الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- تسوّل - نص قصصي مفتوح - طالب عباس الظاهر

طالب عباس الظاهر

2013 / 9 / 29
الادب والفن


" تسـوّل"
(نص قصصي مفتوح)


أتسكع وأتسكع بحثاً عن سكون الاطمئنان، واستمر في التسكع بلا هدف إلا الهرب من ثورة الظنون، ومهادنة هياج حشود الأحزان، وتجنب لفح سياط الأوجاع المعشعشة بي، فأزداد توغلاً بليل ضياعي، وأُسافر في مديات المكان ... اللاحدود لها في أعماقي، فأشم رائحة الأمس اللذيذ ... العابق بالعزّ والطيبة والبركات... بلمّ شمل الأحبة في بستان باب الخان، والتحلق العائلي الحميم حول طبيخ مواقد الطين التي تعده أمي صالحة وأختي الكبيرة فضيلة أو جدتي جميلة وعمتي بدرية، والتجمع بجانب البئر العتيق في باحة الدار الترابية الفسيحة مع نزول أولى فلول الليل... بكنف النخلات الباسقات.
تعرفني الحدائق المهجورة ... حوانيت السند ويج ... ومحطة القطار الموحشة... الغافية بأحضان الصمت، يعرفني القطار الهرم الدائر أبداً في أفلاك الرحيل المفرغة... الحامل آلام غربته على أكتاف صبره الأيوبي عبر مدن الضباب لبلد المجهول ... حيث صقيع المنفى، وزمهرير غربة المشردين داخل الوطن .
عالم هادئ ... صاخب بالسكينة الأبدية ، وضاج بالذكريات، متى وبأي مكان أو أرض بكر سألتقيه، لا أعرف عنه سوى ما أرسم له من خيال، طويلاً ما حلمت به ، وراودته بهواجسي، لكنه سيبقى عصيّ على خيالاتي، فتهصرني أشواقي، ويعصرني حنيني الموجع للعود ثانية للنوم الأبدي في رحمه الوثير.
رغم إني لم أره... مع إني لم أفارقه، عالم اسطوري تكتنفه الأسرار والعجائب... لعله بلد حنين الروح قبل انسلاخها ودخولها الحياة... عالم ايهامي بأجوائه الممغنطة بالأحلام الوردية، بيد إني لن أجده بهذه البقاع ولا في تلك ... أزقة ضيقة تمطرني بوابل الذكريات... هنا خطىً بضّة، وهنالك كانت الضحكات البريئة لطفولتنا المحرومة... حلم خجول سيبقى مصلوباً بأقناء دراجة هوائية ثلاثية العجلات أو سيارة بلاستيكية بمقود دائري وكابح، أمنية صغيرة بملبس ومأكل ستظل معلقة على غصن شجرة الرمان العارية من الثمر والأوراق ... والواقفة بانحناء باتجاه النهر الصغير، أمان مؤجلة لم تتحقق ولن تتحقق، ورغبات وئدت قبل أن ترى نور الحياة .. ألا لعنة الله على الفقر.

أتسكع وأتسكع دونما نهاية ... شارع كسول يلفظني، أعمدة كهرباء متثائبة ... مصابيحها مطفأة، وربما ليس فيها مصابيح الآن ... فقد كنا نقرأ تحتها حتى الصباح تحضيراً لامتحانات البكلوريا ... تتوه عني خطواتي المشاكسة، تواصل الابتعاد عني... يغتالها الظلام، الليل يحتويني ، يغرس الخوف أسنانه الحادة بأديم ذاكرتي؛ فتفرّ فزعة أحلام طفولتي وصباي، آه... يا حزن ليلي ، بل يا ليل حزني الطويل، يا ليل يا أبتاه العظيم، يا لحناً أبداً لم ينسكب بنشيد، ونشيداً لا تلفظه الشفاه، وشفاه لم تجبل من الطين، يا مواسم غربة راحت تتجذر في رحم العمر.

أبتي الحبيب... هـأنذا أعود ثانية اليك من بعد طول الترحال، مهزوماً فيك، أحمل ضياعي ومأساتي التي لم أشكُها، بل لن يفهمها سواك ، وزئير جراحي سيظل يصرخ في عروقي، وسيبقى يئن بروحي الألم، ألمٌ لم ولن تستطيع أن تسميه التسميات... المستهزئ بالتسميات وباللغة ذاتها وبآلام العالم ... المثير بي الفرح أحياناً...!
هـأنذا أعود منكسراً كإبن ضال أتعبه الترحال، وأضناه الاغتراب، وأشقاه السفر، وراح يمزقه الحنين بحثاً عن ذاته، وعن أشياء وأشياء ليس يدركها... فرحماك يا أبتاه المقدس فقد استطالت دروب الخواء الى ما لانهاية في عيوني ، وامتد العدم في تسكعي المرير هذا، فآوتني الأرصفة المنسية في متاهة الطرقات، وضفاف النهر العتيق، فحتى الثعابين لها أوجارها إلا سليل الآلام هذا المدعو (أنا)...!
إني أحترق الآن بضوء القمر، وتتشرب جسدي مسامات التراب ، وأعود القهقرى بكينونتي نحو النشأة الأولى... نيران مفترسة تلتهم بقايا الهشيم في روحي المتهاملة كمصباح يحتضر.
رباه... أحس بجوع هائل للانعتاق من تخمة جسدي هذا.
خطواتي المشاكسة ذاتها تتركني من جديد أبحث عن أناي الضائعة مني، تنعطف في زقاق مظلم تسكنه الوحشة، لعلها ملّت انتظاري هي دائما تتصرف هكذا، وربما أنا مَن..................!!
فيعاود الجوع المتوحش الأكل بجوعي ... بضراوة أزلية لم أألفها، يفترسني فينسلخ جلدي عن عظامي لأغدو عارياً حدّ النخاع، ولا يكف الليل عن ابتلاع الوجود، والعبث بعُري روحي ونبش الألم.
ويتربص خفير الصمت بخطواتي اللاهثة، العالم يغفو الآن أو يموت ... لا أثر يبدو عليه لصحوة قريبة أو بعيدة ... ضوء أزرق ينبعث من شباك قرب السياج الخارجي ، شذا زهور، أغصان متدلية عليه تحمل ورداً أحمر يشع كالمصابيح، نافذة ضاحكة بوجه عبوس العالم، سرير نوم يبتسم بخفر الباكرات، شراشف بيضاء ناعمة كالثلج المكلل هامات الجبال... ثنايا دقيقة تطبع أثر اتصال جسدين عاريين، انغام كحفيف الغصون، ونحيب المطر، وتلاطم الأمواج بساحل صخري، كتاب ملقى على طاولة قريبة... يحيا انتظاره الدائم، صوت أسمعه يصرخ بي، يمسك بتلابيبي بعف أن أعود، كلا ...كلا ... سيذهب سدىً كل رجاء يا صوت الحكمة العتيقة، فقد ذقت طعم الحرية المطلقة فلن أعود الى القيود، كسرت أغلالي كيف أرجع الى الأغلال؟!
اتبعت طويلاً تعاليمك المتكلسة... الألم والضياع كل ما حصدت من وجودي في هذه الدنيا قبل الانفلات.
سأعبر نحو ضفة العالم الأخرى . ربما نهاية سبيلي قريبة، حقاً ما الذي يعنيه لي بداية الطريق أم نهايته؟! وقد اتحد كلاهما في كيان التدوير الذاتي للوجود. هذا العالم ليس سوى متسكع قذر يمضغ أعقاب سجائره ... يطيل النظر في قعر كؤوسه الفارغة بحثاً عن ثمالة تركسه أكثر... فأكثر.
ثورة عنيفة ... هياج هائل ، امواجي تلاطم أمواجي وعند الشاطئ ...تحت قدميه تتكسر كل الماني ... شيطان وملاك الأول يرقص والأخير يوغل في انكساره حتى آخر شظية في تدوير الآه...!
تضيع نقطة ارتكازنا ؛ فنسقط من القمة الى القاع ...الى القاع، لم نعود دائماً الى القاع ، لماذا لا نسقط الى القمة.
عيون الليل تراقب بحذر وتوجس تحركات جسدي المتخبط الخطا... المصطدم بالفراغ... الفراغ الممتلئ بالأشياء.
أخرج من مستنقع أزبال لتغوص قدماي في آخر لمياه آسنة... ترسم الأوحال خطاي اللاهثة على تراب الطريق، أتعثر بقنانٍ وعلب فارغة... بقايا عيشهم الرغيد وسبب من أسباب بؤسنا المستطيل دونما نهاية، اسقط على وجهي ... فأسمع استهزاء ملايين الكائنات الغريبة الرابضة في ذاتي وسخريتها ... المعلنة هزيمتي المنكرة، كي استسلم وأتوحد مع موجودات ذلك المكان شبه الميتة ، ويغلفني سكونها المطلق...!
أهرب مذعوراً نحو فسحة الضوء الوحيد ... أجسام سوداء ممددة في زوايا معتمة، عيون متربصة ... أفواه مفتوحة ، وآذان ترهف السمع كي تلتقط دقات الخوف الزائدة في القلوب الهلعة للهاربين.
علامة استفهام هائلة ترتسم على وجه الوجود.
حتام َ نظل مطاردين يسابقنا اللهاث؟!
كلاب سائبة تنام بهدوء ... هياكل عظمية ضخمة لأشجار هرمة كأصابع متضرعة الى السماء. الظلمة تمنحها شكلاً مرعباً، وتلقيها في امتدادات سائبة من جسد الليل .
كوخ بائس وسط قصور غناء ... ترف باذخ، فتشع دفئاً حتى الجدران وزجاج الشبابيك بينما يزدحم البرد في الدخول الى ذلك الكوخ الوحيد الغريب، دخان الموقد يقاوم باستسلام، وصراخ الوليد مازال منذ ساعات يقلق رقاد الملائكة جوار جسد أمه الفاقد الحركة تماماً وقد التحف بالموت بعد أن وهبه الحياة، وتركه دون حليب.
آه... يا صوت الصراصير الذي لا يهدأ طوال الليل، ونباح كلبنا الجائع، ضوء السراج لا يصمد حتى الصباح، ولن يجاهد الى ما نهاية؛ إن لسان اللهب الشاحب يغادر الآن قفص الأضلاع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي