الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العين

بوزيد مولود الغلى

2013 / 9 / 20
الادب والفن


أكمل الفتى فترة الإثغار ، أطلت بطلْعها آخر ضرس وسقطت بعدها آخر سنِّ رضاع ، حملها في كفه إلى أمه فقالت : صُنها ولا تضيعها حتى تشرق شمس الصباح ، وولّ وجهك شطرها ثم قل : " يا أيتها الشُّميْسة ، هاك سن حمار ، واعطني سن غزال !.
لم يجل في خلد الولد السؤال عن الشمس المضيئة التي لا تعطي ولا تمنع ، ولكن عنّ له السؤال عن سر طلب سنّ غزال لا سن حمار! ، فدلف إلى أمه ووضع رأسه على فخذها ، وبدأت تمشط شعره السّبْط بيديها ، وهي تنشد : غزّيّل ميّل ...آه ، غزيَّل ميَّل ، آه ،,, أنصت إليها باهتمام ، ثم صوب بصره إليها و رفع حاجبيه مبتسما وقال : أمي ، لماذا نطلب من الشمس سنّ غزال ،ونعطيها سنّ حمار ؟ ، فقالت : إذا قلت ذلك ، خرجت أسنانك ناصعة البياض كالشمس إذا أشرقت ، و جاءت صغيرة جميلة كأسنان الغزال لا كبيرة كأسنان الحمار! .
كبُر الفتى و شبّ عن أسئلة الصغار ، وذات يوم ألمّ به وجع الأسنان ، فأخذه والده إلى " حجّام القرية " ، رجل طاعن في السن ، يمتهن الحجامة والختان و قلع الأضراس . أمسك الحجام برأس الفتى ، وفتح فاه ، وأدخل " ملقطا" ، وحرّك بشدة الضرس المريضة ، فشعر الفتى بألم شديد ، كأن مخيطا انغرز في رأسه!، تذكر أن الضرس العتيدة التي تقاوم الاقتلاع ، سنّ غزال كما حدثته أمه ، وقال في نفسه : إن كانت هذه سن غزال ، راسية ٌجاثمة في مكانها لم تبرحه الا بشق الأنفس وصداع الرأس ، فماذا لو أُعطيت سن حمار! .
استأصل الحجام الضرس ، وأراها للفتى الذي يتقطع وجعاً ، وقال : ها هي العدوة ، ياك حْنَا أصحاب ؟ ياك ما مخاصْمين؟ . افتر ثغر المريض المتألم عن بسمة غير عريضة ، و لم ينبس ببنت شفة ، لكنه نظر خلسة في وجه الرجل العجوز الذي ازدحمت جبهته بالتجاعيد ، و تمتم بصوت خفيض : ربما انتزعت سنّ حمار! .
عاد الفتى إلى بيته رفقة أبيه ، فوجدا في الطريق رجلا يحمل أثقالا على ظهر حمار ، وهو يضربه بقطعة من خرطوم مياه ، و يقول : ارّا ، ارّا ، زِيد يا حمار ، فالتفت إلى أبيه وقال : أي عذاب يلاقيه هذا المسكين ! ، يحمل الأثقال ، فينوء ظهره بالأحمال ، ويتثاقل خطوُه ، وينهال عليه صاحبه بالضرب الشديد ، أيُّ ظهر يملكه هذا الحمار ؟ ، تكاد تنسلخ فروة جلده ، فلا ينهق ، ولا يركل ، ولا يعض ؟ .نهره والده قائلا : ولمَ تغتمّ وتهتمّ بما ليس شأنك؟ ، إنْ قبِل الإهانة ، فلأنه مهيأ للإهانة ، وان صبر على الحِمل الثقيل ، فلأنه حمار ! .
أصغى الولد لكلام أبيه ، و تذكر كلام أمه الذي لا يبرح لسانها : الحرُّ بمهمازه !.
تقدم العمر بالفتى ، وأصبح حمّالا للكتب نبّاشا مقمشا لكل نص عن الحمار : من حمار توفيق الحكيم إلى حمار شاعر سوداني حليم ، ووقع في نفسه أن الحمير ستثور يوما أو تفرّ ، وانتابه شك من هجرة الحمير من قريته إلى فرارة سمّاها الناس : قرارة الحمير ، فظن أنها فرّت من البشر ، واستفرت بتلك القرارة الموحشة ، وقرّت عينها بما رأته من بعدِ من الوحوش وقرب من الوحيش.
غير بعيد عن القرارة ، شيّدت قبيلة عربية بيوتا من الطين و لملمت بيوت الشعَر ( الخيام) ، واتخذت لمستقرها اسم عينِ الحمار ، ربما تبركا بما يفيض من عين الحمار من ماء عند البكاء ، والماء لا يفارق عينيه الواسعتين كعين فياضة من الماء !.
ظلت القبيلة ترفل في النعم بوادٍ ذي زرع كثير وكلا وفير ، وضرع يدر الخير ، ولم يجل في خاطر أحد منهم أن تسمية قريتهم الوادعة الهادئة المطمئنة بعين الحمار سبّة أو فساد ذوقٍ إلى أن حلّ بمحلّتهم مسؤول رفيع الرتبة ، وسأل أحد عيونه أو أعوانه عن اسم القرية ، فتردد في الجواب وتلعثم ، وكأن الاستحمار أو اقتراض اسم عين الحمار مقدحة ومذمة ، ثم قال بعسر : س، س ، سيدي ، اسمها عين الحمار ! . غضب المسئول و احمرت خدوده ، وقال : وكأنه آمر بحفر الأخدود ، من أطلق هذا الاسم على هذه الجنة الخضراء اليانعة ليس له ذوق ! ، من الآن فصاعدا : سموها " عين الرحمة "!.
أتت سنون عجاف ، جفّ الضرع و يبس الزرع ،ولم ير الناس للرحمة من أثر ، فوقع في أنفسهم أن ظلم الحمار جور ، وأن اسم عين الحمار أبرك من رحمة عينِ المسئول ، فهبّوا إليه عن بكرة أبيهم ، وقالوا قولة رجل واحد : إن كانت هذه رحمتك ، فردّ علينا عين حمارنا ، وخذ عنا عين رحمتك !.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | الغناء في الأفراح.. حلال على الحوثيين.. حرام على ا


.. الفنان عبدالله رشاد: الحياة أصبحت سهلة بالنسبة للفنانين الشب




.. الفنان عبدالله رشاد يتحدث لصباح العربية عن دور السعودية وهيئ


.. أسباب نجاح أغنية -كان ودي نلتقي-.. الفنان الدكتور عبدالله رش




.. جزء من أغنية -أستاذ عشق وفلسفة-.. للفنان الدكتور عبدالله رشا