الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الثورة الثقافية ... عشان ايه وليه؟ (2/3)

السيد نصر الدين السيد

2013 / 9 / 12
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


تستهوي الأرقام علماء الاقتصاد "التقليديين"، وبالطبع من يهتم منهم بقضية التنمية، فنرى أدبياتهم وهي مليئة بالمؤشرات الرقمية من قبيل "نصيب الفرد من اجمالي الناتج المحلي"، "نسبة الصادرات الى الواردات"، "معدل البطالة" و"معدل النمو السكاني". ويبدو ان ولعهم بالأرقام جعلهم لا يعطون الاهتمام اللازم للعوامل الأخرى التي يمكن ان تؤثر على عملية التنمية ولكن يصعب قياسها او تمثيلها بالأرقام. ومن اهم هذه العوامل التي أهملها التقليديون الثقافة السائدة في المجتمع الذي تستهدفه عملية التنمية. الا ان العولمة وتجلياتها مثل "الشركات متعددة الجنسيات"Multinational Corporation (MNC) أوضحت أهمية الدور الذي تلعبه ثقافة المجتمع في كافة ما يحدث فيه من أنشطة اقتصادية واجتماعية وسياسية.

حدوتة بلدين: كوريا الجنوبية وغانا الافريقية
كتب صمويل هانتنجتون، الأكاديمي الأمريكي صاحب الكتاب الشهير والمثير للجدل "صدام الحضارات"، في تقديمه لكتاب "للثقافة شأن" Culture Matters عن أمر استرعى انتباهه في أوائل تسعينات القرن العشرين. وكان هذا الأمر هو عما حدث لبلدان هما غانا وكوريا الجنوبية. ففي الستينات كانت مؤشرات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لكلا من البلدين متقاربة. وبعد مرور 30 سنة فقط أصبحت كوريا الجنوبية عملاق اقتصادي يحتل المركز الثالث عشر في قائمة الدول المتقدمة اقتصاديا بينما لم تشهد أحوال غانا الاقتصادية والاجتماعية تغيرا ملحوظا. وتساءل هانتنجتون عن السر وراء هذا الاختلاف اللافت للأنظار بين بلدان تقاربت بداياتهم وتباعدت نهاياتهم وكانت إجابته في كلمة واحدة هي "الثقافة" (Huntington, 2000) ...!. ولم يكن هانتنجتون منفردا في تقديره للدور الهام الذي تلعبه الثقافة في تطور الأمم وفى تحقيق رفاهيتها فلقد شاركه في هذا الرأي كثرة من الأكاديميين من مختلف التخصصات وعلى رأسهم علماء الاقتصاد "غير التقليديين". ولعل من أشهرهم أمارتيا سن Amartya Sen الأستاذ بجامعة هارفارد الأمريكية والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 1998. فلقد أكد سن في كلمته التي ألقاها في اجتماع البنك الدولي الذي عقد في طوكيو سنة 2001 على أهمية الدور الذي تلعبه الثقافة في فشل أو نجاح محاولة تطوير أي مجتمع. وقد كانت اليابان هي المثال الذى استخدمه سن للتدليل على صحة مقولاته (Sen, 2001).

ولم تكن الأمم المتحدة، متمثلة في منظمة اليونسكو، أقل وعيا بأهمية الدور الحيوي الذي تلعبه الثقافة في عملية التنمية ففي مؤتمرها العام الذي عقد سنة 1991 تقرر إنشاء "اللجنة الدولية للثقافة والتنمية" World Commission on Culture and Development برئاسة الأمين السابق لمنظمة الأمم المتحدة بيريز دى كويلار. وكان من أهم أهداف هذه اللجنة دراسة العوامل الثقافية والاجتماعية التي تؤثر على عملية التنمية هذا بالإضافة إلى الطرق التي تؤثر بها عملية التنمية الثقافية على رفاه أفراد المجتمع وعلى رفاه المجتمع ككل. وكانت نتيجة أعمال هذه اللجنة تقريرها الشهير "تعددنا الخلاق" Our Creative Diversity الذي نشر عام 1995. وكان أهم ما جاء في هذا التقرير هو تأكيده على أهمية الدور الذي تلعبه الثقافة في في تنمية وتمكين الإنسان وعلى ضرورة النظر لعملية التنمية "المستدامة" ولعمليات الإصلاح الاقتصادي والمالي والاجتماعي من منظور ثقافي. وهكذا ظهرت في أدبيات الاقتصاد والإدارة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع معادلة جديدة طرفاها هما "التنمية" و"الثقافة". معادلة تنظر عن قرب إلى علاقات التأثر والتأثير المتبادلة بينهما.

