الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سُباعيّة تمثيليّة الديمقراطيّة التمثيليّة (سلسلة مقالات) الحلقة الرابعة

حبيب يوسف الخوري

2013 / 10 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


إنّ "الديمقراطية التمثيلية"، والتي تسود في عالمنا اليوم، ليست خالصة كـ “الديكتاتورية" أو "الديمقراطية المباشرة". فهي ليست ديكتاتورية مباشرة أو ديمقراطية مباشرة، بل ديكتاتورية غير مباشرة في جوهرها وديمقراطية غير مباشرة في مظهرها، أو بكلمات أخرى ديكتاتورية بلباس ديمقراطي.

فـ "الديمقراطية التمثيلية" لا تتيح للمواطنين التصويت المباشر على القوانين والقرارات التي تحكم مجتمعهم بل تمنحهم حق انتخاب ممثلين ينوبون عنهم في التصويت على تلك القرارات والقوانين. ولهذا السبب بالتحديد فهي ديمقراطية مفتعلة وديكتاتورية مغلّفة. فاذا كان الرئيس الديكتاتوري يفرض نفسه على الناس فالرئيس المُنتَخَب يفرضه الناس على أنفسهم.

كانت عناصر وممارسات ديمقراطية تمثيلية قد برزت منذ بدايات الحضارة البشرية وذلك في بلاد الرافدين والهند ومملكة روما، وعلى نحو أنضج في جمهورية روما في أواخر القرن السادس ق.م.، واستمرّت في الإمبراطورية الرومانية. كما وظهرت ابّان بدايات الدولة الإسلامية. إلّا أنّ عناصر الديمقراطية التمثيلية بدأت عموماُ بالاضمحلال تدريجياُ كلّما توغّل التأريخ في اعماق القرون الوسطى، وثمّ بدأت بالظهور ثانية نحو نهايات تلك العصور المظلمة.

بدأ رواج فكرة نظام "الديمقراطيّة التمثيليّة" يتصاعد وسط القادة السياسيين بعد الثورة الرأسمالية الزراعية وبدرجة أعلى بعد الثورة الرأسمالية الصناعية، حيث برزت ضرورة "الديمقراطية التمثيلية" كنمط حكم أكثر ملائمة لطبيعة النظام الاقتصادي-الاجتماعي الرأسمالي من كلّ من نمطي "الديكتاتورية" و"الديمقراطية المباشرة".

كان الانتقال من الديكتاتورية في العصور الوسطى إلى "الديمقراطية التمثيلية" في ما يسمى بالمرحلة الحديثة، على مدى فترة امتدّت من أوائل القرن الـ 6 حتى أوائل القرن الـ 16، ترجمة سياسية للانتقال الاجتماعي-الاقتصادي من العبودية والإقطاعية إلى الرأسمالية التجارية والربويّة والزراعية ومن ثم الصناعية.

إنّ الإدارة المَلَكية الديكتاتورية الفوقية للاقتصاد كانت منسجمة مع الطبيعة الساكنة للأقطاع (المرتبط بالأرض الثابتة والمحدودة)، إلّا أنّها لم تكن ملائمة للحرية التي تتطلّبها الطبيعة الديناميكية لرأس المال في التحرك. ومن جهة أخرى، أدت حاجة الملوك للضرائب والوحدة الوطنية لبلدانهم إلى الرضوخ لمطاليب التجار بتمثيلهم في المجالس الاستشارية للملوك. فقام رجال الدين والاقطاعيون والتجار وأصحاب العقار بانتخاب ممثلين عنهم وعن مناطقهم لتمثيل مصالحهم في مجالس الشورى الملكية. واقتصر حق الانتخاب والتمثيل والتعيين على هؤلاء فقط لاستناده لمعيار الملكية العقارية والسلطة الدينية.

وثمّ بَدَء دور المجالس التمثيلية يتحول تدريجياً من الطبيعة الاستشارية نحو الطبيعة السلطوية، في فترة امتدّت من أوائل القرن الـ 16 حتى أواخر القرن الـ 19، ساحبة البساط من تحت العروش الملكية في بلدان متطورة مختلفة.

