الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المبدعة العربية واشتراطات الواقع

بشرى البستاني

2013 / 9 / 7
الادب والفن



المبدعة العربية واشتراطات الواقع
أ.د. بشرى البستاني


إن الواقع العربي والثقافي منه بشكل خاص ما يزال يحاصر حياة المرأة العربية بقيوده وحدوده المرسومة . فالواقع المعرفي عموما لا يتشكل من فراغ ، لأن الثقافة ومحمولاتها القيمية ومفاهيمها ببنيتها الفوقية وبتياراتها - الصاعدة والهابطة - وفي حالتي التأسيس والإنتاج ، هي الإفراز الحقيقي للبنى التحتية وللحراك المادي الإنتاجي الذي يرتكز عليه المجتمع كما انه ناتج عنها في آن واحد ، وإذا كانت هذه البنية التحتية استهلاكية متخلفة ، تابعة وغير منتجة فمن غير الطبيعي أن تنتج حراكا ثقافيا تقدميا ، فالديمقراطية التي تحتل مركز الصدارة في العالم اليوم والتي تشكل مشروعا شاملا ؛ ما زال الوعي بها وبالحرية محاطا في المجتمع العربي بأقسى أنواع القهر على المستويين الذاتي والجمعي وعلى مستوى الهوية الوطنية والقومية والانسانية والاستقلال وحرية الرأي والفعل ، لأنها مثل كل المشاريع المهمة بحاجة لدعائم قوية ترتكز عليها في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية والمعرفية كذلك ، لكن المرأة في هذه المنظومة البالغة التعقيد تتحمل القهر مركبا ، مرة من المجتمع وأخرى من الأسرة والرجل الذي يفرغ عليهما ردود فعل استلابه ، ولما كان الإبداع ثورة ضد الظلم لأنه وليد الحرية ، وثورة ضد التقليد والموروث المتخلف لأنه ابن المستقبل ، فإن المرأة المبدعة تحتاج لمقومات عدة وأسلحة وعي ثقافية نشطة من أجل أن تكون قادرة على مواجهة هذا القهر المركب والواقع المعقد ، ونحن نظلم الشعر والفنون باعتقادي حين نسند إليهما مهمة تفكيك عُقد هذا الواقع الذي يحتاج تغييره لفعل جهادي اقتصادي وسياسي وتخطيط حضاري ينسف البنى التحتية التي وطدتها القرون وتعهدتها قوى خارجية وداخلية من أجل إدامتها لإدامة منظومات المصلحة وكراسي الذرائع المرتبطة بالقوى الأجنبية . لكن البنى الثقافية وهي تتشكل من تلك القاعدة التحتية التي لا يمكنها الانفصال عنها ، ستظل في جدل دائم معها .

ولذلك فإن الحراك الثقافي الواعي بمنجزات الحرية وقيم الإبداع في تفعيل خياراته لابد له من تنشيط أجواء التفكيك بإشاعة روح التذوق الجمالي الحر لدى القارئ والاستجابة الابتكارية للجديد الثائر على الأطر القديمة ، وتهيئة الأجواء لتشكيل قيم جديدة تقتحم القدامة الجامدة لا لتزيحها حسب ، بل لتعمل على إزاحة كل مخلفاتها وما ينجم عن تلك المخلفات من استمرار الركود والسكونية وعلاقات القمع في المجتمع . وإذا علمنا أن هذه المحاولات محاطة أكثر الأحيان بالرفض والتصدي والنكوص والردات المتكررة كما يحدث الآن في الربيع الذي تحول لخريف عربي ، فإن المبدعة الحقة تحتاج لشجاعة مبهرة وتضحيات جمة من أجل تحقيق هذه القضية ، وهذا الأمر ليس في الوطن العربي حسب ، بل في كل أرجاء العالم ، فقد هاجرت مدام دي ستايل من وطنها المانيا الى فرنسا لرفض أجواء القهر هناك لأفكارها التي بشرت بضرورة كسر الحدود والمعايير الكلاسيكية التي باتت جامدة في عصر تجاوزها ، وتحملت نازك الملائكة قسوة النقد والنقاد وضراوة الفضاء الأدبي التقليدي وهي تبشر بالشكل الشعري الجديد ، وعانت فدوى طوقان ما عانت من الحرمان حتى من التعليم وهي تطرق أبواب الشعر في مجتمع تحكمه الذكورة الصارمة .

إن الشاعرة العربية المعاصرة وقياسا بالأجواء القسرية التي تعيشها ومجتمعها تمكنت من فتح الأبواب التي كانت موصدة على موضوعاتها الأنثوية الخاصة بها مرة ، والتي كان الشاعر يقولها نيابة عنها لصمتها وتغييبها أخرى ، كما تمكنت لحد لا بأس به من التعبير عن مشاعرها الأنثوية الخاصة وإطلاق صوتها في الأمور العامة وتدوين رأيها فنيا على كل المستويات الثورية والوطنية والإنسانية ، وقول أحاسيسها في الرجل إيجابا وسلبا وفي الوطن وقضايا الإنسان عموما ، مجربة في ذلك كل الأشكال الشعرية لكن لا تخفى حقيقة أن كل ذلك لا يكفي ،فالشعر لم يعد ذلك الغناء الذي يُطرب بايقاعاته العالية ، الشعر اليوم فن ذو حساسية خاصة وروح مرهفة تمتزج فيه المعرفة وجوهر الحضارة بالجمال ، فن يحتاج لحس نقدي ومعارف متنوعة راقية وعميقة تراثية ومعاصرة معا ، وعلوم تغذيه وذوق رفيع يجيد تنسيقه وتجارب حياتية حادة تتطلب خوض غمار الحياة بعنفوان ، وبما لا يتاح لمجمل الشاعرات العربيات لأسباب لا مجال لذكرها الآن لعلَّ في طليعتها عدم توفر الظروف الموضوعية في الأسرة والمجتمع التي تساعدها على تحقيق هذا الهدف ، وإذا كانت المبدعة الأوربية النمساوية الفائزة بجائزة نوبل للآداب الفريدة يلينيك تقول: أما المرأة فهي على الأكثر الهدف الصامت للنظرة الذكورية وليس معادلا أنثويا مكافئا ، فماذا تقول المرأة العربية ..!
إن الشاعرة العربية يعوزها الكثير من الجرأة والعلوم والمعارف والفعل والخبرة المعمقة كي تقول كل ما يجب قوله شعرا ، وقصور هذه الجرأة ليست جبنا ولا ضعفا أو انكفاء على الدوام ، لكنه في الغالب اشتراطات قسرية وموقفُ تحسّبٍ واع لما يحيط بها من سلطة ثقافة ذكورية وقيم عشائرية وقبلية ما زالت للأسف تهيمن على المجتمع يؤازرها مد التدين المؤدلج الذي حلَّ بنا مع أجندات الواقع العربي الأخير.
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم


.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في




.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء


.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق




.. -مندوب الليل-..حياة الليل في الرياض كما لم تظهر من قبل على ش