وأول أطراف معادلة "التنمية والثقافة"، "التنمية"، فقد عرفته الأمم المتحدة في مقدمة إعلانها العالمي عن حق التنمية، الذي أعتمد ونشر في 4 يناير 1986م، على أنها: "عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسين المستمر لرفاهية السكان بأسرهم والأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم، النشطة والحرة والهادفة في التنمية وفى التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها". وينطوي هذا التعريف على ثلاثة أبعاد يلقى فهمها الضوء على العلاقة المعقدة بين الثقافة والتنمية. وأولى هذه الأبعاد هو "الشمول" إذ أن للتنمية كـ "اسم" جوانب متعددة، اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، ومترابطة يؤثر كل منها على الجوانب الأخرى ويتأثر بها. أما البعد الثاني فهو "الديناميكية"، فالتنمية هي "فعل" دائم لا تشكل الأهداف التي حققتها في مرحلة سابقة نقطة النهاية لها بل تشكل نقطة البداية لفعل جديد يسعى لتحقيق أهداف جديدة. أما آخر هذه الأبعاد فيتعلق بخصائص العنصر الفاعل في عملية التنمية وهو كافة أفراد المجتمع اللذين يتوقف نجاح عملية التنمية على قدر قناعتهم بأهدافها وعلى قدر إسهاماتهم الفعالة في مختلف أنشطتها. وهنا تبرز أهمية الدور الذي تلعبه الثقافة، بمكوناتها الأساسية، منظومتي المسلمات والقيم (السيد, 2013)، في تشكيل توجهات وسلوكيات وردود أفعال أفراد المجتمع الذي يتبناهما. فـ "منظومة المسلمات" ("الرؤية الكلية")، بما تتضمنه من أفكار يعتبرها أفراد المجتمع أمورا صحيحة لا تقبل النقاش، هي التي يستخدمها أفراد المجتمع في فهم وتفسير ما يدور فيه وما يتأثر به من وقائع وأحداث وتشكل "الإطار المعياري" الذي يستخدمه في تقييمها وفى إصدار أحكامه عليها. أما "منظومة القيم" فهي التي تحدد لأفراده ما ينبغي أن يكون أو بعبارة أخرى السلوك القويم الذي يتوقعه المجتمع منهم.

حكاية الثقافتين
أدى الوعي بأهمية الدور الذي تلعبه الثقافة في عملية التنمية الى قيام الباحثين بدارسة التجارب التنموية في العديد من المجتمعات المختلفة (Harrison & Huntington, 2000). وعلى الرغم تباين الخلفيات العلمية لهؤلاء الباحثين واختلاف المقاربات التي استخدموها في دارسة العلاقة المركبة بين الثقافة والتنمية فإن النتيجة التي اتفق عليها الجميع هو وجود ثقافتين: "الثقافة الداعمة للتنمية" و"الثقافة الممانعة للتنمية". و"الثقافة الداعمة للتنمية" هي الثقافة التي يشكل العلم، بمعطياته ومناهجه، المصدر الرئيسي لمكونات "رؤيتها الكلية" وتدعم منظومة قيمها متطلبات تنمية المجتمع بكافة ابعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وعلى طرف النقيض تقع "الثقافة الممانعة للتنمية" بمكونات "رؤيتها الكلية" المستمدة من تفسيرات حرفية ومتزمتة للنصوص الدينية المقدسة، وبمنظومة قيمها غير المتوائمة مع متطلبات تنمية المجتمع. ولعله من المفيد بيان مدى الاختلاف بين منظومتي القيم للثقافتين من خلال عرض "التوجه الزمنى" لكل منهما هذا بالإضافة نظرة كل منهما لـ "العمل"، "الجدارة"، "التعليم" و"القانون الأخلاقي الملزم".

-;- "التوجه الزمنى": تتميز مجتمعات "الثقافة الداعمة" بنظرتها للمستقبل بوصفه الزمن الذي سيجسد المجتمع فيه أحلام أعضائه المتجددة وتطلعاتهم المشروعة وذلك بالتخطيط الواعي وبجهد افراده. والمجتمعات التي تسودها مثل هذه الثقافات هي المجتمعات التي تأتى "سنة التطور" على رأس مسلماتها وهي وحدها القادرة على تجديد نفسها وعلى التواؤم الخلاق مع مقتضيات عصرها. اما مجتمعات "الثقافة الممانعة" فتنظر إلى المستقبل على أنه إعادة إنتاج لعصر مضى أقامه الأسلاف وهو، في عرفها، "العصر الذهبي". لذا يتمحور النشاط الفكري لـ "الثقافة الممانعة" حول شرح وتفسير ما جاء في مصنفات السلف الصالح من تصورات وأفكار. وهكذا تعلوا مكانة قيم الحفظ والإتباع والسمع والطاعة وتتدنى مكانة قيم النقد والتحليل والكشف والإبداع التي تؤكد عليها "الثقافة الداعمة".
-;- "العمل": يلعب العمل، في مجتمعات "الثقافة الداعمة"، دورا محوري في تشكيل حياة افراد المجتمع ويستوجب الاحترام والتقدير أيا كانت طبيعته. فعبره يكافأ الفرد على اجتهاداته وانجازاته وابداعاته ليس فقط ماليا بل أيضا معنويا بما يحققه من مكانة وما يشعر به من احترام للذات. أما في مجتمعات "الثقافة الممانعة" فان قدر احترام العمل وتقديره يتوقف على طبيعة الوظيفة، "طبقية الوظائف". هذا بالإضافة الى تسيد القناعة بان العمل فقط ليس هو الوسيلة المثلى لتحقيق الثروة او المكانة.
-;- "الجدارة": ان المعيار "الأوحد" الذي يحدد مكانة الفرد في مجتمعات "الثقافة الداعمة" هو قدرته على "الإنجاز" المرتكزة على ما حصله من علم وما اكتسبه من مهارات. بينما تتحدد هذه المكانة في مجتمعات "الثقافة الممانعة" بشبكة العلاقات العائلية او الاجتماعية التي يتمتع بها.
-;- "التعليم": ان الهدف الرئيسي للتعليم في مجتمعات "الثقافة الداعمة" هو تعليم المهارات المعرفية اللازمة لحل المشاكل المجتمعية من قبيل كيفية التوصل للمعلومات اللازمة وتحليلها وتقييمها وتنميتها. اما في مجتمعات "الثقافة الممانعة" فان الهدف الرئيسي للتعليم هو استظهار (حفظ) المحتوى المعرفي للمطبوعات المقررة بغض النظر عن استخدامها في حل المشاكل المجتمعية.
-;- "القانون الأخلاقي الملزم": الامتثال الصارم للقوانين والمعايير هي سمة مجتمعات "الثقافة الداعمة". وينبع هذا الامتثال من توافق القانون الأخلاقي مع الواقع الاجتماعي. اما في مجتمعات "الثقافة الممانعة" فان القانون يعبر عن عالم مثالي لا يعبر عن الواقع الاجتماعي (جروندونا, 2009). لذا يصبح التحايل على القانون من السمات السائدة في هذه المجتمعات.

والآن وبعد ان عرضنا لملامح "الثقافة الداعمة للتنمية" يكون من الطبيعي ان نتساءل عن إمكانية تحويل ثقافة المجتمع "الممانعة" للتنمية والتطور لتصبح "داعمة" لهما (الثورة الثقافية). ان محاولة الإجابة على هذا التساؤل ستكون موضوع مقالتنا القادمة "عن الثورة الثقافية ... معالم على الطريق (3-3)".

المراجع
Harrison, L., & Huntington, S. (Eds.). 2000. Culture Matters: How Values Shape Human Progress. New York: Basic Books.
Huntington, S. 2000. Cultures Count. In L. Harrison, & S. Huntington (Eds.), Culture Matters: How Values Shape Human Progress: xiv-xvi. New York: Basic Books.
Sen, A. 2001. Culture and Development: http://www.gdnet.org/pdf2/gdn_library/annual_conferences/second_annual_conference/sen.pdf. Tokyo: World Bank.
السيد, ا. ن. ا. 2013. عن الثورة الثقافية ... ترويض المفاهيم (1/3). الحوار المتمدن, 4203(2 سبتمبر): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=376

جروندونا, م. 2009. دراسة الأنماط الثقافية للتطوير الاقتصادي. In ل. هاريزون, & ص. هنتنجتون (Eds.), الثقافات وقيم التقدم, 2 ed.: 117-134. القاهرة: المركز القومي للترجمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غموض يلف أسباب تحطم مروحية الرئيس الإيراني؟ • فرانس 24


.. التغير المناخي في الشرق الأوسط: إلى أي مدى مرتبط باستثمارات




.. كيف يسمح لمروحية الرئيس الإيراني بالإقلاع ضمن ظروف مناخية صع


.. تحقيق لـCNN يكشف هوية أشخاص هاجموا مخيما داعما للفلسطينيين ف




.. ردود الفعل تتوالى.. تعازى إقليمية ودولية على وفاة الرئيس الإ