الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذكريات...أمواج متلاطمة ...يونس...المهدي

عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .

2013 / 9 / 29
الادب والفن



وبينما يتهادى البحر في مجراه العميق، ويؤدي المسلمون الصلاة، وتحلق شمس شتنبر في كبد السماء ؛ كنا نتراشق أنا ويونس بالماء ؛ كان ذلك الوقت أول عهد لنا بالكلية، فكنا منشرحين بولوجها، فالجو الذي كان سائدا بالثانوية ؛ كان يشل الأنفاس، أما الكلية، فكانت مجالا رحبا لحرية الإنسان والأفكار .
كنا نغادر الكلية، ونمتطي الدراجة، فنعرج على محلبة " ب ابراهيم "، فنبتاع خبزتين، وسمك مصبر من نوع " سيفيانة "، إلى جانب قنينة " موناضة "، وبعدها نهيم نحو البحر . كانت المحمدية بالنسبة لي كالأم، وهي تلقن أبناءها مبادئ الحياة، فبينما كانت تتحرك العجلات، وتقتحم المدينة القديمة ؛ كنت أمتد امتداد هذه المدينة، وفي الوقت الذي تتوقف فيه الدراجة، وأنظر إلى الناس ؛ كنت أكتشف المختلف في الإنسان ؛ أ لست ابن مدينة أخرى ؟ إن هذا الاكتشاف كبر معي، فكنت دائما أبحث عن المختلف لأكمل إنسانيتي، وهكذا فعندما دخلت إلى المدرسة الابتدائية ؛ كنت أسعى إلى التواصل مع التلاميذ الآخرين الذين ينتمون لدواوير أخرى، ونفس الشيء حصل عند ولوجي المدينة، فكنت أبحث في أفكار التلاميذ المدينيين ، ولكن تبقى القرية هي المنظار الذي أرى به العوالم الأخرى .
المحمدية ؛ كما تخيلتها ليس كما عرفتها ؛ لقد كنت أتخيلها كالوحش، ولكن لما عرفتها رفقة يونس أصبحت كالحمل الوديع ؛ لقد أصبحت كذلك في وجداني بواسطة بحرها، فالأمواج المتلاطمة، والموسيقى الذي تتسلل إلى الأعماق ؛ جعلت مني إنسانا يهفو إلى السلام ؛ أجل، فدروس الكلية، والكتب التي كنت أحمل معي جوار البحر ؛ كانت كلها دروس علمتني المحمدية إياها .
حينما كنا نصل إلى البحر ؛ كنا نجده شبه فارغ، اللهم من بعض السياح والصيادين، فكنا ندخل إليه حتى يهدنا العياء، وبعدها نعود أدراجنا صوب ما حملنا من المحلبة، فرغم بساطة ما كنا نحمل، إلا أن ذلك كان شهيا، ولا أنسى يونس حينما كان يقول مبتسما : " أعرف أنك تحب الأسماك، لقد قضيت معي أكثر من نصف عقد في القسم الداخلي، وكنت تقبل عليها بشراهة، فإذا تدخلت اليوم في محاضرة حيرا، سأعطيك سمكة إضافية، ولكن عليك أن تستشهد بالعروي، فله أفكار رائعة وقيمة في إشكالية النهضة " ؛ يسكت، ثم يواصل : " إذن استشهد أنت بالعروي، وأنا سأستشهد بالجابري حتى وإن كان تراثيا " ؛ " كن في الموعد يا آكل الأسماك " ؛ كان يضحك، وكنت أضحك كثيرا ؛ لم نكن نفكر في المستقبل، بل فقط في الحاضر، كانت جهودنا موجهة نحو الكلية، أما أحلامنا فجد بسيطة، نريد أن نفكر مثل هؤلاء الفلاسفة، ونبحث عن إيجاد حلول لمشاكل أمتنا العربية، فحينما كنا نسمع العروي، كانت ترتعد فرائصنا ؛ العروي كان أيقونة، وكتابه " العرب والفكر التاريخي " ؛ كان نقطة مفصلية خلال أيامي الأولى بالجامعة ؛ إن مكتبة الكلية كانت ملاذنا، وأرض استقرارنا، أما البحر، فالأرض الثانية التي كنا نرتحل إليها ؛ ننتهي من تناول السمك، ونشرع في تجرع " موناضة "، كان طعمها لذيذا كنسيم البحر، وشهيا كحليب أمي .
