الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المدينة الأناركية (1)

هادي بن رمضان

2013 / 9 / 24
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


دقائق قبل إعلان هروب بن علي..

في حي شعبي بضواحي العاصمة يقطنه قرابة 70 الف نسمة ...
إجتمع بإحدى الساحات كل أبناء الطبقة السفلى .. حضر كل من اعتقلت السلطات اقاربه بتهمة الإنتماء لتنظيم إرهابي .. كل من افتكت السلطة بالقوة مصدر رزقهم البائس الذي لا يكاد يلبي حاجيات فرد واحد .. حضر كل من اعتدى عليه أعوان الامن جسديا او لفظيا وكل من وقع إيقافه بتهمة الشغب في الطريق العام .. كل الذين يستفرغون مشاكلهم وهموهم في الملاعب نهاية الأسبوع .. حضر كل أبناء الفقراء ...

كان الحشد متوجها إلى مركز الأمن ومقر الحزب السابق .. كانوا متوجهين لمخبأ كل أشكال الإذلال والإهانة للكرامة الإنسانية .. كان هذان المقران عبئا ثقيلا على السكان لامتداد عقدين من الزمن .. كانا يد الدولة المشرعة للعبودية و المعاقبة لكل الأيادي المطالبة بالحرية والعدالة الإجتماعية ...

تعالت الهتافات المطالبة بإسقاط النظام .. كان النظام في نظر أولئك ليس إلا مجرد مركز أمن ومقر الحزب .. كان وجود الدولة ينتهي بإنتهاء وجودهما . كانت الحرية أسيرة بين الجدران ...


فور وصول الحشد إلى "المنطقة الخضراء" إندلعت النيران في كل مكان .. هرب كل اعوان الامن إلا واحدا فقط عرفت عنه إعتدائاته المتكررة على شباب الحي وحوصر بين الأزقة ليطعنه احدهم بسكين . أتلفت كل الوثائق التي كانت في معظمها محاضر إيقاف بتهمة السكر والشغب في الطريق العام وهما التهمتان اللتان طالما وجهتا لكل المحتجين ...


عمت الفوضى ارجاء الحي .. ظن الجميع ان البلد على وشك حرب اهلية مع انتشار الشائعات التي يطلقها الفلول في كل مكان .. شكل المتساكنون "عفويا" اللجان الشعبية لحماية الممتلكات .. مرت تلك الليلة كالف ليلة كل يخشى على حياته وممتلاكته في ظل تلك الفوضى العارمة, كانت الليلة التي اختفى فيها كل المخبرين "الصبابة" مع هروب رئيس البلدية إلى الجزائر خوفا من الإنتقام الشعبي .


في اليوم التالي اعتاد الجميع بسرعة على نمط الحياة الجديدة .. تستطيع ان ترى الفرحة في تعابير وجوه المتساكنين .. قامت اللجان الشعبية بتسيير الخدمات العامة .. حراسة المخابز والتوزيع العادل للخبز والفحم والغاز وكل المواد الغذائية ... أما القناصة الذين قبض عليهم فقد تم تسليمهم إلى الجيش بعد أن فقدوا الوعي ...
معظم المتواجدين بالشارع كانوا مسلحين وبعضهم كان مخمورا بعد اقتحام مخزن لقوارير الجعة ... في هذا الحي ايام "سيادة الدولة والقانون" كانت احداث الشجار والقتل قد صارت امرا عاديا لكن وسط هذه الفوضى بكل مسلحيها ومخموريها ومجانينها لم يحدث ان وقع مثل هذا الامر .. سوى بعض الحالات الشاذة والتي كانت تنتهي بالحديث عن ضرورة الوحدة دون اللجوء "لحروب أهلية" كما كان يحدث في السابق !


لم يكن هذا الحي المدينة الفاضلة لأفلاطون او مجتمعا من المفكرين الكبار .. كان مجرد حي فقير ارتبط اسمه بالجريمة نزعت عنه "الثورة الفوضوية" النظام القديم واستبدلته بنظام جديد طوعي نابع من التفاهم و التضامن والمعونة المشتركة بين كل الأفراد .. لقد كان مدينة أناركية .


بعد مرور أسبوع على شكل الحياة الجديدة أتت دورية امن تطالب بعودة النظام القديم وتخلي اللجان الشعبية عن دورها .. إنتهى الأمر باختباء أفراد الدورية خلف قوات الجيش هربا من الغضب الشعبي ...

بعد مرور ثلاثة عشرة يوما على سقوط النظام إنخفظ "الزخم الثوري" وتقلص عدد أفراد اللجان الشعبية وإستعاد النظام سيطرته على وسط العاصمة .. عادت حينها دورية أمن أخرى مطالبة الجميع بالعودة إلى الحياة المذلة المهينة القديمة وترك مهمة حماية الممتلكات لمؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية .. كانت تلك اللحظة الفارقة التي حكمت على الثورة بالموت بخضوعنا ورحيلنا عن الساحات وقد استحضرت حينها قول باكونين :

(رأينا الحرية مرة واحدة عندما سرنا في جنازتها لدفنها)



الان بعد مرور 3 سنوات على ذكرى الثورة وتسليم مصيرها إلى الساسة والأحزاب اصبح المشاركون في ذلك الحدث العظيم يتلاعنون كل يدافع عن حزبه وزعيمه .. اختفى المخبرون وانتشر انصار "حركة النهضة" يحدثون الناس عن مؤامرات داخلية وخارجية وانجازات لا وجود لها .. عادت الممارسات الامنية القديمة وعاد معها مقر الحزب الحاكم في ثوبه الجديد...


كل الثورات اليوم اصبحت تنطلق عفويا من الشوارع يقودها الشباب عبر مواقع التواصل الإجتماعي بلا قادة او تنظيم او تنظيرات .. مثل هذه الثورات العفوية تكون بالضرورة "أناركية" لكنها انتهت بالفشل .. لقد فشلت ثورتنا في تونس لأن قوى الثورة لم تكن تملك برنامجا ثوريا واضحا وسمحت للنظام القديم بأن يعيد تنظيم نفسه من جديد باعتماده على ثقله المالي والإعلامي و سذاجة الوعي الشعبي ولاننا انتظرنا قدوم البديل المناسب واعتبرنا الساسة والاحزاب الوسيلة الوحيدة للتغيير .. هؤلاء الذين سلمنا لهم مصير الثورة فتحالفوا مع النظام القديم وسعوا لفرض دكتاتوريتهم الجديدة أما الساسة الاخرون الذين يقفون في الصف المعارض ممن يدعون الثورية ويرفعون شعارات معاداة "الراسمالية" و"الإمبريالية" وغيرها فقد تحالفوا أيضا مع رؤوس الأموال الفاسدين والبعض من رموز النظام السابق ممن لم يجدوا مكانا لهم في الصف الاخر لتقاسم كعكة الوطن .. لقد كانت ثورتنا حلما جميلا أنهيناه بتسليمه إلى الساسة وأرجو ألا يحدث ذلك مجددا لأننا سنكون قد تعلمنا من أخطاء الماضي...









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. Human Rights - To Your Left: Palestine | عن حقوق الإنسان - ع


.. لمحات من نضالات الطبقة العاملة مع امين عام اتحاد نقابات العم




.. كلمات ادريس الراضي وخديجة الهلالي وعبد الإله بن عبد السلام.


.. الشرطة الأمريكية تعتدي على متظاهرين داعمين لغزة أمام متحف جا




.. الشرطة الأميركية تواجه المتظاهرين بدراجات هوائية