الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أليات بناء المشهد في رواية - ليالي البانجو- للروائي يوسف أبو رية

أماني فؤاد

2013 / 9 / 22
الادب والفن


آليات بناء المشهد فى "ليالى البانجو"
د. أمانى فؤاد
يعالج المبدع "يوسف أبو رية" فى نصه "ليالى البانجو"( ) ثالوثاً غير تقليدى، فهو وإن كان مكوناً من الزوج والزوجة والعشيق إلا إن المرأة هنا هى محور النص ومأساته الحقيقية، هى الكائن الأضعف، مستودع خيبات المجتمعات، وانهزام الرجال، ورغبتهم فى تعويض ما استلب من إنسانيتهم فى مجتمعات مقهورة ومقيدة، لذا يتحول التكوين الثالوثى إلى ثنائى، المرأة فى مواجهة المجتمع بكل ما يضمه من أفراد.
ينصب فى كيان "مها" وجسدها، إخفاقات من غيبوا عن الوجود والوعى الحقيقى المتفاعل مع العالم من حولهم، فلجأوا إما إلى المخدرات "خالد فخر الدين" العشيق، أو للتدين المظهرى الزائف، الزوج "سيد عبيد"، أو لعلاقات شاذة غير شرعية تستبيح جسد المحارم، الأب "مصطفى الشيخ" أو العم "حلمى الشيخ"، فى ظل معطيات خاصة لطبقة تنتمى إلى الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، وأقصى ما تستطيعه قضاء "أرخص ليال" على حد تعبير "يوسف إدريس"، دون رادع أخلاقى أو دينى.
ويتميز السرد الروائى عند "أبو رية" بقدرته على نسج مشاهد مبدعة يمتزج الواقع فيها بالخيال، ويتداخل فيها الاستشراف بالاتكاء على الرمز، مع الاسترجاعات الزمنية التى من خلالها يتيح لنفسه مسارب يتحرك فيها لينسج لشخوصه الورقية علامات الحياة النابضة، مثل التاريخ الأسرى للشخوص، والطبيعة النفسية الخاصة والطبقة التى ينتمون إليها، وهكذا من مكملات بناء العمل مثل التغيرات السياسية والاقتصادية فى إشارات سريعة.
لا تتكشف روعة بناء هذا المشهد الذى سأقوم بتحليله وبيان تداخل فنياته إلا بعد الانتهاء من قراءة الرواية كاملة، ومن ثم كأن النص يقدم لذاته وللقارئ دعوة أخرى لتعاطيه أو قراءته.
عند القراءة الأولى سيظل هذا المشهد الأم أو الرئيسى الذى يستغرق الصفحات الأولى من النص من ص 6 : 22 فى الذاكرة، "لسحر كامن فيه" طبقاً لمقولة "أرنست فيشر" عند تفسيره لِمَّ يميز الفن. كما لن تنفك شفرات هذا المشهد الضمنى الخاص بتتابع حركة القطار، والذى يستغرق صفحة واحدة، والوقوف على تخومه الرمزية والفنية، إلا مع الصفحات الأخيرة فى النص، كأننا بإزاء نص يقدم لذاته دعوة لعودة على بدء لقراءة أخرى، وهو لا يقدم ذلك غروراً أو تعالياً من المبدع، قدر ما يقدمه لدعوة ملحة للنظر فى قضية المرأة فى هذا المجتمع لمرة ومرات متعددة.
يتكون المشهد من لقاء بين "مها وخالد" العاشقين اللذين افترقا بعد زواج "مها" من "سيد عبيد" يحدث اللقاء ليلاً فى محطة قطارات قديمة على أطراف إحدى المدن. ويبنى الروائى مشهده وهو يصنع تراسلاً بين مكان الحدث وزمانه وأبطال المشهد مها وخالد والقطار أو مجموعة القطارات التى تدخل المحطة، وبين الواقع النفسى الداخلى للشخوص، وما سيتوالى من أحداث المأساة التى ستقع لمها. فتصبح حركة القطار فى مشهد ضمنى داخل المشهد الرئيسى موازية فى تواليها وتغيراتها مع ما سيتوالى من وقائع فى صراع مها مع كل أطراف المجتمع من حولها، تتقاطع حركة القطار فى دخوله بين رصيفى المحطة مع مراحل الصراع بالرواية فهناك أولاً: المقدمة أو التمهيد قبل بدء الدراما الحقيقية يقول "فالقطار لم يزل بعيداً"، يشاهدون نوره عند مدخل البلد، يزحف ببطء نحو المحطة، فلم تزل المدة كافية، دون التعرض للخطر" ص13.
يمثل القطار هنا نزير ما قد يحدث من تصاعد الأحداث قبل أن تنفجر الشرارة الرئيسية، ثم يبدأ توتر الأحداث فى الصعود، ويتقاطع ذلك مع ما قررته مها، يقول السارد المفارق واصفاً القطار فى تصاعد آخر للأحداث "والديزل يطلق صافرة ترتعش لها حوائط البيوت، وقلوب البشر وينتفض على صرخاته قلوب الأطفال النائمين" ص13. تستدعى تلك اللقطة الرمزية ما حسمته مها فى توالى أحداث الرواية التى ستقع تقول "وكان القرار حاسماً لا رجعة فيه، سأذهب معه، ولو لآخر نقطة فى الدنيا الواسعة، وليحدث ما يحدث، أبى الذى يلومنى، ويرجونى العودة إليه، حفاظاً على مظهر اجتماعى زائف، واقع فى نفس البئر التى لا قرار لها، إن أمى توارت من حياته، وصارت أم كريم هى بؤرة الوجود، لماذا لا تسمحون لى بما تتيحونه لأنفسكم؟ وقامت فى الصباح الباكر، بيضاء القلب، طاهرة من كل دنس، ومن كل شعور بالخطيئة" ص39. استخدمت مها حقها بأن تحيا دون مهانة ولذا لم تشعر أنها تتجاوز الأعراف. وتنطلق صافرة القطار فى هذا التكوين المجازى الرمزى كأنها مدخل حاد لسيمفونية صاخبة الإيقاع لما سيتوالى من أحداث متلاحقة وسريعة.
يحتدم الصراع بالرواية ويصل لذروته حين تهرب مها مع خالد لتعيش معه تاركة بيت أهلها مقررة التخلص من هذه الزيجة. يقول الروائى "وأخيراً، دخل القطار بين الرصيفين، تنقبض رئتاه، من كثرة ما جرى بين المدن، وارتاح فى وقفته عند أول الرصيف فى الجهة الأخرى، وبدت أجساد شاحبة فى ظلمة العربات" ص13.
دخول القطار بين رصيفين، وانقباض رئتيه من كثرة ما جرى بين المدن، يستدعى ما نعرفه لاحقاً فى النص، فيما يختص بمها فهى التى بين قطبى الرحا حبيب غير جاد فى الارتباط بها، وهدفه الوحيد الاستمتاع بجسدها، جسدها الذى يشتهيه الأب والعم فتقول عن أبيها "يضمنى فى حضنه بأحاسيس تتجاوز الأبوية وتلمس منه عشقاً خفيفاً بالتواطؤ من كليهما" ص21، أو قول عمها فى منولوج داخلى وهو يبرر مبالغته فى الانفعال إزاء هروبها "فكم من مرة يدعوها فى شقته لقضاء الليل معه عند غياب زوجته" كان يحب لمس بدنها وهى تتلقى اللمس، صامتة، عاجزة عن الدفاع عن نفسها ضد العم المهووس" ص56، أو زوج كريه فى علاقة لا تشعر فيها سوى بالاغتصاب المتكرر والذى يأخذ لباساً شرعياً.
تمثل كل هذه الضغوط الخارجية قطب، والقطب الآخر رغبتها فى العيش كما تريد، دون أن تهدر كرامتها ومشاعرها مع زوج "حاجته إليها تدفعها للقئ خلسة، قلة خبرته، وغشمه، مقرونان بشهوانية حيوانية، لا إنسانية فيها، المرأة مجرد فرج يتلقى السياط، دون عاطفة ما، كانت ستسمح لها بنسيان خالد يوماً إثر يوم" ص75 زوج يعد ما يفعله معها نجاسة.
فى تطور تصعيدى آخر فى نفس مشهد القطار يقول الروائى فى وصفه لركاب القطار: "وبدت أجساد شاحبة فى ظلمة العربات وهنا نستدعى الانهيار العصبى الذى سيطر على "مها" حين أرجعها عمها لبيت والدها بعد إقامتها مع "خالد" وهروبها من أبيها وزوجها، يقول الروائى "ظلت تردد أصواتاً غريبة عليها، كأنها تصدر عن شخص لا تنتمى إليه، أصوات غير متماسكة وجمل مهشمة، تود لو تقول شيئاً وتعجز فى التعبير عنه" ص70. نلاحظ هنا أن التوازى بين تتابع حركة القطار ووصف راكبه فى هذا المشهد الكنائى وبين ما سيتوالى من أحداث الصراع فى الرواية.
فى المرحلة الأخيرة تحولت الأجساد الشاحبة إلى رءوس مبتورة، يقول الروائى واصفا القطار فى مرحلة تطورية أخرى اقتربت من خاتة الرواية "وسار بثقله كثعبان شبع، امتلأت أحشاؤه بفريسة دسمة، ثم زاد من سرعته وتتابعت النوافذ تطل منها رءوس مبتورة، لركاب ساكنين اضطروا للسفر لا للمتعة بل للضرورة" ص13.
كأن قطار قيم هذا المجتمع الزائف يعيش ركابه دون رؤوس يعيشون بالضرورة لا للمتعة ودون كرامة.
يصف الروائى مها فى أزمتها النفسية يقول "تلقى السباب بلا حرج لبشر مشوهين يحيطون بها لإخافتها، فيبدون لها برؤوس مبتورة، وأجساد سقطت أطرافها" ص87.
فى نهاية مشهد القطار يصف الروائى، رحيله بقول "فأثار الكثير من الغبار الذى حلق فى سماء المحطة حتى غطى الوجهين الحزينين القابعين على الكرسى الوحيد على الرصيف المظلم والخالى من الركاب واختفى القطار تماماً" ص13.
يبقى التراب والحزن والموت والدماء أشياء ومعانى تغطى الوجوه فى مجتمع لا يعرف أن يحرر أفراده، ويعلى من إرادتهم وما يتخيرونه، وتموت "مها" فى نهاية العمل تاركة علامات إستفهام متعددة، كلها موجهة لا لشخص بعينه، لكن لكل الشخوص ولكل أفراد المجتمع الذى لا يعاود النظر فى قيمه التى تستلب حقوق الإنسان وبخاصة المرأة.
تبقى عدة ملاحظات أود أن أشير إليها فى هذا المشهد الذى توازى بنائه الرمزى مع أحداث الرواية جميعها:
(1) لم يسمى الروائى المدينة التى تدور بها أحداث الرواية، وأتصور أنه قد تعمد هذا، فوقائع النص تتكرر للمرأة فى كل مدينة وقرية مصرية، وهو إذ يطلق إسم المدينة من القيد إلا أنه يوفر لعنصر المكان فى نصه بعض التحديدات والتفاصيل؛ ليوحى بواقعية الأحداث ودراما النص.
(2) يحتوى "المشهد الأم" مشهد لقاء خالد ومها فى محطة القطار بجانب المشهد الرمزى الموازى بعض المشاهد الثانوية التى ترسخ وتنسج كياناً فنياً لبناء الشخوص وفيها يعرض للتحولات التى طرأت على المجتمع، وعينه على بعض إشارات سياسية.
(3) فى نفس المشهد تتوالى مجموعة من القطارات المتهالكة العجوز، مع استمرار حوار عدمى، بين أنثى عاشقة تريد الخلاص من زواج مخزى، والارتباط بحبيب لا يعنيه سوى ذاته وملذاته؛ لذا تتدافع ذكرياته عن أبيه وعائلته ومجدهما الزائل، فى استرجاعات لم تكن لتتم إذا كان معنياً بهذا الكيان لدرجة كافية.
(4) فى نفس هذا المشهد يجهد ذهن "مها" تستحضر علاقة مع زوج جلف وحماه ظالمة، أو علاقة سرية غير مبرءة مع أب مشتت، تاريخ علاقات تشعرها بالتقزز ومحاولة خلاص لا تثق فيها حتى فى الشخص الذى تعوول عليه.
(5) تبدو المرأة فى نص "ليالى البانجو" كائناً جميلاً لكنه هش وضعيف مفعول به وفيه لا يستطيع الفعل، وإن أقدم عليه مصيره الموت والرفض.
فحين يصف الروائى جمال مها يقرنه دائماً بالنور والإضاءة وحين يصف أزياءها فهى دائماً سوداء، الإضاءة من الداخل والسواد من الخارج، السواد الذى يفرضه المجتمع وعاداته وتقاليده التى تكرس لكل هذا الظلام، وتبدو الأم والأخوات وأم كريم كلهن لا شأن لهن يذكر، ولا يستطعن تغيير ثقافة ذكورية خانقة للمرأة، ودافعه لها للخطيئة أو الموت.
فى الرواية كثير من المناطق الفنية المضيئة التى تجعل لها سحراً خاصاً مثل:
(1) هذا التوازى بين المشهد وتقنياته الفنية المتعددة وبين أحداث الرواية، المشهد على هذا النحو يقدم ذاته فنياً منغمساً ومنفصلاً فى آن واحد، وهو ما يحقق تمثيله للواقع ولشخص مها وطبيعة تواجدها بهذا المجتمع، كما يحقق بعض الغموض الشفيف والجميل.
(2) فى "نص ليالى البانجو" بعض المشاهد المنسوجة بعناية فائقة، وهى تحمل فى طياتها كثير من الطاقات الروحية الخاصة بالإنسان مثل مشهد "صحوة الموت" ورقصها البدائى فوق سريرها قبل وفاتها، ومشهد القارب والمياه والرجل الذى يجدف لها، أو أحلام والدتها قبل أن تلحق بها بعد موتها.
(3) هناك تعامل فنى راق مع أدبية اللغة ومجازاتها من خلال كثير من الصور الفنية المبدعة، خاصة فيما يتعلق بتصوير الشخوص مثل تصويره لسيد عبيد وخالد فخر الدين، وما يميز كلاهما من أوصاف
(4) هناك سعى دائب من الروائى للخوض فى الذات الإنسانية والمناطق الغرائزية الدفينة بها، نبش متعمد فى أعمق المشاعر المسكوت عنها، وهو ما اتسمت به كثير من أعمال الروائى يوسف أبو ريَّه مثل "ليلة عرس"، وصمت الطواحين.
(5) حضور الجنس بصورة مكثفة ليس فقط فى صلب الموضوع المعالج، بل أيضاً من خلال مشاهد متناثرة، تزيد من وقع وفداحة تأثير الغرائز بدفع طريقة حياة الإنسان فى هذا المجتمع الخانق لحريات الإنسان.
بالعمل بعض المناطق التى كانت تتطلب تعاملاً أكثر سبكاً وربما يرجع ذلك للفترة المرضية التى مر بها الروائى عند كتابته لهذا النص مثل:
(1) التكرار الذى يقع بالفصل الخامس لبعض الإشارات عن الشعلة أو السجن والترعة وهى لا تضيف جديداً فى مضمون النص أو تشكيله.
(2) النص لا يقدم مبرراً قوياً لخيانة عاطف أبو الخير لصديقه حتى لو لإختلاف الطبقات.
(3) يضعف النص كثيراً ما يبدو من تعلق مها الجسدى والغريزى فقط بخالد دون إعطائه أبعاداً أخرى تبرر ثورتها على حياتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال


.. محمود رشاد: سكربت «ا?م الدنيا 2» كان مكتوب باللغة القبطية وا




.. جائزة العين الذهبية بمهرجان -كان- تذهب لأول مرة لفيلم مصري ?


.. بالطبل والزغاريد??.. الاستوديو اتملى بهجة وفرحة لأبطال فيلم




.. الفنان #علي_جاسم ضيف حلقة الليلة من #المجهول مع الاعلامي #رو