نلبس ملابسنا، ونغادر البحر، ولا نتأخر في أخذ صور، وكنت أقول ليونس : " يوما ما لن تتكرر هذه التجربة "، فيرد علي : " نحن وجدنا للحاضر، ولم نوجد للمستقبل، إننا كحبات الرمل لا تعلم أين تقودها الرياح "، فيأخذ يونس الصورة عبر هاتفه على مضض، وأقول له : " لا تنسى أن تضعها في الفايس، وكذلك مقالتي ؛ أكتبها على موقع الحوار المتمدن "، فكان يونس لا يعرف الرفض، يعدني، ولما أدخل إلى الفايس، أجده قد كتبها، حينما أقرأ لا تعجبني الكيفية التي كتب بها، فأحتج عليه، ولا يحرك يونس ساكنا، لقد كان إنسانا طيبا، وارتكبت هفوات كثيرة في حقه، ونادرا ما كنت أنتبه إليها ففي بعض الأحيان أعتذر له، وفي أحيان أخرى يغيب ذلك ؛ يونس كان درسا، وفي نفس الوقت إنسانا نستمد منه معنى وجودنا، فالعديد من الأفكار جربتها انطلاقا من هذا الإنسان، فهو لا يتكلم من لا شيء، بل انطلاقا من حجج دامغة ومتينة، لقد تربى في القرية، وتجرع معاناتها، وتتلمذ بعيدا عنها في قسم داخلي، وفي أتون الصيف يعمل في الشوارع والحقول . مازلت أذكر مجيئه إلى قريتنا، وارتشافنا الشاي معا، وتناولنا للهندية في ذلك الصيف القائظ .
كان يونس رمزا للكرم، وللكلمة كذلك، كان لا يضغط على جيبه، بل اتسم هذا الأخير بالحركة، ونفس الشيء بالنسبة للكلمة، فما فتئ يدافع عن أفكاره ببسالة، ويقولها بجرأة، فهو لا يحب المراوغة والمخاتلة، بل هو واضح، لأنه يعتبر السطح هو أصل الإنسان، فلا وجود للعمق، فهذا المفهوم صنعته فئة لتهيمن على أخرى، ومن ثمة فمنطلق تمثلاتنا هو الجلد، لأنه عبره نبني أحكامنا، هكذا كان يونس، لا يؤمن إلا بالإنسان، ولا يهادن المتملقين، وخصوصا هؤلاء الذين كانوا يدرسون معنا، لقد كان ينظر إليهم كتتمة للتملقية السياسية المستشرية في البلد، وبالتالي كان نقده بنيويا للثقافة القائمة، فغادر الكلية هو حانق، غير أنه لم ينتبه أن داخل الثقافة القائمة المريضة يوجد أناس من يتكفلون بالإطاحة بها، فزج بالكل في نفس المعتقل، فعاش آخر أيامه بالكلية متعصبا ورافضا للحوار، ومقتنعا بمبادئه، دخل يونس الكلية و هو ابن الفلسفة، وغادرها وهو ابن العقيدة، يونس رفض الثقافة القائمة بالكلية، لكنه سقط فيها، ولكن رغم ما حصل، فإنه سيبقى في وجداننا حتى وإن كان قد اختفى، فما أن أذكر يونس، وكلماته الرنانة التي تتردد مع الهواء ...يونس...يونس...هناك في الكلية بدأت أحلم .

