الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضرورة أن نتفلسف

داود روفائيل خشبة

2013 / 9 / 16
الادب والفن



لا أعرف عن شعب تـُمتهن عنده الفلسفة بمثل ما تـُمتهن عندنا ولا أعرف عن لغة تـُمتهن فيها الفلسفة كما تـُمتهن فى عاميتنا المصرية، فنحن إذا أردنا أن نقول عن شخص ما إنه يتكلم كلاما عبثيا عديم القيمة والجدوى قلنا إنه يتفلسف، وإذا شرع شخص ما فى حديث لا نستسيغه ولا نرى طائلا من ورائه قلنا له "بلاش فلسفة". وهذا يدل على موقف خاطئ من الفلسفة وعلى فهم خاطئ لطبيعة الفلسفة ودورها فى الحياة الإنسانية.
الواقع أنه إذا كان الخطأ فى فهم طبيعة الفلسفة ودورها فى الحياة الإنسانية يرجع عندنا إلى عوامل تاريخية بعيدة المدى فإن هذا الخطأ يعزّزه ويقويه أن الفلسفة الأكاديمية الحديثة تشارك إلى مدى بعيد فى نفس هذا الخطأ إذ تصوّر الفلسفة باعتبارها علما على شاكلة العلوم الطبيعية الموضوعية لها مجالها الخاص تزوّدنا فيه بمعرفة موضوعية يقينية. والغريب أن الأكاديميين يصرّون على هذا الفهم برغم أن واقع الفلسفة وتاريخها على مدى أكثر من ستة وعشرين قرنا من الزمان يكذّبه ويقطع بخطئه.
دعونى أقل ما هى الفلسفة التى أعنيها حين أقرّر أن الفلسفة ضرورة للحياة الإنسانية السويّة وأنها ضرورة للتقدّم الحضارى. الفلسفة التى أعنيها هى إعلان العقل عن حقه فى أن يسأل، أن يسأل فى كل شىء وعن كل شىء، أن لا يقبل أى مقولة على أنها صدق وحق إلا بعد أن يمحصها ويمتحنها من كل الوجوه، وأن يعود بها إلى أسسها الأولى ومبادئها الأولية. الفلسفة هى إصرار العقل على أن يرى فى وضوح، إصراره على إزالة ما يعتور فكرنا ومفاهيمنا من اختلاط وتشابك وغموض، إصراره على إنارة كل الأركان المعتمة وكشف كل مستور ومخبوء. الفلسفة ببساطة توق العقل للفهم. للفيلسوف شعار واحد ومبدأ واحد: أريد أن أفهم.
الفلسفة ليست علما تخصصيّا ولا تنطوى على معرفة ما هو واقع فى مجال معيّن. وعلى هذا فالفيلسوف ليس من شأنه ولا هو فى مقدوره أن يشير عليك بما هو صواب أو ما هو مفيد فى أى مجال عملى. إذا أردت إنشاء جسر يفيدك المهندس لا الفيلسوف وإذا أردت التصدى لوباء يفيدك الطبيب لا الفيلسوف. فما حاجتنا للفيلسوف إذن؟
كل حضارة تقوم على أسس معينة، على شبكة من النظم والعلاقات البينية وعلى معطيات من المبادئ والقيم والغايات. لكن الحضارة الحيّة كائن حى، وككل كائن حى تتغيّر وتتبدّل، تموت فيها أشياء وتولد أشياء. نحن كأفراد نتغيّر على الدوام، كل خلايا جسمنا تموت وتحل محلها خلايا وليدة، وإذا توقف مولد وموت الخلايا نموت الموت النهائى، يموت الشخص. كذلك الحضارات، إذا لم تتجدّد تموت.
السلوك الذى كان فى زمن ما، فى مجتمع ما، صالحا لتدعيم السلام الاجتماعى ودفع المجتمع للتقدم، يصبح فى زمن آخر وفى أوضاع اجتماعية مختلفة منبعا للظلم وسببا للتخلف. ما كان عدلا فى القبيلة لا يعود عدلا فى المجتمع الحضرى، وما هو عدل فى إطار الأسرة ليس هو العدل فى المدينة. كل القيم وأنبل المُثل متى صيغت فى صورة محدّدة تلائم زمنا وظروفا وأوضاعا معيّنة تلحق بها حتما النسبية الملازمة بالضرورة لكل ما هو محدود ومحدّد ويتحتم أن يتغيّر فى مسيرة الزمن. والحضارة التى تحاول أن تعيش فى أوضاعها المتغيّرة بالمفاهيم التى كانت من قبل وعلى الأسس التى كانت من قبل تتجمّد وتنحدر. لكى يبقى المجتمع المتحضر حيّا وفاعلا ومتقدما يجب على الدوام أن يُخضع كل معطياته ومسَلـّماته للمساءلة والنقاش والمراجعة. هذه وظيفة الفلسفة: المساءلة والمراجعة والإصرار على الرجوع بكل شىء لأسسه الأولى ومبادئه الأولية.
الفلسفة بهذا المفهوم ليست مهنة أو وظيفة ولا يمكن أن يقوم بها فرد أو مجموعة محدودة من الفلاسفة المتخصصين، بل يجب أن تكون الفلسفة مزاجا عامّا يشيع بين كل المواطنين. لكى يحيا المجتمع المتحضر يجب أن يمارس المساءلة الفلسفية كل أفراد المجتمع.
الفلسفة بهذا المفهوم ضرورة للإنسان الفرد، لأنه لا يكون إنسانا حتى يمارس العقلانية التى يتميّز بها الإنسان من حيث هو إنسان، كما هى ضرورة لجموع أفراد المجتمع لأن حيوية ونشاط العقلانية هى الضمان الذى لا غنى عنه للحيلولة دون انحدار المجتمع للجمود والتخلف.
ترى هل أقنعتك بشىء؟ هل أوضحت لك شيئا؟ لا يهم. المهم أن أكون قد أثرتك للتفكير ولأن تحكم بعقلك على ما أقول، فهذه وظيفة الفلسفة.
القاهرة، 16 سبتمبر 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا