الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاراس بولبا .. قراءة ثانية

فارس حميد أمانة

2013 / 9 / 11
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


قرأت رواية تاراس بولبا للكاتب الروسي الكبير نيكولاي غوغول أول مرة قبل أكثر من ثلاثين عاما وقد بهرني اسلوب غوغول الساخر وحبكته الرائعة لتسلسل أحداث الرواية .. وأعترف انني ركزت على هذا الجانب فقط من روايته تلك وهو الأسلوب في الكتابة ..
والآن وبعد تلك السنوات الطويلة قررت أن أعيد قراءة الرواية مرة آخرى وقد فشلت في العثور على نسخة ورقية منها في مكتبات الحلة المتخمة بكتب الأدعية والرسائل الشرعية وغيرها من تلك الكتب التي ما أغنتني يوما فطلقتها منذ زمن بعيد .. فكان البحث عن نسخة الكترونية عن طريق الانترنيت هو السبيل الآخر .. عثرت عليها بالفعل وقرأتها للمرة الثانية قراءة متمهلة لأستمتع مرة آخرى بالأسلوب الساخر دون أن أدعه يسيطر على تفهمي للزوايا المهمة التي أراد الروائي من القاريء أن يدركها .. كانت قراءة ثانية متأنية .
تعودت منذ قراءاتي المتأخرة للروايات والكتب أن أتعرف على الكاتب أولا من حيث جوانب نشأته وظروف كتابة الرواية وجوانب أخرى تجعلني أستوعب رؤية الكاتب وهدفه من الكتاب .. نيكولاي غوغول كاتب روسي ولد عام 1809 وتوفي مطلع شبابه في العام 1852 أي في الثالثة والأربعين من عمره .. وهو عمر قصير نسبيا لأديب وعند احتساب عمره الأدبي منذ كتاباته الأولى بداية عشرينيات عمره وحتى وفاته نجده لا يتجاوز العشرين عاما الا بقليل .. ورغم ذلك فقد اكتسب شهرة أدبية واسعة ولاسيما عند نشر روايته تاراس بولبا ..
اشتهر هذا الكاتب والأديب باسلوبه الساخر الواضح جدا في روايته هذه كما هو واضح في مسرحيتيه الهزليتين "المفتش العام" و"خطوبة". لقد استغرقته رواية تاراس بولبا ما يقرب من تسعة أعوام لانجازها بفترات انقطاع ويعد هذا جهدا متميزا لاخراج الرواية بالقالب الذي أرضاه .
للأغاني الشعبية والأناشيد الوطنية دور كبير ومؤثر في هذه الرواية حيث استلهم نيكولاي غوغول أناشيد الفلاحين الوطنيين وهم ينشدونها متغنين بأمجاد أبطالهم ومقاتليهم وهم يخوضون المعارك مع الأعداء .. وقد بقيت تلك الأغاني والأناشيد مشعلا يضرم النار في القلوب المتوفزة للحرية .. وقد وصف نيكولاي غوغول تلك الأغاني بقوله : "الأغاني هي حياتي .. كم أحبها" . لقد كانت تلك الأغاني المعين الذي لا ينضب لنيكولاي غوغول في استكمال رسم صورة واقعية عن كفاح الأوكرانيين .
رواية تاراس بولبا تتحدث عن مقاتل قوقازي عجوز من أوكرانيا في فترة احتلت فيها بولندا هذا البلد لتذيق أهله صنوف الذل والهوان واستعبدت شعبه ولاسيما الفلاحين منهم .. تدور الأحداث في السهوب الأوكرانية منتصف القرن السادس عشر .. قاتل هذا المقاتل الباسل الأعداء البولنديين قائدا لثلة من المقاتلين القوقاز ومعه ابناه الذان تخرجا حديثا من مدرسة عسكرية لكنه لم يمنح أمهما العجوز أية مهلة للتمتع برجوع ولديها بل رحل مع مقاتليه وولديه في اليوم التالي تماما ليبدأ أو ليستأنف قتاله مع الأعداء البولنديين "الكفار" كما كان يلقبهم ..
لقد فتنت بولندية حسناء ابنه الأصغر "أندريا" فهرب معها الى صفوف البولنديين الأعداء وعندما التقاه أبوه أي تاراس بولبا أمره بالنزول عن جواده قائلا بثبات شديد "لقد أنجبتك .. وسأقتلك" .. ففعل الشاب صاغرا ثم أطلق الأب المقاتل الرصاص على ابنه دون تردد وهو يبدي اعجابه باسلوبه الرائع في القتال .. أما ابنه الأكبر "أوستاب" فقد ظل يقاتل الى جانب والده حتى أسره الأعداء وقتلوه .. وفي آخر معركة له ترجل عن جواده نازلا يبحث عن غليونه الذي سقط من فمه مستكبرا أن يستولي البولنديون "الكفار" على أي شيء قوزاقي حتى لو كان مجرد غليون .. أسرالبولنديون تاراس المقاتل العجوز الشرس وصلبوه بالمسامير على جذع شجرة أضرموا تحتها النار التي لم يكن يفكر بها أبدا فقد تطاول برأسه ليصيح في مقاتليه المنسحبين أن يسلكوا طريق النجاة الى قواربهم المنتظرة على الشاطيء وطالبا منهم المجيء في الربيع المقبل لمعركتهم الجديدة .. ثم يموت هذا المقاتل حرقا ..
هذا ملخص سريع لتلك الرواية المنطوية على معان واشارات كثيرة ..
لقد مثل تاراس بولبا العجوز من جهته روح المقاتل والقائد المضحي بكل شيء في سبيل وطنه وأمته فتراه لا يتردد باعدام ابنه الذي خان وطنه بيديه مرة ثم يشهد أسر ابنه الآخر أثناء قتاله ومصرعه أمام عينيه مرة أخرى مع مصارع العديد من مقاتليه الأشداء قربانا لتربة الوطن .. ثم تبلغ به الوطنية أقصى حدودها بعدم تركه لغليونه يسقط بين يدي الأعداء .. ان الغليون هنا ليس غليونا مجردا .. بل هو قيمة عليا ورمز يمثل الوطن بكل معانيه .. وتتبقى روحه القتالية الوثابة حتى آخر لحظات حياته ليقود من بعد رفاقه الى بر الأمان عند انسحابهم دون أن يعبأ باللهب المتصاعد يأكل رجليه ثم جسده .. انه القائد وتبقى فيه نزعة قيادة من في معيته الى بر الأمان حتى آخر لحظات عمره ..
لقد أصبح تاراس بولبا العجوز رمزا عالميا للحرية والنضال ضد المحتل وليس رمزا لأوكرانيا فقط .. وأنموذجا للرجل التواق للتحرر من الاستعباد مهما كان ثمن ذلك . وبعد كل هذا وذاك تبقى تلك الرواية الملحمة التاريخية التي نجح فيها نيكولاي غوغول في رسم الشخصيات بصدق وعرضها للقاريء بتلك الدقة المتصفة بالبساطة والتصوير الرائع لحياة ذلك الشعب ..
أعتقد اني سأقرأ تلك الرواية – الملحمة مرة ثالثة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نتنياهو: غانتس اختار أن يهدد رئيس الوزراء بدلا من حماس


.. انقسامات داخلية حادة تعصف بحكومة نتنياهو وتهدد بانهيار مجلس




.. بن غفير يرد بقوة على غانتس.. ويصفه بأنه بهلوان كبير


.. -اقطعوا العلاقات الآن-.. اعتصام الطلاب في جامعة ملبورن الأست




.. فلسطينيون يشيعون جثمان قائد بكتيبة جنين الشهيد إسلام خمايسة