2-

كان الثلاثة يتراشقون بالوسائد، واحد يضحك، و الآخران منغمسان في اللطم والضرب . يحتدم الصراع، سرعان ما يخف ؛ يقول واحد للآخر: " سأكون شرطيا، وأتصادف معك في الطريق، وأزج بسيارتك إلى المستودع "، يشمئز منه الآخر، فيرد عليه : " يالك من سلطوي، إنني أشم فيك رائحة السلطة " ؛ يضحكان، ثم يعودان إلى وهجهما، أما الثالث، فقال لهما : " أنا أريد أن أصبح صحفيا " ؛ يستهزئ به أحدهما : " لا أظن أنك تجيد هذه المهنة ؛ الملائم لك هو أن تبحث في العيطة "، ينفجر ضحكا، فينفجران معه .
يعود كل واحد إلى فراشه، فينطمر الجميع تحت الملاءة . ينضب الخبز . اللهم بعض الفتات المرمي فوق الخزانة . الجوع ينخر الجسد . والجو السائد في القسم الداخلي يبعث على التقزز، كلمات مخزية تتلاطم كالموج، وتنكسر بين الجدران كما تنكسر المياه بين الصخور ؛ كان المهدي وافدا جديدا على هذا القسم، ففي حدود الرابعة صباحا ظل نائما كما كان يعيش في منزله الريفي، لكن أحد الزبانية من المعلمين الداخليين رماه بسطل مثلج، فاستيقظ مذعورا كالثور الهائج . لم يفهم شيئا . كلمات تتقاطر عليه كالذباب ... " نوض التقود سير ليتيد ... و بعرود ...هبط ..." يترنح المهدي كالثور الدائخ...فيركله المعلم الداخلي، ويصفعه الآخر على جبهته : " وليتيد آ بنادم " ... " مكتفهمش آ الخرا " .
زطام ...حارس عام للقسم الداخلي، يقضي أيامه الأخيرة . يتمايل كالدب . امتلأت كرشه بالفرائس .عمر مديد في هذه المهنة . يجلس أمام الباب، فينظر بحسرة إلى الأيام الخوالي . يتجمع حوله المعلمون كمن يعاني هلوسة الموت. يزفر زفيرا كنوة الشتاء . يحملق فيه التلاميذ حملقة الوداع، ويتذكر المهدي يوم أن مسك به من شعره، وأدار به الأرض، يوم اعتبره بطليموس عصره . لكن أيام زطام مرت كئيبة كوجهه، ذابلة كخريف قريته، وبطيئة كحمير خيمته ؛ المهدي...كبر وترعرع، لكن مازال القسم الداخلي يظهر له أمام عينيه ...يوم كان طفلا يلعب مع زملائه التلاميذ الداخليين ...أين هم ؟ أين قادهم المصير ؟ هل تحقق حلمهم حين كان يتلاعب معهم بالوسائد ؟ المهدي يحس بأنه مات، ولكنه الآن انبعث من الرماد، وأخرج الماضي المنسكب عليه من العدم، وحلم الحياة مازال يراوده، لأنه يعتبر أن الكتابة مسؤولية تخرج أصحابها من النعاس إلى اليقظة .
يجلس المهدي على أريكة بكلية بنمسيك . نظره ساهم نحو الأرض . سمعه ينصت إلى حشرجات . لكنه ذاكرته ثقبت جدار الماضي، وحلمه شق أفق المستقبل . يبكي المهدي . لكنه يضحك . فبفضل عزمه انتصر على التحديات . ينظر إلى رجله، فيطفو عليها آثار المسافات، وعليها يكتب اسم عبد الله الذي طواه النسيان، لكن آثارا متقطعة تحيل عليه .

عبد الله عنتار – الإنسان - / 20-29---09—2013/ واد زم - المغرب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان وهران للفيلم العربي يكرم المخرج الحاصل على الأوسكار ك


.. محمود حميدة يحمل الوهر الذهبي من مهرجان وهران للفيلم العربي




.. تفاصيل أول زيارة لمصر من الفنان العالمي كامل الباشا?? #معكم_


.. خطبة باللغة العربية.. ما الرسائل التي أراد المرشد الإيراني إ




.. تاريخ كبير للفنان الفلسطيني???? كامل الباشا ?? #معكم_منى_الش