الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة بعنوان ( بطاقة عودة الى بغداد )

نهاد عبد الستار رشيد

2013 / 9 / 13
الادب والفن


عندما صعدت الى حافلة نقل الركاب التي تقلنا الى بغداد وجدت قطعة خبز قديمة على المقعد المخصص لي , فرميتها من النافذة الى برميل قريب , فترامى الى اذني صوت احتجاج وتذمر , في شيء من الحدة , من المقاعد الخلفية للحافلة : " ليش .. مو خطيه ؟ ... مو هذي نعمة الله ! " اعتراني شيء من الذهول , وشعرت بحافز غامض أرغمني على الألتفات . كان الصوت مألوفا لدي . أجلت الطرف في ما حولي بحثا عن المتذمر الذي يفيض حنانا وشفقة على قطعة الخبز . تطلعت اليه وحدّقت في وجهه . رحت اسائل نفسي قائلا : " أليس هذا أبو سامي القصاب ؟ " .. ران الصمت داخل الحافلة لحظات . أحسست بحنق لكني أخلدت الى الصمت , اذ لم أكن أدري ماذا أقول لكي أرد عليه . جلست على مقعدي واستعرضت في مخيلتي بعض أعماله اللاأنسانيه , ورحت اسائل نفسي : " لماذا يتكشف الآن عن كل هذه الوداعة والرقة والشفقة ؟
راحت الأحداث وصور الماضي تتوالى على ذاكرتي , فانتزعت منها بعض مشاهد القصف الأمريكي للبيوت السكنية في منطقتنا , وكانت أكثر الأشياء التي علقت في ذاكرتي قيام هذا القصاب بتفتيش ركام البيوت المقصوفة وملابس الضحايا والمصابين بحثا عن المال , ولم يشارك فرق الأنقاذ في انتشال الضحايا .
عدت بذاكرتي الى الماضي القريب , وتبادرت الى خاطري صور قيامه بذبح عجلة أمام امها . طفقت اناجي نفسي : " أليس من واجب القصاب احترام مشاعر الأمومة لدى الحيوانات عند ذبحها ؟ هذه العجلة التي حملتها امها وولدتها وأنشأتها في صبر العنكبوت الذي يشيد بيته خيطا خيطا , يوما بعد آخر. فالأم بالتأكيد تؤثر أن تذبح هي على أن ترى بعينها عجلتها تذبح أمامها .
بدت على وجه البقرة علامات التشنج والألم الممض , وأنا واقف الاحظ المشهد المثير بوجه يكتسي بمسحة من الحزن . حاولت العجلة الأفلات من قبضة القصاب مذعورة يغريها اليأس بالفرار , وصاحت بصوت متهدج منفعل طالبة من امها التدخل لنجدتها , وكانت عيناها تحدقان اليها , ولمحت في تينك العينين نداء استغاثة وتوسلا واستعطافا . أحست البقرة الأم بجميع كيانها يتحرك من أعماقها لذلك النداء , وحاولت قطع الحبل المربوطة به , وكانت أنفاسها تتردد سريعة وقوية وقلبها يخفق خفقانا شديدا , وكانت مرتجفة المفاصل , منهوكة القوى مما تشعر في دخيلة نفسها من آلام .
بدأت الدموع تترقرق من عيني , والرعدة تسري في أوصالي , وأطبق الرعب على حنجرتي . كنت أتوق لأن آخذ العجلة بين ذراعي وأضمها الى صدري . شعرت بدمي يغلي غليانا شديدا لفظاظة القصاب التي أفزعتني . ولكن كيف أجد السبيل لأنقاذها ؟ واستولت علي فكرة شراء العجلة ... وفي شيء من نفاد الصبر والعصبية وأنا أميط اللثام عما كان يجول بخاطري قلت للقصاب بتعبير ينضح مرارة : " اريد شراء العجلة " .. كان من العبث الذي لا طائل تحته أن اقنع القصاب بالفكرة . راح يضحك بملء فيه ورفض عرضي بازدراء , واندفع يعنفني وكأن طلبي كان ضربا من الوقاحة ... لبثت العجلة وامها تحدقان كل منهما الى الأخرى لحظة , وفي مثل عجز الطائر المهيض الجناحين استسلمت العجلة لسكين القصاب , وراحت الأم تتطلع لمشهد الذبح وقلبها يفيض بالدموع , وأحسست بأن أحشاءها تتقطع وهي تنظر بصمت كئيب .
انتزعت نفسي من غمرة الشرود الذهني حين بدأت الحافلة تتحرك بنا وتتوارى عن الأنظار في ضوضاء الشارع . لم يكن قد مضى الآن على هذه الحادثة اسبوع واحد . لكن شيئا اعتمل في ذات نفسي ... فقد أدركت ما كان يرمي اليه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??