنقة ذاتها وبعد أن أعدموهم الواحدَ بعد الآخر جاء دور أحد رفاقنا .
هتف الأخ وودعنا ورفض مرة أخرى تلاوة الشهادتين أو لبس قناع الرأس وتهيئنا لسماع الصوت الهائل حينما تسحب اللوحة من تحت قدميه ويتعلق بالحبل ... لكن ... ياااااااااااااااااااااه .

لقد طالت فترة الإنتظار على غير العادة ... وسمعنا صوتَ أحد ضباط الشرطة ملعلعاً بـ .. سيدي .. نعم .
نعم .. سيدي .. وفجأة أعادوا رفيقنا من المشنقة و فتحوا الزنازين وأعادونا الى قاطع الإعدام مرة آخرى .
هل تعلمين ما حدث ؟
ضباط الشرطة إستلموا المكالمة من وزارة العمل والشؤون الإجتماعية التي تدير السجون عبر راديو سيارة النجدة لأن خطوط التلفون كانت معطلة والمكالمة كانت لتنفيذ تلكس أرسله صدام من مدريد , حيث كان هناك يُجري مباحثات مع الجنرال فرانكو لاستيراد السلاح على عجل من إسبانيا حليفة أمريكا لأن شاه إيران ألقى بكل ثقله لمساعدة الحركة الكردية المسلحة وكان صدام مهتماً بإتمام صفقة شراء السلاح بنجاح ، لكن مدريد عمَّتها مظاهرات كبيرة شهَّرت به كسفاح وكتبت الصحافة الإسبانية عن الإعدامات الجارية وقضية مجموعتنا كانت من بين القضايا الأكثر شهرة آنذاك , لذلك تكرم صدام وأرسل تلكس لتغيير حكم الإعدام الصادر بحقنا الى المؤبد .. نعم ، لقد وفر لي التلكس فرصة الحديث لكِ الآن .

قد تظني أن ما حدث من مصادفات سخرية لا يقبلها العقل , لكن هذا ما حصل لي , وأنا لا يهمني أن يقبله العقل أو لا ، المهم أنني لم أضع في فضاءٍ واسع مظلم لا أستطيع أن التقي فيه بمن أحبهم وأحبوني .

دعيني أخبرك ...
أريد أن أمحو من ذاكرتي أنني كنت هناك يوما ولكن الجرح مازال ينزف وإلا ماكتبت جملة واحدة عن الإعدام والتعذيب وخضتُ معكِ بذكريات و مشاعر يسعى الأصحاءُ نفسياً الى نسيانها , الى طمرها بهوة سحيقة وإخفاء أثرها , جربي أسألي من تعرضت لإغتصاب عن التفاصيل وانتظري لو استطاعت أن تنطق بغير دموع .

سوف أحدثك ...
أنا أقرأ كل صباح أخبار التفجيرات والخطف والقتل وقطع الرؤوس ، لا أعرف لماذا لا أستطيع أن أمسك نفسي عن تعاطى كل مسببات الإكتئاب مع كرهي للعنف كرها مطلقا . لربما كان دانتي صادقاً بقوله إن باب الجحيم مكتوب عليه " أيها الداخلون لا أمل لكم بالخروج "
الحكاية تبدأ حينما يتألم ضميرك لظلم الآخرين وتستنكرينه بقلبك ثم تتقدمي خطوة للإحتجاج بالقول أو الفعل لتصبحي أنتِ نفسك ضحية جديدة وبدلاً من رفع الظلم عن الآخرين يشتد الظلم ويزداد عدد المظلومين .














التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بخاطر في التمثيل ومابخافش من أي دور سهر الصايغ عارفة إنه سلا


.. كل الزوايا - مذكرات فريدة فهمي.. الفنانة القديرة تسترجع ذكري




.. احلم | لقاء مع دينا هشام خبيبرة تجميل وخدع سينمائية | الخميس


.. مهرجان كان - هالة القوصي عن فيلم -شرق 12- المشارك في فعالية




.. غالية شاكر تكشف أسرار مسيرتها الفنية في بودكاست أخبار الآن!