الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آراء عند الخطوط الحمراء

جاسم ألصفار
كاتب ومحلل سياسي

(Jassim Al-saffar)

2013 / 9 / 9
مواضيع وابحاث سياسية



مع ان حجر الاساس لبنية العملية السياسية في العراق وضع منذ سقوط نظام البعث عام 2003 الا ان جذورها الحقيقية تمتد الى فترة طويلة تسبق هذا التاريخ. فالأنظمة الدكتاتورية لا يمكن ان تغادر دون ان تترك بعدها ترسبات واثار تضرب في جذور المجتمع العراقي وتهدد بنيته المستقبلية.
وبالتالي فليس غريبا ان تتكون السلطة العراقية اليوم من قوى وتيارات خرجت من بطون ازمة النظام السابق. بعضها عانى من الاضطهاد والتمييز الطائفي والقومي وبعضها الاخر كان اما من تشظيات النظام الدكتاتوري السابق او من الذين وجدوا سبيلهم الى السلطة في التهويل من اخطاء وتجاوزات الفريق الاول، معتمدين الطائفية والتعصب القومي منصة انطلاق نحو كرسي الحكم.
ولم تكن التوازنات وتغيراتها بين القوى الفاعلة في السلطة والمشاركة في العملية السياسية، اساسا صالحا لبناء الدولة العراقية الحديثة التي تلبي حاجات المواطن وطموحاته. لا بل اصبحت هذه التوازنات واليات تغييرها بالطرق السلمية او العنفية هي الهدف الذي انحسر نشاط جميع القوى السياسية التي تدير دفة الحكم الى حدوده. واصبح موضوع المصالحة جزء من تلك الاليات التي يفهمها كل من الاطراف المتقاسمة للسلطة بطريقته الخاصة.
في ظل هذا الوضع القائم، تصبح اية مصالحة بمفهوم القوى والاحزاب التي تتقاسم السلطة، ليست غير اعادة ترتيب لقواعد المحاصصة الطائفية والقومية. وهي اعادة ترتيب لحين حصول تغير ما في طبيعة التوازنات السياسية للقوى المستفيدة من الشحن الطائفي والقومي.
على انه من جهة اخرى لابد من التنويه الى ان هنالك حراك اجتماعي خارج اطار مؤسسات السلطة يحاول من طرفه طرح افكار ومشاريع جادة لتحقيق المصالحة بمفهومها الاجتماعي وليس السياسي. وتتصدر هذا الحراك تجمعات شبابية متنورة ، متنوعة في اهوائها وانتماءاتها الفكرية والسياسية، تنهض داخل المجتمع العراقي كبراعم للتجديد. التجديد في نمط التفكير والموقف من الوطن وتاريخه ومستقبله. وانا هنا لا اعرض برنامج بديل لبرامج التيارات الشبابية، بل اضيف لها افكار سبق وان حاورتهم فيها، ضمن اطار منهج محدد يتعامل مع المصالحة في تجلياتها الاجتماعية لا السياسية.
في فترة الحرب الاسبانية التي دارت رحاها القرن الماضي بين الجمهوريين والمتطوعين المساندين لهم من اليسار الاممي وبين قوى الرجعية المتحالفة مع الطغمة العسكرية بقيادة فرانكو. جاء شاب من قراء وانصار الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر ليسأله رأيه بقرار اتخذه في ان ينظم الى فصائل الجمهوريين الاسبانية المقاتلة ضد قوات فرانكو. فاستفسر منه سارتر عن السبب الذي دعاه لاتخاذ هذا القرار فأجابه الشاب بان اعوان فرانكو قتلوا اخيه الذي كان معلمه الاول ونبراس حياته، في معركة مع الفصائل الاممية هناك وان قضيته اصبحت هناك في اسبانيا.
جان بول سارتر، وفقا لمبادئه الفلسفية الوجودية، بارك للشاب قراره وشجعه في المضي قدما لتحقيق قضيته التي اضحت له قضية وجود. فالموضوع بالنسبة للمفكر سارتر هو في ان قضية هذا الشاب اصبحت مسألة وجود بغض النظر عن الطريقة التي عرض فيها الشاب قضيته او الطريق الذي سلكه لبلورة قضية وجوده. ومن يتخلى عن قضيته كما يرى سارتر، لا يضحي فقط بأسباب سعادته، بل قد يفقد ايضا مسوغات وجوده.
وانا هنا باستعارتي لهذه الحادثة من حياة الفيلسوف الفرنسي الكبير جان بول سارتر لم اقصد بالتأكيد تفاصيل الحدث بل دلالاته الفلسفية. فمتى ما تصبح قضية المصالحة بين ابناء وطننا الواحد قضية وجود ومصير يحدد مستقبل العراق كامتداد تاريخي لحضارات صنعت ملامح الانسان العراقي ووضعت اشاراتها لآفاق مستقبله. ومتى ما يؤمن المجتمع العراقي بكل فسيفسائه وفي طليعته شباب وطننا المتنورين، بان وحدة النسيج الاجتماعي هي قضية وجود للوطن والمجتمع العراقي. نكون عندئذ قد لمحنا النور في نهاية النفق وبدأنا بكتابة مشروع الامل لبقاء وازدهار العراق.
والمصالحة الوطنية التي تمهد فعلا لمشروع الامل هي مصالحة المجتمع العراقي بكل مكوناته مع نفسه وليس مصالحة بين قوى وتيارات وشخصيات سياسية برزت على سطح الخلافات الدينية والطائفية والقومية واستمدت وجودها من سعة هذه الخلافات وعمق جراحها. والمصالحة الحقة تبدأ بإزالة جميع مظاهر الفرقة والاستفزاز كإعادة النظر بشكل علم العراق وشعارات الدولة العراقية وقوانينها، لقطع الصلة بينها وبين النظام البعثي المقبور منذ انقلابه الاول على السلطة عام 1963م. ففوضى الاعلام والشعارات صارت تتصدر موجات الشحن والتصعيد الطائفي والقومي سواء في الاقليم او محافظات الانبار ونينوى وصلاح الدين وغيرها. عدا ذلك فإنها باتت سلاحا بيد قوى الارهاب للتحريض وتوسيع شقة الخلاف بين ابناء الوطن الواحد.
انتقدت في مقالات سابقة نشرتها جريدة (طريق الشعب) مشاريع التهدئة والمصالحة المبهمة وغير المنهجية. وذكرت وقتها ان لا مصالحة واقعية دون برنامج منهجي يتعامل مع مجمل العوامل التي افرزت مظاهر الفرقة الدينية والطائفية داخل المجتمع العراقي. وضربت مثلا بالتجربة الروسية التي في تعاملها مع خطر تفكك دولة روسيا الاتحادية اثر تكونها بعد انهيار الاتحاد السوفيتية. فالتجربة الروسية في مواجهة التعصب الديني اتجهت منذ البداية نحو التصالح مع الكنيسة الأرثوذوكسية ولم تكتفي بإعادة جميع ممتلكاتها المصادرة في زمن الحقبة الاشتراكية، بل وقدمت لها مساعدات هامة في جميع المجالات لتسحب البساط من تحت ارجل المتاجرين بالدين من ممتهني السياسة. وعندما واجهت روسيا الاتحادية خطر التطرف الاسلامي فإنها وبعد عقد كامل من تجربة فاشلة للرئيس الروسي الراحل يلتسن نجحت في تفكيك عناصر الازمة، معتمدة مبدأ اساسيا يقوم على التمييز بين التدين الاسلامي المعتدل وبين الارهاب المغلف بالشعارات الدينية. فمع الالتزام بمبادئ التسامح الديني والدعم غير المحدود للمؤسسات الدينية الاسلامية ومنظومتها من دعاة وأئمة ودعمها لوجستيا في جميع المجالات التي تعينها على اداء مهامها كمؤسسات هداية ووعظ ديني، فقد ضربت الدولة الروسية بيد من حديد كل بؤر الارهاب وشبكات انتشارها وحواضنها السياسية على كل الامتداد الجغرافي لروسيا الاتحادية وأوربا. وفي الوقت الذي كان فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يقدم دعما غير محدود للداعية الاسلامي، الرئيس الشيشاني الراحل قاديروف، لاحقت القوى الضاربة لجهاز الدولة رموز الارهاب في كل مكان بهدف تصفيتهم. وقد نشرت جميع صحف العالم وقتها تصريح بوتن الشهير "يجب تصفية الارهابيين اينما كانوا، حتى وان رصدوا في دورة المياه".
واذا اردنا ان نستفيد من تجارب الاخرين، فانه يتعين على منظمات المجتمع المدني، أيا كان هواها، ان تضع في اولويات برامجها للمصالحة، مشروعا مطلبيا بإعادة جميع دور العبادة الى اهلها وهويتها التي كانت عليه قبل السقوط بغض النظر عن اسباب ومسوغات التغيير في هويتها. عندها سنكون قد امنا بان الانسان العراقي اغلى ثمنا من حجارة المعبد وتعالينا على تجاوزات واخطاء الماضي القريب، سواء تلك التي ارتكبت قبل 2003 او بعد هذا التاريخ. وعلى الدولة في نفس الوقت ان تدير معركة وجود لا هوادة فيها ضد الارهاب وحواضنه السياسية.
ومع ايماننا بان من حق المواطن العراقي ان يعبر عن ايمانه بالدين او الطائفة التي ولد على هواها او التي تبناها، كما ان من حقه ان يناضل ضد مظاهر الفرقة والتمييز الديني او الطائفي او القومي، الا اننا يجب ان نقر بان الدولة وجميع مؤسساتها الاتحادية (المركزية) او المحلية بما فيها مؤسسات الاقليم، هي لكل المواطنين على اختلاف مشاربهم. وانها مركز وحدتنا وقاعدة تالفنا في اطار الوطن الواحد. وانها لن تكون كذلك اذا استمر تعليق الصور او المقتبسات الدينية او الطائفية او القومية الوحيدة الطرف، والتي يستفز بعضها مشاعر الطرف الاخر، على مباني وفي اروقة مؤسسات الدولة.
واخيرا بودي ان اؤكد كخاتمة لهذه الافكار التي نثرتها امامكم في مقالتي هذه على اننا امام منعطف تاريخي علينا فيه ان نكون كريمين في تسامحنا وشديدين في مواقفنا. ولكن قبل ذلك يجب ان نحدد مع من نتسامح ومع من يجب ان نكون اشداء وصارمين في مواجهاتنا ونزالنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 10 سنوات من الحرب.. أطفال اليمن، أجيال مهددة بالضياع!


.. ماكرون يقامر بانتخابات مبكرة... هل يتكرر سيناريو ديغول أم شي




.. فرنسا: متى حُلّت الجمعية الوطنية في تاريخ الجمهورية الخامسة


.. مجلس الحرب الإسرائيلي.. دوره ومهماته | #الظهيرة




.. هزة داخلية إسرائيلية.. وحراك أميركي لتحقيق الهدنة | #الظهيرة