الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وتريات الحب والحرب : رواية الفصل24

حبيب هنا

2013 / 9 / 6
الادب والفن


- 24 -
إنه لأمر غريب ذو دلالات غامضة أن ينتقل خليل المتيم بتالا إلى مدينة العريش هكذا فجأة دون إشعارها بذلك، ولا يمكن تفسير هذا الانتقال الفجائي وهو على أبواب الزواج إلا أن يكون اعتبر العريش وطنه الروحي بسبب التعرف على تالا هناك . ولأن الحرب كانت كفيلة بتشويش أي اتصال هاتفي، وجد صعوبة في الوصول إلى تالا في وقت كان هو فيه أكثر قلقاً عليها منها عليه.
ولم تكن تالا بدورها تعرف ما هو مصير خليل الذي جعلها تعيش بقلق دائم بسبب الغياب غير المبرر من وجهة نظرها، وعدم الاتصال كما هي العادة صباح كل يوم، لدرجة كاد يصيب عقلها الجنون جراء هذا الأمر. ومع ذلك آثرت أن تبقى الزفاف في موعده مهما كان السبب حتى تنجلي الأمور وترى إن كان هناك ما يدفع للتأجيل .علماً بأنها كانت قدر على نار قد وصل درجة الغليان وأخذ بالتحول إلى شيء آخر .
لقد وصلت بها الظنون حدود الشك بأن ثمة واحدة أخرى في حياته ربما يكون وعدها ذات يوم بالزواج، غير أنها تداركت الأمر سريعاً حينما راودتها فكرة أن الظنون بخطيبها على هذا النحو هو في محصلته النهائية خيانة لا مبرر لها من قبلها طالما لم تعرف عنه أي شيء حتى اللحظة .
وتذكرت فجأة، كيف استسلمت للزهو الطفولي في آخر لقاء كان بينهما، وتساءلت : هل كان يعلم أن هذا اللقاء هو الأخير؟
لحظة انتابتها السعادة، ثم في اللحظة التي تلتها تقافزت التساؤلات إلى عقلها غير القابل للترويض وانتظار جلاء الأمور ووضوحها مَّا هي الحكمة من وراء الرغبة في الزواج؟ سؤال لم تجرؤ أي فتاة على مناقشته أو البحث في معناه، بما يحول دون التفكير فيه أو مجرد إخضاعه للتمعن في ذهن فتاة تقف على أعتاب بواكير صباها، ومع ذلك، مضت في التساؤل: أيجوز أن تكون الرغبة في ممارسة الجنس بطريقة مشروعة وبشفاعة عقد القران وشهادة الشهود باعتبارهما جواز المرور في مجتمع محكوم بالذكورية الخالصة دون الاعتراض على أي تصرف من تصرفاتها طالما اكتمل نصف دينها !
ربما نعم، وربما لا !
على أية حال، عندما تسعى الفتاة للزواج أو تقبل به دون معرفة الهدف الذي ينبغي الوصول إليه من وراء هذا الأمر كمن يرمي حجراً في بئر أو هوة سحيقة من الصعوبة استعادته. ولو سألت نفسها بوضوح وصراحة: ما هو الهدف من الزواج ؟ لعجزت عن الإجابة بكل تأكيد، أو ربما قالت كما قال غسان كنفاني على لسان أبطاله: "من أجل إنجاب الأطفال وتربيتهم وتزويجهم والفرح بأطفالهم وزواجهم الخ...." الأمر الذي يؤكد والحال هذه، أن كثيراً من تصرفاتنا محكومة بأهداف مجهولة الهوية ولا يمكننا الوصول إلى معرفتها والحكمة منها مهما أعيانا البحث في التفاصيل والغيبيات..
وهكذا، كان كل من تالا وخليل يعالج الظرف الطارئ على طريقته كي يفتح أبواباً داخل روحه حتى تستطيع التعايش مع الآخرين الذين يحيطون به. فمثلاً، كانت تالا بين نشرة أخبار وأخرى تستمع إلى بعض الأغاني التي تهيم بها إلى حدود الطيران والتحليق في الهواء متخلصة من الهموم والتفكير المستمر بخليل الذي مضى ولم يعد ولا تعرف عنه شيئاً في حين كان خليل يستمع عبر هاتفه المحمول إلى الموسيقى الهادئة التي تدغدغ الحواس وتحلق به بعيداً نحو غزة التي ينتظر فتح أبوابها والعودة إليها بفارغ الصبر ، في وقت لا ينقطع فيه عن متابعة أخبار الدمار والقتل ومحاولة الاتصال بتالا دون جدوى ، وآملاً أن تأتي اللحظة التي يستمتعا بالموسيقى سوية بعد أن بات مولعاً بها أكثر من أي شيء آخر كأنها تعويضاً مؤقتاً عن الابتعاد عن حبيبة الروح .
وكان بين الحين والآخر يخرج محفظته من جيب البنطال وينظر لصورة تالا التي احتفظ بها دون سابق تخطيط ، كما لو أنها تقف أمامه وتنظر إليه ، غير أنه كان يراها على غير ما كان عهده بها في الوقت الذي يقول فيه : إنني أعرف هذه النظرة منذ زمن ، فهي لا تعبر عن امتعاض من استمرار النظر إليها بهذه الطريقة ، ولم تكن تطالبه بجواب لماذا هي بالذات من ينظر إليها هكذا ، بل كان يجول فيها سؤال محير صعب التعرف عليه . سؤال كثف الزمن وجعل من تلك القبلة على شاطئ البحر نشيداً للذكريات المشتركة ولعاطفة نمت منذ اللحظة الأولى وقادت إلى عقد القران . عاطفة ربما تنهار كباقي البيوت التي تتساقط جدرانها بسبب الحرب إذا ما استمرت المعابر مغلقة وشكلت سداً صعب الاجتياز قبل فوات الأوان .
ذلك أن موعد الزفاف يقترب كل يوم كأن به يحاول إغلاق الستارة على الفصل الأخير من سرير الزوجية ، في الوقت الذي لم يعد يعرف متى وكيف يمكنه الوصول إلى غزة قبل نفاد الوقت ؟
لقد أرهقته فكرة عدم قدرته على فعل شيء إزاء العودة إلى غزة ، لان السلطات المصرية لا تسمح بدخول معبر رفح البري جراء الحرب وإقفال الحدود بشكل كامل أمام حركة المرور . وغدا خياره الوحيد البقاء في الفندق على أمل انتهاء الحرب وتسيير المسافرين .
في هذه الأثناء ، ما فتئ ينظر للصورة ، إلى الوجه الذي رغم الغياب ، يتمتع بصفاء أخرس لا يقوى على قول كلمة مواساة واحدة يعيد إليه الروح الهاربة .
وكان ينزل إلى مطعم الفندق لتناول الغداء مملوءاً بالحزن ، الذي يدفعه للتفكير فيها أكثر مما يتناول من طعام ، يستعيد الأيام التي أمضاها برفقتها بدءاً من الفترة التي أمضياها سويا في العريش وصولاً إلى اللحظة التي غادر فيها غزة قبل الحرب بساعات . وكان اليأس من إمكانية العودة سريعاً يتضاعف ، مما يسكنه المزيد من الكآبة. إنها المرة الأولى التي يمر بتجربة من هذا النوع مذ بلغ الرشد .
يدفع ثمن الغداء ثم يخرج في مشهد متكرر . يتفقد الشوارع التي كانا قد مرا بها عند لقائهم ، في الوقت الذي كانت الكآبة تتسلق روحه من وراء سحب دخان الحرب التي تغطي أجواء غزة فتحول دونه ومعرفة ماذا حدث للأهل والأحبة !
وأما تالا التي حملت لها الحرب منذ بدايتها رسالتين غير سارتين ، عمدت إلى الصمت كي تحوله إلى لغز من شأنه فتح الباب على الاحتمالات اللانهائية والدخول إلى مسارات قد تفضي إلى خصوصية تهول أبسط الأمور في لحظة تتبع سياقات اليومي وتأخذه على محمل لم يكن في الحسبان في اللحظة الطارئة التي نشأ فيها ، وكانت دوماً تغمض عيناها عند رؤية المناظر البشعة كي تؤكد تنافرها مع ما يراه العقل الغربي عملاً سوياً ، حتى تفضح المضمون المحسوس للحرب وفواجعها والتي تؤكد الانحياز الكامل للمحتل وما يقترفه من جرائم إنسانية بحق شعب أعزل إلا من الإصرار على نيل حقوقه مهما كانت جبروت الدول الداعمة للقتل والبطش وحرمان الأطفال من شروط الحياة .
من هنا ، جاء المعنى الواضح للغياب وعدم الاتصال الذي يكتنفه الغموض ويجعل الأمر أكثر إرباكا وأي تفسير له سيكون غير موضوعي بكفالة وجود الاحتمالات الهائلة له ، وبالتالي ، كان عزائهما الوحيد أنهما مازالا في سن الشباب وبإمكانهما بناء الحياة الزوجية تبعاً لأنغام الحياة نفسها وبالطريقة التي يصبوان إلى بنائها على قدم المساواة بعد أن يضعا حداً لاحتمالات الغياب التي ترهقهما إلى ما فوق قدرة تحمل الإنسان ، ومع ذلك ، كان ينبغي عليهما التصرف بطريقة لائقة ومناسبة حيال الظرف الذي فرض عليهما بعيداً عن العصبية وعدم ضبط السلوك .
بهذا المعنى ، يجب أن نتفهم كيف أن كلاهما يسيران بطريقة مفصلة نحو الهاوية التي لا قرار لها،غير أن الصدفة ، ربما إذا ما تجلت كضرورة يمكنها، فقط، إبعادهما عن الانزلاق فيها !
على أية حال ، رغم كل المعاناة التي تعرضت لها تالا ، إلا أنها استمرت تقول : رغم كل البشاعة والفظاعة التي تحملها الحرب من قتل ودمار ومصادرة الاستقرار النفسي ، إلا أنه كان فيها ما يفتنني ، وهو قدرة الناس على التعايش معها ، على مواجهة الخطر بشجاعة تصل حدود الموت وهم يرددون بثقة : إن المصير الإنساني سيكون جميلاً ذات يوم !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب


.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا




.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم