الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


واجدة

أحمد الشافعي

2013 / 9 / 29
الادب والفن


واجــــــــــــــــــــــدة
عاش عمــره يتأرجح بين قيم وطنية ومبادئ أخلاقية دون تزمت أو تهاون ، لا يعرف إن كانت صيحيحة أم خاطئة ... أدى الامتحان ووجد ثلاثة من زملائه يعترضونه أثناء خروجه من الكلية ، فبادروه بقولهم ، نحن انتهينا من الامتحانات ، واتفقنا ثلاثتنا أن نسافر إلى فرنسا أو ألمانيا سفر طلبة ، ولن نعود ... نعمل هناك وأهالينا سيرسلون لنا شهادة الليسانس ونكمل دراستنا هنا ، قال : أنا أمامي التجنيد ولابد من إزالة آثار العدوان ، فابتسوا سخرية ، وقالوا : وهل أنت من تسبب في الهزيمة ، نحن سنسافر أنت وشأنك .. تسلم نتيجة الامتحان ... ذهب إلى منطقة التجنيد ليسلم نفسه للجندية .. توقف واشترى جريدته .. وقف يتصفحها ، فوجد تنويها في مربع أسفل الصفحة الأولى تاجيل تجنيد خريجي كلية .... للعمل كمدرسين بالتربية والتعليم حتى بلوغهم سن ... توقف أمامه اتوبيس نقل عام .. ركبه وتوجه إلى وزارة التعليم ، وسأل عن صحة الخبر ، قالوا: نعم سلموه عدة أوراق كتب فيها بياناته ... تعجب من تصرفه ، فلماذا لم يسافر مع أصدقائه مادام لم يذهب للتجنيد واختار أن يعمل مدرسا .. جاءه خطاب للعمل هناك في أقصى الجنوب .. جهز حقيبته وركب القطار متجها إلى مكان عمله المرشح له ، استلقى على الكرسي .. تحرك القطار نظر خارجه لم ير سوى الظلام وعدة مصابيح تومض وتختفي .. ضغط على مكبح المقعد ليضعه في زاوية تسمح له بأن يكون أكثر راحة ... داعب النوم جفونه فاستسلم ونام ، لا يعرف كم مرَّ من الوقت فاستيقظ على يد الكمساري تهزه ....
فأدخل يده في جيبه وناوله التذكرة ، وعاد ليواصل نومه فانتبه لمن تقف بجواره ، هتف بلهفة: آنسه واجده .. ابتسمت .. قال : إلى أين؟ قالت: إلى محافظة قنا .. فرقص قلبه .. قنا .. عينت في قنا .. معي .. أليس لك مقعد ، قالت : لا ، ركبت من نصف ساعة من بني سويف .. ما العمل إذن؟ هل ستقفين حتى قنا .. قالت أنت وذوقك ، وضحكت .. أنار وجهها غمازات ثلاثة في الذقن والوجنتين وعينان كحيلاتان شديدتا السواد ووجه وضئ .. فاستلقي للخلف وأغمض عينيَّه وقال في نفسه وبعدين المسافة مازالت طويلة ونحن في أول الليل ... قال : عندي حل ، قالت ما هو ؟ قال : أن نتبادل هذا الكرسي كل ساعتين ، أو أن تجلسي على هذا المسند السفلي الذي أسند عليه ساقاي .. نظرت باستغراب ، أأجلس بين ساقيك ؟ فوقفت وقلت لها اجلسي .. اجلسي ، فجلست ولكنها نحت مسند اليد وقالت اجلس بجواري وجلست بجوارها فقد كان الكرسي يسع حجما أكبر من حجم أحدنا ... كانا ملتصقين .. واخذ يروي لها ما حدث منذ أديام الامتحان حتى لحظة لقائهما في القطار ... قال لنفسه : صدفه جميلة أن أزاملها في هذه الرحلة ، لو تكتمل ونعين معا في مدرسة واحدة .. فقالت : في ماذا تفكر؟ قال لها ما كان يدور بينه وبين نفسه فابتسمت ابتسامتها المشرقة الرائعة .. وخفَّض مسؤول العربة الإضاءة ، فغفوا لفترة قد تجاوزت من الممكن الساعة فانزلقت يده عليها وذراعه كان يلامس صدرها ، ولما انتبه تكور ولملم نفسه المبعثرة وهي ربما تصنعت النوم .. ولما انتبهت ، قال لها نذهب إلى البوفيه ، قالت: ماشي .. جلست أمامه ... تأمل كل حياته فلم يجد فيها مثل هذا المشهد ، فلأول مرة في حياته يجلس على تربيزة في بوفيه أو في أي مكان أمام أنثى جميلة سمراء في سمرة طمي النيل بمفرده .. الله ، فشعر بزهو عجيب جدا وانتشاء فتذكر ابنة عمه التي تأبيت عليه ورفضت حبه لأن والده ووالدته ناس بسيطة فتكبرت عليهما كيف يكون هذا الرجل حماها وهذه السيدة حماتها .. هام على وجهه في شوارع القاهرة ولكنه عزم على أن ينساها فذهب إلى خالها الذي كان صديقه وسهر معه وشرب زجاجات البيرة وكأس من الويسكي وتقيأها في بالوعة المجاري ... فقال بصوت مسموع : أين أنت أيتها المتأبية من هذا الجمال البديع .. فقالت له: ماذا تقول؟ قال: لا شيء .. وأردف قائلا: إنها الأقدار ... تمنى أن يحبها وتحبه ويتزوجها .. كانت تتكلم وتبتسم ، وهو يتأملها بعينيه ويستكثرها على نفسه ... نزلا صباحا في محافظة قنا وذهبا في حنطور إلى مديرية التعليم وتسلما خطابات الترشيح لمدرسة ... الإعدادية الحديثة ... عادا إلى محطة القطارات وركبا إلى تلك البلدة التي كان بها مصنعا للسكر، هي ذهبت إلى سكن للمدرسات المغتربات ، وهو أخذ يبحث عن سكن يبيت فيه ليلته بمعاونة رجل تطوع للبحث له عن شقة يسكن فيها ، فأمسى الليل وحل الظلام وهو مازال يبحث عن مكان يقيم به ، إلى أن وجد شقة لا بأس بها ، فذهب واشترى سريرا من الجريد ومرتبة ووسادة وغطاءا ، وصاحب البيت ساعده في شراء مستلزمات المطبخ .. انتصف الليل وهو ينزع ملابسه ويستلقي على سريه متعبا ومرهقا وجائعا ، فسمع من يطرق عليه الباب .. وجد أمامه صاحب البيت يحمل له عشاء عبارة عن جبن وبيض مقلي وخبز ... شكره ... وحاول أن يتعفف ولكن صراخ أمعائه ناداه أن يتناول من الرجل الكريم طعامه .. نام كما لم ينم في حياته سعيدا وهانئا ... ابتسم وطار به الخيال ولكن النوم غلبه حتى استيقظ على طرقت الباب ففتحه فوجد الرجل نفس الرجل يحمل له فطوره فقال له صباح الخير يا أستاذ ، فحاول أن يعتذر ولكن الرجل دخل ووضع الفطور علي التربيزة .. فشكره فغسل وجهه وأسنانه وجلس يتناول فطورة ، فتمنى أن تشاركه واجدة فطوره ...ذهب إلى المدرسة فوجدها أمامه قد سبقته ، فسألته فحكى لها ما حدث له ، فقالت: يا حرام .. فخرجت (يا حرم) من فمها عذبة وشجية وتسللت إلى مسامعه كما لم يسمعها من قبل .. قدم خطاب الترشيح لناظر المدرسة الذي رحب به وكان هو الآخر قاهري من دير الملاك سارت بهما الأيام بالمدرسة .. في يوم التقى بها في الشرفة أمام الفصول بالدور الثاني ، وفجأة وقف أمامها وقال : واجده أنا أحبك .. وصمت ، ثم أردف أتمنى أن أتزوجك .. أحبك جدا .. فقالت : أحمد .. وأنا أحبك ... سمع اسمه يخرج من بين شفتيها حانيا .. سرى في جسمه خدر ، وطرب ونشوى تسللت إلى أوصاله ، كأن هاتف من الجنان نطق اسمه .. اغرورقت عيناها بالفرح واحمرت جفونها ووجنتاها اكتست بالحمرة والسمرة وأشرقت الغمازات أنارت وجهها العذب .. قال لها : منذ متى ... قالت ونحن في السنة الثالثة بالكلية وأخذت تُذكره بالملزمة التي أخذتها منه وكتبت عليها أبيات من الشعر لكثير عزة ، قال نعم .. نعم , كم كنت حمارا ... لقد ضيعت من عمري أياما جميلة .. الحمد لله ... الحمد لله كان للصدفة دورا رائعا ، كان من الممكن أن أسافر إلى ألمانيا ولا نلتقي ، أو لا أشتري الجريدة ويتم تجنيدي .. أنا سعيد سأطير من الفرح ... قالت له : وهي تهم أن تلتهمه بعينيها الجميلتين ... لابد أن توفر كل مليم من الآن ، أنت مسرف جدا .. قال : من الآن يا حبيبتي .. لن أصرف مليما إلا في موضعه .. حاول أن يمسك يدها .. فنبهته ، نحن في المدرسة ... انصرفا في آخر اليوم ، وتقريبا كانت كل المدرسة قد أحست بأن شيئا جديدا قد حدث ، سأله أحمد مصطفى مدرس اللغة الإنجليزية فيك شيئ قد تغير اليوم .. قال له : نعم .. قال : أنت وواجده .. قال : نعم .. فاحتضنه وقال : مبروك ... بنت هايلة وجميلة وشاطره ... انتهى العام الدراسي ، وكل ذهب إلى مكان معاشه وإقامته ، هو إلى القاهرة وهي إلى بني سويف وتواعدا أن يتفابلا في القاهرة .. ولما عادا في العام الدراسي الثاني أحسا كلاهما بتغير ما ، هو أحس فيها تغييرا وهي أحست فيه تغييرا ، ولكن كلاهما تجاهلا ما أحسا به ، كان يلتقيان في المدرسة ويتحدثان .. وفجأة قال لها : واجده .. قالت : نعم .. نظرت في عينيه مباشرة فرأت دموعا كأدت أن تهم بالنزول .. قالت : ما بك .. قال : أنا مطلوب للتجنيد .. فوجمت وأغمضت عينيها وقالت : وماذا في ذلك ... كنا نعرف أنك ستذهب إلى التجنيد .. قال : أنا سأكون هناك في أقصى الشمال ، وأنت هنا .. قالت : سأنتظرك .. قال : ستنتظري كثيرا وربما لآخر العمر .. ربما أموت في أحد المعارك ... أنا لست أنانيا .. عرفت من الأستاذة ماجده أن ابن خالك الذي يعمل بالخارجية طلبك للزواج أثناء الأجازة الماضية ، قالت : ولكنني لن أتزوجه .. أنا أحبك أنت .. قلت : وأنا أحبك أنت ولا أحدا غيرك ... ولن أحب غيرك .. من المؤكد سنحارب عدوا شرسا مدججا بالسلاح وستكون الخسائر فينا باهظة .. مانع مائي ربما يموت فيه مئة ألف ويزيد .. ومائة ألف مصاب أخرى على الأقل ، لن أنجو بأي حال من الموت أو الإصابة .. فالأقدار التي جمعتنا هي التي تفرقنا ، فأجهشت بالبكاء وأجهشت أنا الآخر بالبكاء ، كنت قد أسررت للزميل احمد مصطفي بما تلقيته من تأكيد عبر الهاتف من استدعائي للتجنيد وسيصل الخطاب غدا مع مخصوص ، وسأغادر المدرسة غدا إلى القاهرة بغير عودة نهائيا ، ووجدته يطرق علينا باب الفصل الذي التقينا فيه ، وسمع بكاءنا ودخل هو الآخر باكيا ، وبعد برهة تجمع خمسة وعشرون مدرسا وناظر المدرسة منهم من كان ساخطا مستنكرا أو ساخرا من حبنا أو شامتا ... بكى بعضهم وخاصة المدرسات ، وكلانا ممسكا بيد الآخر ، ولم نتمالك نفسينا وأحتضنا بعضنا لأول مرة ولأخر مرة وغبنا عن الوعي في قبلة طويلة وعميقة .. وانصرفنا كأننا كنا في مأتم .. بالفعل كان مأتما وعزاء لروحينا التي افترقتا بعد حلم ظل يتردد كأنه خيال ولم يكن في يوم ما حقيقة ..
أحمد الشافعي
القاهرة صباح 26 سبتمبر 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذكرى وفاة الشاعر أمل دنقل.. محطات فى حياة -أمير شعراء الرفض-


.. محمد محمود: فيلم «بنقدر ظروفك» له رسالة للمجتمع.. وأحمد الفي




.. الممثلة كايت بلانشيت تظهر بفستان يحمل ألوان العلم الفلسطيني


.. فريق الرئيس الأميركي السابق الانتخابي يعلن مقاضاة صناع فيلم




.. الممثلة الأسترالية كايت بلانشيت تظهر بفستان يتزين بألوان الع