الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحولات طائر محمد كاظم جواد الذي انطفأ في جب الخراب عبد الامير خليل مراد

محمد كاظم جواد
شاعر

(M0hammad Kadom)

2013 / 9 / 19
الادب والفن


من الواضح إن للنص الأدبي فضاء يحتمل الكثير من القراءات والتأويلات، وكل قراءة تحتاج الى منهج أو طريقة يستطيع الباحث من خلالها تلقي النص، والنفاذ الى مدلولاته ومعانيه، إذ تقوم هذه الطريقة على أدوات إجرائية أو معايير فنية مؤسسة على ذائقة جمالية تتيح للناقد إمكانات تلمس النصوص الأدبية، وتحديد جوهر انتمائها الى معارج الإبداع.

ويرى جاكسون: أن القراءة الشعرية الحقة هي لعبة ثانية تختفي وراء الدوال لتصنع من الدال الواحد، وفي الزمن الواحد مئات الدلالات، ما دام محتوى الشعر غير ثابت، ومن هنا تبدو الخصائص الواصفة لفن الشعر لا تتحدد بالمفردة وحدها، فاللغة هي وعاء للمفردات التي تتجسد فيها الصورة والموسيقى والقافية، ومن ثم يمكن أن يكون هذا التداخل التركيبي المستغرق للجملة الشعرية هو ما يمنحنا الرؤية الإبداعية التي تختلف بين شاعر وآخر.
وفي مجموعته الشعرية (الطائر الذي ابتل بماء الشمس) يضعنا محمد كاظم جواد أمام عمل شعري يثير في المتلقي العديد من الأسئلة التي تحرض قارئه على استنفار الحواس، والانشداد الى تدفق اللغة الشعرية، وهي تصرح مرة، وتلمح مرات أخر، إذ تأتي قصائد الشاعر كاستجابة تلقائية يعبر فيها عن عالمه الذاتي، ذلك العالم الذي يستبطن الوجود من خلال البحث عن الراسب في أعماقنا، والمعلن في تجربة الحياة اليومية.
ويلاحظ في معظم القصائد سيادة العفوية، وتراجع الصنعة في تشكيل المعنى الشعري حيث يكتفي الشاعر بالبوح الارتدادي.. أي الارتداد الى الذات عبر المشاركة الوجدانية مع الأشياء.. في سكونها وتوترها، وبالتالي فان هذه المشاركة تستحيل في مختبر الباطن الى رؤى وأفكار تعبر عن هموم الإنسان المعاصر، ففي قصيدته (براقع النرجس)، نكتشف تمظهرات ذلك البرقع من خلال فكرة القصيدة، بالرغم من عدم ورود مفردة البراقع أو النرجس في متنها، فعادة ما يكون البرقع قناعا يفضي أو يعني شيئا ما، أو طمس حقيقته حيث تسيدت على القصيدة مفردات أخرى تقترب في مداليلها من حقيقة تلك البراقع كالغروب، والصدى، والموءودة، ودهليز، والخيط الواهي، ولو أعدنا قراءة القصيدة أكثر من مرة، لوجدنا أن الشاعر هو من يرقب غروبه بنفسه تحت لافتة البرقع، تلك اللافتة التي يتقاطع في صورتها الأبيض بالأسود، وهو يشير بذلك الى الفوضى والارتباك،فالأبيض رمز النقاء، والأسود رمز للعدمية والتشاؤم ومن ثم لم يعد أمام الشاعر إلا أن يكسر أعواده اليابسة، تلك الأعواد التي لا تقوى على مقاومة رغبته في البقاء – لكونها أعوادا هشة- في تحنيط غروبه وبقائه في بستان النرجس، حتى ولو كان هذا البقاء في دورق مكسور، يقول:
في الغروب الذي لا ينتهي/ وفي الممرات التي تفضي الى الغروب ألم الصدى / وأحاور/ من يحرث روحي/ كي يزرع بذرته الموءودة/ هل أبدأ من نقطة/ محذوفة في عري كلامي؟/ وأحنط في دورقك المكسور رغابي / قد يخطأ ظني / حين تمر أمامي صور/ يتقاطع فيها الأبيض والأسود / سأكسر أعوادي اليابسة / وأرشح أغصاني الغضة للوأد.(ص47)
وعندما نسترسل في قراءة القصائد تتجلى تراجيديا الموت والقهر والخراب،.. تراجيديا التلاشي والانطفاء، حيث تغور الأمكنة، ويتقهقر الآتي، إذ نرى الشاعر أمام هذه المأساة الضاغطة يحاول صياغة الواقع بفجائعية الإنسان المقهور بعد أن رأى الوطن ملقى على قارعة الطريق، وأيامه مرهونة بين يدي الحاكم تأكلها الحروب، إذ يتساءل وهو يخاطب صديقه المنفي في قصيدته (منفى آخر).. يخاطبه بضمير الأعزل الذي لا يرمق في المنفى القسري لصديقه إلا البؤس والشقاء يقول:
هل جربت أن تطلق صيحتك في صحراء رجوعك الأبدي/ انظر إلى وجهك في المرآة / سترى خارطة صماء/تمتد من القلب/ إلى خطوط جبينك المتغضن.(ص17)
وكأنه هو المنفي الذي ما عادت تغريه أخاديد الجغرافيا، أويدجنه حبر التاريخ، وهو بهذا التساؤل الاسترجاعي مع صديقه عبد الرزاق الربيعي لا يتردد في التماهي في منفاه، وان اشترى ذلك الصديق ما بقي من أيامه بالخوف والتوجع والحرمان، حيث يبدو ذلك واضحا من خلال توسلاته والحاحه في استعادة فعل التمني والرجاء (أريد) أكثر من مرة وهو يقول:
أريد حلما/ يهيأني لمسرات أتلمس فيها أوجاعي/ أريد نشيدا شاملا/ الملم فيه شتاتي
أريد ربيعا مكتنزا بطفولتي/
أريد حاكما يفهم نظرية فيثاغورس.(ص18)
كما يفاجئنا الشاعر باكتشاف سعادته في ندب الماضي، وتمجيده بوصفه أبجدية مقدسة.. أبجدية ترتحل في اللاشعور الجمعي، وتبدأ باستنطاق المسكوت عنه في حاضرنا الراهن، وتأشير ما فيه من اختلالات ومفارقات حيث يتجلى هذا الإحساس في هجائه لمنتجي الخراب، والسادرين في تدمير الإنسان، فهو في أكثر من نص شعري يجاهر في إدانة هذا الخراب، وإعلاء الطفولة الشائخة، وهكذا يكون رفض الشاعر للخراب، وأسبابه منطلقا للاحتجاج والتحرر من الظلم والاستبداد، إذ نقرأ المقاطع التالية:
- من مطحنة الحروب هو الذي شيد الخراب (ص117)
- تسيل خطاي على أسفلت خرابي (ص121)
- من يشوي في صومعتي طين خرابي(ص17)
- يقومني هذا الطين الممزوج بطين خرابي (ص38)
- كفاك توددا ليبوسة الخراب (ص25)
-لا يأبه بالالتواءات التي تتلاقى خلف ناصية الخراب (ص30)
- الخراب الذي يودعني سيجرب طغيان العتمة (ص44)
- أتجرع فيها دفقة من سائل الخراب (ص68)
- على هامشنا يبني الخراب مسلته (ص121)
- تهاويم وجعي الضائع في مسلة الخراب (ص137)
إن ما يؤكد فكرة المحو والخراب في قصائد الشاعر قوله:
بلادي متعبة، وحين تلمست وجهها أجهشت بالبكاء.(ص120)