وتتوج ذلك بالثورة الإنكليزية (أول ثورة برجوازية في التاريخ)، فبعد حرب أهلية جرت الإطاحة بملك بريطانيا جارلس الأول واعدامه عام 1649 وإعلان الجمهورية البريطانية برئاسة كرومويل. وتلت ذلك عودة الملكية، وفيما بعد حدثت ما تدعى بـ "الثورة الإنكليزية المجيدة" التي شرّعت قانوناُ لا يسمح للملك أن يحكم بدون موافقة البرلمان. بيد أنّ الحكومة التمثيلية كانت ديمقراطية بإطار ضيّق جداُ لاقتصار حق الانتخاب على النخبة الغنيّة من المجتمع فقط. كما وسارت الثورات الفرنسية بنفس الاتجاه، ولحقتها تغييرات ديمقراطية مشابهة في بلدان أوروبية أخرى مروراً بثورتي شباط وأكتوبر الروسيّتين في 1917.


أصل "الديمقراطية التمثيلية" المعاصرة (المفتَعَلة)

وهكذا فبعد ديكتاتورية العصور المظلمة بدأت أنظمة حكم ديمقراطية تنتشر في العالم وخاصة في اوروبا منذ أواسط القرن الـ 19. وكانت تلك الأنظمة الديمقراطية من النمط التمثيلي (ديمقراطية برلمانية)، وقد ورثت مكانتها عملياً كاستمرار طبيعي لمجالس الشورى الملكية، وثمّ استلمت أو انتزعت السلطة لتقيم إمّا نظاماً جمهورياً أو ملكياً دستورياً، ومثّلت منتخبيها الّذين اقتصروا، كما ذكرنا، على أصحاب العقار والتجّار ورجال الدين والنبلاء. وبالرغم من انتشار تبنّي نظام الاقتراع العام في أواسط القرن الـ 19 ونحو بداية القرن الـ 20، ومساهمة الشغيلة في انتخاب أعضاء البرلمان، إلّا أنّ هؤلاء لم يعملوا لصالح الأغلبية التي انتخبتهم بل لصالح الرأسماليين الّذين رغم أنّهم شكّلوا الأقلية في المجتمع إلّا أنّهم امتلكوا رأس المال ووسائل الإنتاج وموّلوا الانتخابات والقوات المسلحة والاعلام.

أمّا جذور اعتماد نظام الاقتراع العام (أي شمول جميع بالغي سن الرشد في التصويت) فهي ليست أخلاقية كما يتصوّر البعض، بل اقتصادية ومرتبطة بطبيعة رأس المال الصناعي وتراكمه. فكان العالم قد شهد بدايات سيادة النظام الرأسمالي وذلك تطلّب بالضرورة نيل الشغيلة حريتهم الشخصية (أي تحوّلهم من عبيد وأقنان الى بروليتاريا أي عمّال غير مملوكين بل مأجورين). وترتّب على ذلك حصولهم على حقوق المواطنة وبالتالي حق الاقتراع. أمّا النساء فلم يشملهنّ ذلك الحق حتى القرن العشرين، وتحديداً بعد أن استوجب اقتصادياً انضمامهنّ إلى صفوف البروليتارية من جهة وبالتالي إلى صفوف أرباب العمل أيضاً، من جهة أخرى. وكان العالم قد شهد تجربة مبكّرة في تطبيق الاقتراع العام في جمهورية كورسيكا (1755-1769) وكذلك كومونة باريس (1871). أمّا على مستوى الدولة فتعتبر فنلندا (1906) رائدة في تشريع حق نظام الاقتراع العام الشامل لجميع الراشدين من رجال ونساء.

وهكذا، ومع انتشار نمط الإنتاج الرأسمالي، طرأت الحاجة لنظام حكم سياسي ملائم له. والظاهر في التأريخ أنّ "الديمقراطية التمثيلية" كانت النظام الأمثل لتلبية تلك الحاجة ولا تزال. وفي المرتبة الثانية جاءت الديكتاتورية، أمّا "الديمقراطية المباشرة" فلم ولا يُسمح بسيادتها.

أمّا في الولايات المتحدة الامريكية، التي ورثت فيما بعد قيادة العالم الرأسمالي من الإمبراطورية البريطانية، فكان شكل الانتقال نحو الديمقراطية التمثيلية مختلفاً نوعاً ما. فلم يحتوي تأريخها على مجالس شورى ملكية لترث منها "الديمقراطية التمثيلية" كما في أوروبا. وبعد استقلالها من بريطانيا العظمى وسيادة النمط الرأسمالي في اقتصادها والذي استوجب الحرية الشخصية للشغيلة وحق المواطنة وبالتالي حق الاقتراع (في البدء للرجال من البيض فقط) كان أمام قادتها السياسيين مهمة اختيار نمط الحكم الأمثل للمصالح الرأسمالية التي كانت تقود اقتصاد البلاد. والخيارات المطروحة أمامهم كانت إمّا "ديكتاتورية" أو "ديمقراطية تمثيلية" أو "ديمقراطية مباشرة". أمّا "الديكتاتورية" فلم تلائم ثقافة المزاحمة الحرة التي سادت في بدايات الرأسمالية. وبين "الديمقراطية التمثيلية" و "الديمقراطية المباشرة" اختار واضعو الدستور الامريكي "الديمقراطية التمثيلية". فأغلبية المؤهلين للانتخاب كانوا من الشغيلة وبالتالي تبني "الديمقراطية المباشرة" يجعل من نتائج التصويت المباشر على القوانين والقرارات عرضة لخطر تعارضها مع المصالح الرأسمالية.

ففضّل جيمس ماديسون (الرئيس الرابع للولايات المتحدة الامريكية، والمعروف بـ "أب الدستور" لدوره الفعّال في صياغة الدستور الامريكي) "الديمقراطية التمثيلية" على "الديمقراطية المباشرة" كونها تحمي مصالح الأقلية (ويعني حفنة الرأسماليين) من إرادة الأغلبية (ويعني الشغيلة). وكتب في مقالته "الفيدرالية رقم 10" (1787) فقال: "إنّ مصالح من يمتلك عقاراً تتميّز دوماً عن مصالح من لا يمتلكه. والحال نفسه ينطبق على الدائنين والمديونين. ففي الأمم المتحضرة تنمو بالضرورة مصالح عقارية وصناعية وتجارية ومالية والعديد من المصالح الاخرى الأقل شاناً، فتقسّم تلك الأمم الى طبقات مختلفة تدفعها مشاعر واَراء مختلفة. إنّ تنظيم هذه المصالح المختلفة يشكّل المهمة الرئيسية للتشريعات الحديثة... إذ يُمْكِن لمشاعر الأغلبية ومصالحها المشتركة أن تظهر للعيان، أمّا الطرف الأضعف (ويعني الأقلية) فلا يمكن التحقق من التضحيات التي يقدّمها".

ومع ذلك، فبالرغم من أنّ "الديمقراطية المباشرة" انعدمت على المستوى الفيدرالي إلّا أنّها تواجدت على مستوى الولايات الامريكية. ومن الرؤساء الامريكان الّذين أيّدوا "الديمقراطية المباشرة" (بشرط أن تكون مرؤوسة من قبل "الديمقراطية التمثيلية" الفيدرالية) كان ثيودور روزفلت، رئيس الولايات المتحدة (1901-1909) والذي ذكر في خطابه "ميثاق الديمقراطية" (1912): "إنّني أؤمن بالمبادرة والاستفتاء (وهما من أشكال الديمقراطية المباشرة) إلّا أنّه لا ينبغي استخدامهما لتحطيم الديمقراطية التمثيلية، بل لتصحيحها كلّما انحرفت". وبذلك يتشابه فلاديمير ايليتش لينين، أول قائد ورئيس لجمهورية روسيا السوفييتية الاتحادية الاشتراكية وثمّ الاتحاد السوفييتي (1917-1924)، مع روزفلت في تحديده للدور الرقابي للسوفييتات (المجالس الشعبية) على الحزب الشيوعي الذي يقودها، إلّا أنّه لا يتّسع لهذه المقالة الخوض في تفاصيل هذه القضية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تشاسيف يار-.. مدينة أوكرانية تدفع فاتورة سياسة الأرض المحرو


.. ناشط كويتي يوثق آثار تدمير الاحتلال الإسرائيلي مستشفى ناصر ب




.. مرسل الجزيرة: فشل المفاوضات بين إدارة معهد ماساتشوستس للتقني


.. الرئيس الكولومبي يعلن قطع بلاده العلاقات الدبلوماسية مع إسرا




.. فيديو: صور جوية تظهر مدى الدمار المرعب في تشاسيف يار بأوكران