الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد الماغوط .. وهاجس الخوف والضياع

فارس حميد أمانة

2013 / 10 / 2
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


رغم انني لا أميل لقصائد الشعر الحر النثرية فقد استوقفني ديوان " الفرح ليس مهنتي " للشاعر السوري محمد الماغوط الذي كتبت مقدمته زوجته الشاعرة سنية صالح .. لقد أهداني أحد أصدقائي الشعراء هذا الديوان وقلبته قليلا ثم وضعته جانبا .. ثم عدت اليه بعد بضعة أيام أقرأ بعضا من القصائد .. وفي المرة الثالثة قرأت جميع القصائد بالتتابع حيث شدني هاجس الضياع والخوف عند الماغوط ..
أعترف انني قليل القراءة بسبب المشاغل الكثيرة والوضع الصحي .. وأعترف أيضا انني لم أسمع باسم الشاعر الماغوط للأسباب التي ذكرتها فطفقت كعادتي أنقب عن سيرة حياة هذا الشاعر والأديب السوري الكبير الذي أبدع في الشعر الذي ترجمت بعض دواوينه للالمانية والفارسية والنرويجية والاسبانية والانكليزية .. وأبدع أيضا في مجال المسرحية الساخرة كمسرحية " كاسك يا وطن " التي مثلها الفنان الكوميدي دريد لحام الشهير بشخصية " غوار الطوشة " وكذلك أبدع في كتابة المسلسلات التلفزيونية وسيناريوهات الأفلام التلفزيونية والسينمائية والمقالات والنصوص .
ولد الشاعر في حماه عام 1934 لعائلة ترزح تحت الفقر من أب مارس عليه سلطته الأبوية التي تركت تأثيرها عليه بتمرده على كل رمز للسلطة سواء كان شخصا من العائلة أم رجال دين أم الدولة نفسها وقد قاده ذلك لاحقا الى التمرد على القافية والوزن في الشعر الحر فأصبح كما يعتبره البعض رائدا للقصيدة النثرية .. وقد قال مرة ان الشعر تدجنه القافية والوزن وهو يفضل ترك الشعر الحر حرا غير مقيد .. كان الماغوط بحق عفويا وفطريا بشعره .
وعندما كان عمره ثلاثة عشر عاما انتمى الى الحزب القومي المنافس العتيد لحزب البعث دون أن يقرأ مباديء الحزب .. وفي هذا الانتماء هروب للماغوط من التوحد والفقر وحاجته للانتماء الى جماعة .. ويعلق على ذلك الانتماء بقوله ساخرا ان مقر الحزب القومي هو الأقرب وبه مدفأة هو بأمس الحاجة لها .. وعند تكليفه مرة بجمع تبرعات جمع ما يكفي لشراء بنطال ثم هرب بالنقود .. سجن في بداية شبابه لفترات قصيرة متقطعة تركت آثارها الواضحة على حياته المستقبلية وعلى شعره أيضا كما سنرى ذلك لاحقا ..
هرب الماغوط بعد ذلك الى بيروت حيث تعرف على أدونيس والسياب والخال وغيرهم ثم نشر ديوان " حزن في ضوء القمر " عام 1955 ثم بعد ذلك بعام ديوان " غرفة بملايين الجدران " .. ثم عاد الى دمشق وبقي مطاردا فترة الستينيات حيث ساعده زملاؤه الشعراء على الاختباء في غرفة حقيرة بدمشق خلدها في مسرحية " العصفور الأحدب " حيث كان يضطر للانحناء عند التحرك لكون سقف الغرفة واطيء وكان واضحا ان العصفور يرمز بدلالة واضحة لحريته المفقودة ..نشر بعد ذلك أعمالا آخرى كديوان " الفرح ليس مهنتي " والعديد من المسرحيات و النصوص الأدبية للتلفزيون والسينما وغيرها .. تزوج من رفيقته وصديقته الشاعرة سنية صالح التي فارقت الحياة قبله بسنوات ..توفي الماغوط في ربيع عام 2006 عن عمر ناهز الثانية والسبعين وبعد رحلة طويلة مع السرطان .
كان الماغوط يشعر دوما بالضياع رغم وجوده في وطنه وسبب ذلك هو الملاحقات المستمرة من قبل السلطة في فترة كانت تعتبر أوج تألقه الشعري .. وقد أتخم ديوانه " الفرح ليس مهنتي " بقصائد البحث الدائم عن الأمان والحماية فكان الشعر منفذا وهروبا من حياة قاسية الى عالم يتفوق ويتميز به الشعراء وقد ترك السجن والاختباء من المطاردة أثرا واضحا في الكثير من قصائده المترعة بالخوف والغضب والبحث عن كل ما يحبه كالحرية والمرأة والأفق من خلف القضبان .. حيث كانت الرؤية من خلف القضبان تختلف عن رؤية انسان حر لنفس هذه المفردات.. نرى ذلك البحث الدائم واضحا في مطلع قصيدة " حلم " فالحرية عند الماغوط كالجدار بالنسبة للأعمى يكون مرشدا ودليلا أما الأمان والسلام فيبحث عنه في حضن امرأة لكن دون جدوى .. ولنقرأ المستهل :

" منذ ان خلق البرد
والابواب المغلقة
وانا أمد يدي كالأعمى
بحثا عن جدار
أو امرأة تأويني "

أما في قصيدة " اليتيم " فقد تجلى ذلك الضياع والحاجة للحماية بأروع الصور حين وصف مسافة السقوط من أريكته الى الأرض وحين حسد المسمار على حماية الخشب له وحين غبط الجثث الممزقة بالصحراء على اهتمام الغربان بها لقد تولد كل ذلك من أحساسه الشديد بتوحده وعريه أمام كل ذلك الجور والتسلط والقهر والاهمال والتهميش .. واسم القصيدة يرمز ليتمه وفقدانه حماية الأبوين .. ولنقرأ معا :

" أحسد المسمار
لأن هناك خشبا يضمه ويحميه ..
أغبط حتى الجثث الممزقة في الصحراء
لأن هناك غربانا ترفرف حولها وتنعق من أجلها
لقد اشتقت للتمسك بأي شيء
ولو بقضبان السجون
انني لست ضائعا فحسب
حتى لو هويت عن أريكتي في المقهى
لن أصل سطح الأرض بآلاف السنين "

سكن الخوف جسد وروح الماغوط عندما أغلقت خلفه بوابة الزنزانة لأول مرة فأصبح متوفزا مرتعشا عند كل كل رنة جرس باب أو هاتف وحتى آخر حياته .. حيث ان أبسط الحركات كعبث هواء في ستارة يولد عنده فزعا ورعبا واحساس الفريسة بالمطاردة ..وبعري يشبهه بعري البغي عند المداهمة وهو تعبير عن عري الشاعر المجازي من كل ما يحميه .. وقد جسد ذلك الخوف بأروع صورة في قصيدة " الوشم " ولنقرأ معا :

" أكتب في الظلام
حتى لم أعد أميز قلمي من بين أصابعي
كلما قرع باب أو تحركت ستارة
سترت أوراقي بيدي
كبغي ساعة المداهمة
من أورثني هذا الهلع
هذا الدم المذعور كالفهد الجبلي
ما ان أرى ورقة رسمية على عتبة
أو قبعة من فرجة باب
حتى تصطك عظامي ودموعي ببعضها
ويفر دمي مذعورا في كل اتجاه "
الخوف لدى الماغوط هو خوف دائم وقلق يومي ولنقرأ جانبا من قصيدة " الخوف " :
" أن أوثق ذات صباح
الى المغسلة أو عمود المدفأة
ليدرزني الرصاص
والفرشاة في فمي
أدخل الى المرحاض وأوراقي الثبوتية بيدي
أخرج من المقهى وأنا أتلفت يمنة ويسرة
حتى البرعم الصغير
يتلفت يمنة ويسرة قبل أن يتفتح "

الا ان الخوف يتفجر أحيانا غضبا وثورة ودعوة للتمرد على الضعف وهي دعوة لكل الخائفين من العرب.. كما في المقطع التالي من قصيدة " مسافر عربي في محطات الفضاء " :

" كل ما أريده هو الوصول
بأقصى سرعة الى السماء
لأضع السوط في قبضة اهخو
لعله يحرضنا على الثورة "
وكما في ختام قصيدة " الى بدر شاكر السياب " التي يسخر فيها من يأس السياب وعوقه ولنقرأ معا :
" فما الذي تريد أن تراه
كتبك تباع على الأرصفة
وعكازك أصبح بيد الوطن
أيها التعس في حياته وفي موته
قبرك البطيء كالسلحفاة
لن يبلغ الجنة أبدا
الجنة للعدائين وراكبي الدراجات "

بعد كل هذا وذاك يبقى الماغوط مثالا للشاعر المسكون بكل ارهاصات وتسلط مجتمعاتنا الشرقية ومثالا لتقوقع الشاعر تحت حماية الحروف والكلمات حيث لا تفوقا الا فيها ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الأوكراني: الغرب يخشى هزيمة روسيا


.. قوات الاحتلال تقتحم قرية دير أبو مشعل غرب رام الله بالضفة




.. استشهاد 10 أشخاص على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على مخيم ج


.. صحيفة فرنسية: إدخال المساعدات إلى غزة عبر الميناء العائم ذر




.. انقسامات في مجلس الحرب الإسرائيلي بسبب مستقبل غزة