وتتجسد بوضوح فكرة القص في بعض قصائد الشاعر، ومنها قصيدة (الإرث)، وقصيدة (دخان)، حيث نرى البداية في قصيدة (دخان) تقوم على الاستهلال والتتابع والسرد الوصفي، وهي عبارة عن توصيف درامي لرجل لا يزال يدخن أحلامه بشراهة، إذ تتبخر هذه الأحلام التي يئدها الانتظار، وبسبب التدخين المستمر يتيبس لسان الحالم حتى يفتقد اللعاب الذي بواسطته يمضغ دخان السيكارة، وذلك لجفاف الحلم في ذاته وموته في داخله قبل بلوغه درجة الاكتمال عند نهاية القصة.
وفي قصائده نجد تناصات داخلية وأخرى خارجية، تأتي الداخلية منها في باب استنساخ الذات، حيث يستعيد الشاعر بعض تجاربه السابقة، وقد تكون في استنساخ فكرة القصيدة، وهذا ما لم نتلمسه في تجربة الشاعر محمد كاظم جواد إلا أننا نرى بعض المقاطع وقد تم تذويبها، وتوظيف معجمها اللفظي في قصائد لاحقة، ومثلها قوله:
من يعرفني؟ أنا المتوج بأسئلة لا تنتهي
والمطعونة بآلام مبرحة (ص91) في قصيدة (آلام حادة)
وجاءت أيضا (ص101) وفي قصيدة (نياشين)
غير أن الشاعر أضاف إليها بعض التغييرات
من يعرفني؟ أنا (محمد كاظم جواد)، المتوج بأسئلة لا تنتهي والمطعون بآلام مبرحة/ المولود عام 1957 تلك المواليد التي بصقت في وجهها الحروب
كما يقول في قصيدة (ناصية الخراب) (دون أن يأبه بالالتواءات التي تثير السخرية والندم)، (ص26)
تتكرر أيضا في قوله:
لا يأبه بالالتواءات التي تتلاقى خلف ناصية الخراب.(ص30)
والشاعر يعمد إلى الانتقال بين الوسائل الفنية المختلفة للتعبير عما بداخله من هموم وانفعالات جياشة، تتألم من الواقع الذي يرفضه الشاعر، ولكنه لا يملك عصا سحرية لتغييره، فأفادت لوحاته من الصور التشبيهية البسيطة في بنيتها التركيبية، غير أنها عميقة في دلالاتها الكلية، في سياق النص المتكامل، كما في قصيدة (رحيلي) (المسافات شاسعة/ هيأت عذابي / وقرأت على ملأ محتشد نشرة أخطائي/ ومسافاتي صراط/ يتلوى كالمكر/(ص98)
بالرغم من بساطة هذه اللغة، إلا أنها لغة مشاكسة، لأنها تنتج رؤية جديدة من الوسائل القديمة، كما يتبدى هذا في قوله:
نشرة أخطائي، وتشبيه المسافات بالصراط الذي يشبه المكر في الاعوجاج، وقد يبدو أنه تشبيه بسيط، لكنه عميق لأنه ينبعث من تطويع دلالات اللغة والضرب على مدلولاتها الاجتماعية أو الدينية، فالصراط في دلالاته الدينية يرتبط بالاستقامة، غير انه هنا جاء صراطا أعوجا وغير مستقيم، وكأنه المكر في التوائه وخداعه، وهو شيء معنوي، وقد أضفى كل ذلك كثافة في الفكر والرؤى في النص على قصره.
إن من أجمل الملامح الفنية التي يمتاز بها شعر محمد كاظم جواد استعماله اللغة البسيطة، المألوفة موظفا ما فيها من دلالات يومية واجتماعية يلمسها القارئ في الخطاب اللغوي الحي، من أعلام وصحافة وحاسوب من ذلك مثلا قصيدته (نياشين)، و (لا.. فرق)
يأكلني صحوي، فأنقاد إلى تاريخ أدرد، تدفعني الأيام إلى مقبرة الأخطاء/ فأهرول في صحراء الجوع/ اضغط على زر (copy) آلاف المرات ولماذا يختفي اسمي من الـ Google (ص147)
ففي هذه النماذج، وهذا المقطع تعبير عن مرارة الواقع التي تدفع الشاعر الى معانقة الماضي، وهنا أسبغ الشاعرعلى التاريخ صفة الشيئية فجعله أدرد، وفي هذا إدانة للتاريخ، ولعلي أجد في المقطع إزدواجا في رؤية الشاعر، وفكرته هنا، اضطر إليه إذ يتمثل هذا الازدواج في انه لا يقبل واقعه من جهة، فينكفئ إلى الماضي، ولكنه في الوقت نفسه يدين قضية أن نعيش في الحاضر انطلاقا من الماضي، أي أن نجعل التاريخ الأدرد - الذي لا ينطق ولا يفصح عن حقائقه- منطلقا لأفعالنا ومتحكما بحاضرنا.
لقد وظف الشاعر ما يمتلكه من لغة خدمة للتعبير عن الألم والحرمان والظلم والانكسار الفردي أحيانا، والجماعي أحيانا أخرى، لذلك كان قاموسه الشعري يعج بالمفردات الدالة على تلك الرؤى الملأى بالحزن والهم والرغبة في الخلاص، ولكنها كثيرا ما تختبئ خلف ستار الصمت، وفي قصيدة (ذبول الآس)، يقول: سأحاول أن أجعل من ألفاظي خدما لمعاني آلامي/سلاما أيتها الوحشة/ كيف ترين سلامي/ وأنا أنظر صوب الطير المذبوح) (ص75)
كما نرى الشاعر يميل إلى استخدام الضمائر سواء كانت ضمائر ظاهرة أم ضمائر مستترة، وهي سمة لازمة في أغلب القصائد، ويقرر جاكوبسون في -نظريته الأسلوبية-، وظائف عدة للضمائر فالمخاطب أي (أنت) ذو وظيفة إفهامية - التماسية -، والغائب، أي (هو)، ذو وظيفة انفعالية، أما المتكلم الذي يطغى على أسلوب شاعرنا محمد كاظم جواد فهو ذو وظيفة مزدوجة، فمرة يأتي للانفعال، ومرة أخرى يأتي للإفهام، كما أن اللغويين يلخصون وظيفة الضمائر بالاختصار، ولا ننسى امتداد ضمير (الأنا) في تراثنا الشعري والذي استنفده المتنبي في مدائحه و مرثياته، وان استعمالاته لهذا الضمير بصيغتيه المذكورتين لا تحصى.
فهاجس الانفعال عند محمد كاظم جواد يقنن ما يرمي إليه، وهو يلجأ إلى مثل هذه المخاطبة (بالأنا) حيث يقول في قصيدة (آلام حادة): أنا المتوج بأسئلة لا تنتهي (ص291)، وفي قصيدة (سيدة البحر) أنا أحببتك في زمن مزقني الليل بأظفاره/ وأنا أخشى البوح بحبي (ص88)، وفي قصيدة (الأرث)، أنا أرتعد من شدة الخوف، وفي قصيدة (فرح مثقوب)، أنا أرقب الليل مساء مخبولا/ وأنا أحرق حنجرتي في نار كلامي (ص70)، وفي قصيدة (جذر الروح) أنا أبحث بين ثنايا الأشجار عن حلم هربه الليل.(ص58)
إن رجوع الشاعر إلى ذاته يعني استدخال القلق الوجودي والهم الإنساني إلى ذواتنا، واستغراقه لمعاناتنا (نحن)، فتتلاشى الحواجز وتنمحي الحدود بين الانوات، ومن ثم تندغم تلك الانوات في أنوية مطلقة، هي أنا الطائر الواجد، وأنا ذلك الشقي الأخير.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -لبلبة ربنا تاب عليها واتحجبت-??‍?? لما لبلبة مشيت في الشارع


.. مخرجة الفيلم الفلسطيني -شكرا لأنك تحلم معنا- بحلق المسافة صف




.. كامل الباشا: أحضر لـ فيلم جديد عن الأسرى الفلسطينيين


.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص




.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة